(الصفحة 110)
أن يكون ذا قدرة بدنية وإحاطة بفنون الحرب والقتال ، فلم يكن طالوت على ضوء الآية أكثر من قائد للجيش .
للردّ على السؤال الأوّل نقول:
النقطة الأُولى : أنّ أُصول الأديان واحدة من حيث البنية العقائدية ، وليس هنالك من دين ناسخ لآخر من هذه الناحية ، فنسخ أُصول الدين ليس بمعقول ، ولمّا كان الكلام عن النسخ ، لا بأس ببحث هذه المسألة لتتضّح حقيقة الموضوع .
النسخ :
النسخ يعني إزالة الشيء واستبداله بآخر بحيث يحلّ الثاني بدل الأوّل ، فالعرب تقول: «نسخت الشمس الظلّ» و «نسخ الشيب الشباب»(1) .
وعليه فهناك أمران معتبران في مفهوم النسخ إلى جانب إزالة المنسوخ ، وهما:
1 ) اعتبار ما يحلّ محلّ المنسوخ .
2 ) اعتبار النقل والتبديل .
ويؤيّد ما ذهبنا إليه استعمال كلمة «المناسخة» في باب الإرث ، فكلّما مات وارث وحلّ محلّه وارث آخر ، أو مات هذا الثاني وحلّ مكانه ثالث استعملت لفظة المناسخة بهذا الشأن ، ونلاحظ هنا بأنّ وارثاً قد خلّف وارثاً آخر ، وقد حدث انتقال وتبديل في الإرث من يد إلى أُخرى . وقد عبّر القرآن بالتبديل عن نسخه بعض الأحكام والآيات ، فقد قالت الآية الشريفة:
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَر بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}(2) . فالآية الثانية تزيل الاُولى وتحلّ محلّها ، وهذا هو النسخ .
- (1) انظر التبيان في تفسير القرآن 1: 393، مجمع البيان 1: 300 .
- (2) سورة النحل : الآية 101 .
(الصفحة 111)
وعلى كلّ حال ، في القرآن الكريم آيات ناسخة لآيات أُخرى ، والآية المنسوخة باقية على حالها مدوّنة في القرآن ، والنسخ لا يعني إزالة صورتها من كونها آية ، فهي باقية ومحفوظة من حيث النزول ، ولكن لم يعدّ لها من أثر ، وفقدان الشيء لأثره يعني في الواقع زواله وتساوي وجوده وعدمه . . .
إذن ، فالنسخ لا يعني شيئاً أكثر من زوال الأثر . وبعبارة أوضح: فإنّ نسخ الآية هو عبارة عن إزالة حكمها واستبداله بحكم الآية الثانية «الناسخة» . ونخلص من هذا إلى أنّ نسخ الآيات إنّما يقتصر على الآيات المتعلّقة بالأحكام ، ولا يسري هذا النسخ أبداً إلى الآيات التي تتعرّض إلى الحقائق المسلّمة التي لا يعتريها التغيير . أفيمكن تصوّر النسخ بحقّ الآية الشريفة
{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ}؟ أو يمكن زوال الحقائق الثابتة والدائمة؟
ولمّا كانت الأديان واحدة في العقائد ، وقد نهض جميع الأنبياء بمهمّة هداية الاُمم لهذه العقائد ، فإنّه يمكننا القول بأنّه ليس هنالك من دين ينسخ آخر من حيث الاُصول العقائدية ، فالاعتقاد بالله والثواب والعقاب والحساب وصفات الجمال والكمال إنّما هي من الحقائق المسلّمة التي تأبى التغيير والزوال ، ولذلك فإنّ النسخ إنّما يكون في الشرائع .
وبعبارة أُخرى : لابدّ من الإذعان بأنّ الدين الإسلامي ليس بناسخ لنبوّة ورسالة من كان قبله من الأنبياء ، بل القرآن ناسخ لشرائع سائر الأنبياء ، فهذا القرآن لا ينفكّ يؤكّد أنّ الكتاب السماوي الإسلامي
{مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}(1)
{مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ}(2) .
{مُصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ}(3) .
{مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ}(4)
- (1) سورة البقرة : الآية 89 ، 101 .
- (2) سورة آل عمران : الآية 81 .
- (3) سورة الأنعام: الآية 92 .
- (4) سورة البقرة : الآية 41 ; سورة النساء : الآية 47 .
(الصفحة 112)
{مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} (1) ، و
{مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ . . .}(2) .
ولكن لا ينبغي أن نغفل عن قضية ، وهي أنّ كلّ ما يقوله موسى وعيسى (عليهما السلام) بالنسبة لله ، يقوله خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) ، فالجميع يصفون الله بأنّه حكيم وقدير وعليم وسميع ، غير أنّ أُسلوب الأنبياء يختلف في معرفة حقيقة كون الله حكيماً وسميعاً وعليماً و . . . لأنّ أتباع الرسل يختلفون في درجة الفهم والإدراك ، بل حتّى الأنبياء يختلفون في مدى إدراكهم لجميع المغيّبات
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض}(3) .
فالأُمّة الإسلامية قد بلغت آخر مراحل الفهم والإدراك ، ومن الطبيعي أن تكون الحقائق التي تطرح على هذه الأُمّة متعذّرة الفهم والإدراك على الاُمم الماضية ، وأنّ الحقائق والإدراكات والأنوار التي أفاضها الله على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لايسع سائر الأنبياء تحمّلها واستيعابها .
