(الصفحة 274)
في تغطية وقائع كربلاء والتعريف بشخص الإمام وفضح يزيد والحيلولة دون ضياع دم الإمام وسائر الشهداء .
خطبة زينب الكبرى :
لقد فهمت الاُمّة من خطبة زينب في الكوفة أنّ حكومة يزيد إنّما استهدفت القضاء على الإسلام ومحو آثار الرسالة ، وقد حال الحسين (عليه السلام) بدمه الشريف دون هذا الهدف ، فالحسين (عليه السلام) لم يمت ، فهو قتيل في سبيل الله
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(1) بل يزيد هو الذي قتل وقذف بنفسه في الهاوية ، فالإسلام باق ويزيد زائل .
وهذا هو المنطق الذي نهجه علي بن الحسين (عليه السلام) في مسجد الشام ، لـمّا سمع الأذان وأقرّ الشهادة الثانية بلحمه ودمه وجسمه وكلّ شيء في جسده ، ليثبت حياته من خلال حياة الرسالة والشهادة بالنبوّة لجدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولم يفلح يزيد في محوه للرسالة ، وعليه : فقد كانت حادثة كربلاء ـ منذ انعقاد نطفتها ومروراً بأحداثها وما أعقبها من سبي وأسر ـ عنصر فاعل يفيض حيويّة على الإسلام .
المنطق الغاشم :
طبعاً ، يمكن لمنطق القوّة ـ الذي يستند إلى القمع وكَمّ الأفواه والتلويح بالحديد والنار ـ أن يشيع الخوف والهلع والرعب والاضطراب كسحابة في سماء الاُمّة ، إلاّ أنّ فجر الحرية والعدالة إنّما يشقّ لا محالة عباب هذه السحب الزائفة ، فينهض حماة الدين ليحطّموا تلك القوى الفارغة .
وعوداً على بدء فإنّ المؤلّف قد ساء فهم وجود الإمام وعدمه ، فقد افترض
- (1) سورة آل عمران : الآية 169 .
(الصفحة 275)
أنّ الإمام لو كان حيّاً وأصبح زعيماً للمسلمين ودارت القيادة الإسلاميّة حول محوره ، لساد العدل والقسط ربوع العالم الإسلامي ، وبالتالي لتحقّقت حكومة العدل التي نتطلّع إلى تشكيلها من قِبل إمام العصر والزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، فتزول الفرقية الطارئة على الدين ولا تبقى إلاّ الطائفة الإمامية الحقّة التي تمثّل الدين ، وحين افترض فقدان الإمام وعدمه ظنّ بأنّ هذا العدم يتضمّن زوال كلّ شيء بما فيه الإسلام واستفحال الظلم والجور والطغيان اليزيدي!
وعليه : فيخلص من خلال الفرضين إلى أنّ شهادة الإمام قد أدّت إلى ضرر عظيم لحق بالإسلام العزيز . وهنا يكمن الخطأ الذي ارتكبه المؤلّف في إطلاق العنان لخياله في أن يسرح ويمرح كما يشاء .
لنفترض أنّ الحسين (عليه السلام) قد انتصر ـ عسكرياً ـ على يزيد وتولّى الحكم ، فهل ستسود الأحكام الإسلامية والتعاليم القرآنية حقّاً على جميع أنحاء المعمورة ، بحيث يشهد العالم الإسلامي المترامي الأطراف اندحار الجهل والاضطراب والظلم والفوضى وسيادة العدل والمواساة والمساواة والأمن والاستقرار و . . . ؟
لا نعتقد بأنّ الأمر كذلك . وبالطبع فإنّ هذا ليس بمتعذّر على الإمام الحسين (عليه السلام) في أن يملأ العالم بهذه المفاهيم السامية ، إلاّ أنّ هذا الأمل مشروط باندحار الأشقياء والجهّال والطغاة وإزالة كافّة العراقيل التي تعترض سبيل الإمام ، ولا نرى لحدّ الآن مَن تمكّن من مثل هؤلاء الزعماء من اجتثاث جذور الظلم والجور وإبادة صروح الجهل والحمق وتطهير المجتمع من دنس الأرذال والأوباش والأشقياء وإخضاعهم لمنطقهم وسلطنتهم .
فأيّ من أنبياء الله طبّق مثل هذه المفاهيم والأهداف؟ هل استطاع موسى (عليه السلام) بيده البيضاء وعصاه أن يخلق من بني إسرائيل مجتمعاً دينياً متطوّراً ويجتثّ جذور الوثنية والسامرية؟ فلم تجفّ أرجلهم من الماء حتّى طلبوا من موسى (عليه السلام) أن يجعل
(الصفحة 276)
لهم إلهاً كما كان للآخرين ، وفي نهاية الأمر يخبر القرآن عنهم بقوله:
{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْذِلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}(1) .
وهذا نبيّ الإسلام أعظم زعيم عرفه العالم الإنساني ، فرغم جهوده الجبّارة ونجاحه في نشر رسالة السماء في أنحاء العالم ، إلاّ أنّه لم يستطع أن يجعل الإسلام بكماله وتمامه هو الحاكم المطلق للعالم . هل استطاع نبيّ الإسلام إبّان حياته أن يضع الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) صراحة في مواقعهم؟ نعم ، بعد كلّ تلك المدّة من الزعامة والجهود المضنية في رفع مستوى الاُمّة وتعويدها على ممارسات الدين ومفاهيمه وربطها بعجلة الحضارة والرقيّ والتمدّن وإنقاذها من الجهل والوثنية والتعنّت والتعصّب والمنطق الغاشم لأمثال أبي سفيان وصنمية أمثال أبي جهل ، طرح أواخر حياته الشريفة قضية الغدير التي صرّحت بخلافة علي (عليه السلام) ، فأطلق ذلك الرجل الذي كان قربه ـ وقد تغذّى على مفاهيم الإسلام ـ عبارته المعروفة «إنّ الرجل ليهجر»(2)!
