(الصفحة 8)السبب الأهمّ:
العنصر الأهمّ في قيمة الأشياء يكمن في نفس السلعة ، فالسلعة ليست بذات أهمية إذا كان تأرجح قيمتها على ضوء الحاجة فهي تحمل قيمتها معها ، وغلاء مثل هذه السلع إنّما يتوقّف على طلب الناس; ويعزى ذلك إلى خلوّ السلعة في حدّ ذاتها من القيمة المطلوبة .
فالذهب من السلع الثمينة ، وهو رصيد لسائر السلع ، وليس للطلب من تأثير يذكر في ارتفاع سعره . فقد يقلّ الطلب إلاّ أنّ سعره لا يهبط . والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لِمَ كان الذهب غالياً في جميع البلدان ولا يفقد قيمته؟ ويبدو أن علل الإجابة على هذا السؤال تحظى بأهمّية فائقة نوكلها إلى علماء الاقتصاد ، إلاّ أنّنا نخوض في بعض الأمور بهذا الشأن: فالذهب معدن قوي و مقاوم في مختلف الظروف ولا يفقد خصائصه إلى جانب جماله وجذّابية لونه ، فهو لا يتأثر بالماء وسائر العناصر المؤثّرة في خصائص المعادن ، وبريقه يخطف الأبصار وإن دفن لسنوات تحت التراب ، ولا يمكن مقارنته بالنحاس الذي يفقد صفاته إلى حدّ الصدأ إذا ما تعرّض لبعض الظروف المؤثرة كالرطوبة . وعليه يمكن القول بأ نّ غلاء هذا الفلز نابعاً من كونه نفيساً .
قيمة الشخص:
الإنسان كالذهب ولابدّ من تعيين قيمته من خلال الالتفات إلى ثمن هذا الفلز وسبب غلائه . وللإنسان شخصيتان; إحداهما فردية ، والأخرى اجتماعية . ويمكن تحديد شخصيته الفردية على غرار مثال الذهب فيقال: أي إنسان ذو قيمة؟ في حين لابدّ من استطلاع رأي الآخرين في تحديد شخصيته الاجتماعية ، والعنصر المهمّ في تعيين موقعه وقيمته إنّما يتأتّى من معطياته على مستوى المجتمع ، كما يكتسب المجتمع
(الصفحة 9)
قيمته العالمية من خلال موقعه . فالفرد القيّم من ذاع نبوغه ومجده في المجتمع ، وتوقّفت عجلة تنميته على خصائصه وامتيازاته .
وأمّا المجتمع القيّم فهو ذلك الذي يتمتّع بخصائص بارزة تميّزه في المجتمع الدولي ، والنظام الناجح للمجتمعات البشرية هو النظام الذي يتمتع بالزعامات التي يفرزها فكر ونضج ذلك المجتمع .
وقد التفتت الدنيا اليوم إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ البلدان إنّما تحتذي حذو الشعوب المقتدرة الحيّة في إعداد وبلورة شعوبها ، حيث يشكّل هذا الاحتذاء البنية التحتيّة لخلق المجتمع المطلوب .
إلاّ أنّ التحقيقات والدراسات التي قام بها علماء الاجتماع بشأن عناصر ظهور المجتمعات الناجحة أو الفاشلة تفيد أنّ الشعب الحي هو الشعب الذي يقود مسيرته الأفذاذ من الزعماء الحكماء والقادة النجباء يمسكون بمقدّراته ويتولّون ديمومته وحفظ حيويّته بفضل أفكارهم السامية وتطلّعاتهم النبيلة .
القرآن الكريم:
لقد قدّم القرآن الكريم ـ كتاب المسلمين ـ هذه الأطروحة العالمية العظيمة من أجل إرساء دعائم المجتمع الحيّ وحفظ سيادة المسلمين في الأسرة الدولية .
وقد عزا الكتاب الحكيم ظهور البلدان العامرة والمستقلة ذات الشعوب المقتدرة إلى وجود القادة الأكفّاء والثقة باللّه والانفتاح على الغيب . وقد لفت القرآن أنظار المسلمين إلى أطروحته المذكورة المتمثِّلة بالقادة الذين يتكفّلون بسعادة الأمّة في الدارين فقال:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الْرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنْكُمْ}(1) . كما أرشدنا إلى تحقّق الأمّة المنيعة التي ينظر إليها العالم بعين
- (1) سورة النساء: الآية 59 .
(الصفحة 10)
الإجلال والإكبار والتي تمتلك عناصر القوّة والفكر في ظلّ الزعامة الدينيّة الرشيدة فقال:
{فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً}(1) .
أهل البيت:
وبناءً على ما تقدّم فإنّ هناك صفوة من أهل بيت النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) تنهض من بعده بقيادة الأمّة وإيصالها إلى سعادتها وكما لها المنشود . هذه الصفوة الجليلة الحافظة للوحي والأمينة على العقيدة والناهضة بزمام أمور الإسلام ، هي أهل البيت وولاة الأمر الوارد ذكرهم في القرآن وأطروحة القرآن هي أنّ زعامة أهل البيت تخلق الأمّة المقتدرة والرشيدة التي تسود العالم; وذلك لأنّهم صفوة عالمة ، رشيدة ، زاهدة ، شجاعة ، كريمة ، مضحيّة ، عالمة بأسرار القرآن ، مستندة إلى الغيب ، ربيبة مدرسة النبوة والمصطفاة من قِبل اللّه ، فهم القادة الذين يتكفّلون بضمان سعادة الأمة ، وهم الزعماء المفعمون بحبّ اللّه; رحماء بالأمّة لا يكنّون لها سوى الرأفة والشفقة .