فالحقائق في كافّة الأديان واحدة ، غير أنّ طرق التعرّف عليها متشعّبة ، وكلّما تطوّرت العلوم والمعارف تعمّق هذا الفهم والإدراك بالنسبة للحقائق ، ولذلك يمكن القول بأنّ محمّد (صلى الله عليه وآله) قد سلك آخر مراحل التوحيد ، وللاُمّة الإسلامية فقط وبفضل التطوّر العلمي الذي تشهده أن تبلغ ما تشاء من الدرجات ، فقد فتح الإسلام الباب على مصراعيه أمام أتباعه ، ولا يسعنا هُنا أن نخوض أكثر في هذا المجال .
وعلى كلّ حال تتفق كافّة الأديان في أُصولها العقائدية ، وليس هناك من نسخ بهذا الخصوص .
والإمامة والزعامة جزء من أُصول الأديان ، حتّى أنّنا قلنا بأنّ الأنبياء إنّما
- (1) سورة البقرة : الآية 91 .
- (2) سورة المائدة : الآية 46 .
- (3) سورة البقرة : الآية 253 .
(الصفحة 113)
يحرزون مقام الإمامة بعد اجتيازهم لعدد من الاختبارات والتمحيصات .
وعليه : فالشرائط التي ينبغي توفّرها في الإمام إن كانت معتبرة في زعامة بني إسرائيل فهي بطريق أولى واجبة التطبيق في الإسلام .
بعبارة اُخرى: إذا كان طالوت ينبغي أن ينصّب من قِبل الله قائداً للجيش فقط ، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) الحاكم المطلق لعالم الإسلام يجب أن ينصّب أيضاً من جانب الله ويقوم بوظيفة الإمامة ، وإن كان شرط إمرة طالوت يتمثّل بالقدرة العلمية ، والخبرة بفنون الحرب والقتال والكفاءة والجدارة ، وحفظ استقلال بعض المناطق ، فلابدّ أن تتوفّر قمّة هذه الشرائط في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، ولا يمكن القول بأنّ الإسلام لا يلتفت لهذه الأُمور بدون اقتضاء ولا شرط ، وأنّ إمام المسلمين سواءً كان عالماً أم لم يكن ، كفوءاً أم ليس بكفوء وما إلى ذلك ليست قضية مهمّة من وجهة نظر الإسلام الذي يمثّل آخر مراحل السير التكاملي للبشرية .
وعليه : فقد اتّضحت النقطة الأُولى من الإجابة على السؤال الأوّل ، مع ذلك نواصل طرح النقطة الثانية ليتّضح الأمر أكثر .
النقطة الثانية :
يمكن تناول النقطة الثانية من زاويتين:
زاوية عمومية وتحقيقية بشأن قصص الأُمم المذكورة في القرآن الكريم ، والهدف من هذا البحث هو التحقيق بشأن علّة سرد قصص الأُمم السالفة في القرآن الكريم ، والوقوف على الهدف العقلائي والمراد الأساسي الذي أراده الكتاب السماوي من طرح هذه القصص .
والزاوية الثانية في دراسة القصّة التي نحن بصددها وقصة طالوت وبني
(الصفحة 114)
إسرائيل . وبالطبع فإنّ النتائج التي توصّلنا إليها في الزواية الأُولى تعتبر مفيدة للحصول على النتائج من الزاوية الثانية ، وكذلك في الإجابة على السؤال الأوّل . أمّا إذا أردنا أن نخوض بالتفصيل في العنوان الأوّل فإنّ ذلك سيبعدنا عن البحث الأصلي «شرائط الإمامة من وجهة نظر القرآن» ولذلك سنمرّ سريعاً على العنوان الأوّل .
العنوان الأوّل: قصص الأنبياء والاُمم الماضية:
لقد وردت قصص الأنبياء كثيراً في القرآن الكريم ، وقد تكرّر بعضها ، ولكن أصل القصّة لم يتكرّر في الحقيقة ، بل كان الاستنتاج متنوّع في نقل الحوادث في مختلف الموارد . ولابدّ من القول بأنّ تعليم الأُمّة الإسلامية كان من الأهداف الأصيلة البارزة في التعرّض لتأريخ الماضين ، تعليمهم السبل التي تؤدّي إلى السعادة والشقاء ، وإلفات النظر إلى ردود الفعل التي أبدتها الأُمم السالفة إزاء دعوة الأنبياء والنتائج التي ترتبت على كلّ ردّ فعل ، إلى جانب تنبيه الأُمّة الإسلامية إلى الاُصول الروحية وأُسلوب تفكير سائر الاُمم ، ولا سيّما أهل الكتاب وأوضاعهم الأخلاقية . فمثلا تعرّضت عدّة آيات من سورة البقرة إلى أوضاع أهل الكتاب ولاسيّما اليهود ، ليقف المسلمون على طبيعة أخلاقهم واُسلوب تفكيرهم ومدى العداء الذي يكنّونه للإسلام والقرآن ، فلا يتّخذونهم أولياء ويظهرون لهم المودّة أبداً ، بل يكونوا على حذر من هذه الأُمّة العنيدة والخطرة .
وعلى هذا فإنّ هناك تعليمات تجاه نوع من الأُصول المسلّمة التي تأبى التبدّل والتغيّر ، وإلاّ لو كانت مرنة يمكن أن تعتريها حالة التغيير ، لما كانت من قبيل الأُصول الكلّية التي ينبغي تعليمها الأُمّة الإسلامية; فهناك حقائق ذات دروس وعبر في هذه القصص التي من شأنها خلق الإنسان الفاضل ، فمثلا إذا واجهتنا