هل استطاع الإسلام آنذاك إجتثاث جذور اليهود؟ هل استقطب إليه النصارى؟ هل استطاع إفهام تلك البشارة الصريحة والميثاق الغليظ الذي اشتملت عليه التوراة والإنجيل بشأن نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله) ويجعلهم يذعنون لصحّة ما يقول؟ وهل استطاع النبي (صلى الله عليه وآله) أن يخضع كافّة تلك الحكومات الجبّارة لحكومته ويجعلها تنضوي تحت لواء الإسلام؟
وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ألم يتزعّم الاُمّة ويأخذ بزمام الاُمور؟ ألم تندفع إليه الجماهير وتضطرّه لقبول الخلافة؟ وعليه : فقد امتلك الجيش الجرّار والإمكانات وما من شأنه أن يجعل الحكومة تطبّق الأهداف القرآنية
- (1) سورة البقرة: الآية 61 .
- (2) مسند أحمد 1: 760 ح 3336 .
(الصفحة 277)
المقدّسة ، أمّا زعامته وعلمه بأوضاع العالم الإسلامي وشجاعته واقتداره وارتشافه من ثدي الوحي وتتلمّذه على يد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) فحدّث ولا حرج ، ولكن ألم تشهد هذه الزعامة منذ انبثاقها ذلك التمرّد والعصيان ، ولاسيّما من أولئك الذين لم يروق لهم عدل علي (عليه السلام) ، فرفعوا لواء المعارضة حتّى زجّوا بالإمام إلى ميادين القتال ، فكانت أوّلها معركة الجمل ، ألم يقل القرآن:
{وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ}(1) فهل قرّت عائشة في بيتها أم تزعّمت العسكر لقتال علي (عليه السلام) ، فخاطبها بكلّ حزن وأسى «أهكذا أمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟»(2) .
وأخيراً رأينا كيف امتدت زعامة معاوية واتّسعت رقعتها ومدى الدماء الزكيّة التي أُريقت من أجل تلك الزعامة .
والذي نريد أن نخلص إليه هو بطلان تصوّر الموفّقية والنجاح التامّ لأئـمّة الدين في الزعامة ، ولو تزعّم الحسين (عليه السلام) الأمر لعانى ما عانى منه من قبله من الزعماء الربّانيين .
سر عدم النجاح :
لا شكّ أنّ السرّ في عدم موفقيّة هؤلاء القادة هو أنّ الاُمّة ليست توّاقة جميعها للعدالة ، كما أنّ الأفكار هي الاُخرى ليست مطهّرة من الشوائب ، فسنّة الله لم تجر بأن تبقى البشرية على فطرتها ولا تتأثّر بعوامل الانحراف ، بل غالباً ما تسيطر الشهوات والأطماع والخرافات والجهل على العقول ، وهذه هي العناصر التي تهدّد الحكومات ، ولذلك ليس لقوانين السماء حكومة عادلة موفّقة تماماً من أجل بسط العدل والقسط ، فهي لا تستطيع أن تقطع دابر المخلّين بالأمن والاستقرار وتحول
- (1) سورة الأحزاب: الآية 33 .
- (2) المناقب للخوارزمي: 189، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 161 ، وعنه بحار الأنوار 32: 182 .
(الصفحة 278)
دون جهلهم وأنانيّتهم ، بل هذا هو حال الأكثرية دائماً ، القوانين السماوية تتضمّن كافّة مفاهيم العدل والكمال والجلال ، إلاّ أنّها لا تفرض مفاهيمها على الناس قسراً ، فهي تطرح مشاريعها على الناس
«وَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»(1)، ولا يلومنّ إلاّ نفسه .
إنّ هدف الأنبياء هو جمع الناس على الدين والعبادة التي تكفل الفلاح والسعادة ، إلاّ أنّ هذا الهدف لم يدخل حيّز التطبيق أبداً:
{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيِهمْ مِن رَسُول يَأْتِيهِمْ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}(2) .
فالدين الإسلامي الذي جاء لتكامل الإنسان إنّما يمتلك الجهاز القيادي الكامل الذي لا يألو جهداً في إشاعة مفاهيم القرآن ، إلاّ أنّهم وبدءاً برسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) إنّما اصطدموا بجمّ من الحوادث التي تعرقل مشاريعهم وأهدافهم ، وقد بلغت هذه الحوادث ذروتها حتّى صوّرها أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا»(3) .
وحين تدافعت الاُمّة لإمارته ، ولم يكن له بدّاً من قبولها رغم نفرته منها قال: «لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولاسغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها . . .»(4) ألم ينتصر المسلمون في ظلّ قائدته ، ويتّسع نور الإسلام في أطراف الدنيا؟ أو يمكن تصوّر تقاعس الإمام عن القيام بوظيفته في الزعامة؟ الواقع هو أنّ الدافع الذي كان يقف وراء رفض الإمام (عليه السلام) للزعامة هو علمه بهذه الصدور التي ملأت حقداً وغيضاً وطمعاً ، فما أكثر أمثال طلحة والزبير ومعاوية ، ولم تكن سيرة علي (عليه السلام)
- (1) اقتباس من سورة الكهف: الآية 29 .
- (2) سورة يس : الآية 30 .
- (3) نهج البلاغة : 83 .
- (4) نهج البلاغة : 90 .