لقد نعتهم القرآن وأثنى عليهم بمختلف الصفات ، ومن هنا منحهم صفة الزعامة المطلقة: «أولي الأمر» . فهم وبلطف اللّه وعنايته منزّهون عن كلّ آفة روحية ، ذوو بصائر ثاقبة وصدور منشرحة وقلوب أوعية لعلم اللّه . هم مَن نسمّيهم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام).
- (1) سورة النساء: الآية 54 .
(الصفحة 11)طموحات المجتمعات:
تتطلّع المجتمعات الحيّة لمثل هؤلاء الزعماء في تحقيق أهدافها وسعادة شعوبها; لأنّها أيقنت بأنّ سعادتها مرهونة بوجود هؤلاء القادة البررة . وقد تفضّل البارئ سبحانه علينا بأن جعل الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) قادتنا إلى السعادة والفلاح . وهكذا يتبلور المجتمع الشيعي اليوم وبالاستناد إلى هؤلاء البررة بما يلفت انتباه العالم إلى رشده وازدهاره وتربيته الصائبة الناجحة .
مهمّتنا:
إنّنا إنّما نواجه حدودنا واعتبارنا الإنساني إذا ما قصّرنا في تخليد أئمّتنا والاعتزاز بهم ، فأنّى لهذه الطائفة الحقّة أن تبلغ الكمال والرقي ونيل الأهداف المقدسة إن غيّبت العدالة واندثر العلم وزال الورع والتقوى .
ولعلّ العدو الغاشم المتربّص ـ الذي يهمّ بشق عصا المسلمين و تجريدهم من عظمتهم ومجدهم ـ يرى أنّ أفضل سبيل يمكّنه من تحقيق أطماعه وسلب الأمّة هويتها إنّما يكمن فيما يوجّهه من ضربة قاصمة لزعامتها الربّانية ، الأمر الذي ينبغي أن يلتفت إليه المسلمون ويتأمّلوا ما يستنبطه من أفكار هدّامة لا تضمر سوى توجيه سهامها المسمومة نحو زعمائنا الربّانيّين الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) انطلاقاً من بعض المسمّيات الخلاّبة من قبيل الثقافة والانفتاح و حرية الفكر وما إلى ذلك من المفردات القلقة .
فأعداء الإسلام لا يتورّعون في التشبّث بكلّ الوسائل من أجل الوقوف بوجه عناصر القوّة والشخصيات التي يعتمدها القرآن الكريم ، فخوار عجل السامري ما زال يسترجع في حناجر الأجانب الطامعين .
وعليه فلاينبغي الانسياقوراء هذه الأطروحات الزائفة والأساليب العصرية التي لا تنوي سوى النيل من عظمة القرآن الكريم والقضاء على الإسلام العزيز .
(الصفحة 12)الدافع من تأليف الكتاب:
إنّ الدافع الذي يقف وراء تأليفنا لهذا الكتاب هو ما برز اليوم في أوساط المجتمع الإيراني الذي يهدف إلى استغفال الشباب من خلال ما يسمّى بـ «الانفتاح الفكري» و«الدين الميسَّر» المغلّفة بشعار «حسبنا كتاب اللّه» الذي يعني الإسلام من دون زعامة النبي (صلى الله عليه وآله) وهداية أهل بيته الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) هم القادة والزعماء الأدلاّء على الطريق ، فإن أصررتم على هذا الشعار كان عليكم الإقرار بزعامتهم على ضوء تأكيدات الكتاب ، فزعامتهم ومكانتهم لا تخرج عن إطار القرآن ألبتة .
لقدحاولناطرح المباحث العلميّة بأسلوب ميسّر ، ليتسنّى لنا الردّ على الأسئلة والاستفسارات التي تدور في الأذهان . وقد استندنا إلى القرآن الكريم في كلّ بحث ، أمّا التمسّك بأخبار أهل البيت في بعض الموارد فإنّما كان على سبيل تأييد ما ورد في القرآن ، في حين غضضنا الطرف عن مثل هذه الأخبار في إثبات إمامة الأئمّة (عليهم السلام) .
يشتمل الكتاب على أربعة أقسام ، يقتصر الهدف الأصلي للكتاب على الأقسام الثلاث الأولى منه ، بينما يتكفّل القسم الرابع ببحث علم سيّد الشهداء ومعطيات نهضته المباركة و . . . فهو ليس بأهمّية الأقسام الثلاث التي تتعرّض لقضية الإمامة من وجهة نظر القرآن . وبالطبع فإنّ بحث الإمامة ليس من الأبحاث الجديدة ، فقد ألّف كبار علماء الشيعة ومحدِّثيهم عدّة مؤلّفات بهذا الشأن من قبيل:
1 ـ كتاب الشافي للسيد المرتضى علم الهدى ، المتوفّى عام 436 .
2 ـ كتاب الألفين لآية اللّه جمال الدين العلاّمة الحلّي المؤلَّف تلبية لطلب ولده الجليل فخر المحقّقين المتوفّى عام 726 .
3 ـ إحقاق الحقّ للقاضي نور اللّه ، المتوفّى سنة 1019 .
4 ـ غاية المرام للسيّد هاشم البحراني ، المتوفّى سنة 1107 أو 1109 .
5 ـ الصراط المستقيم إلى مستحقّي التقديم لعلي بن يونس النباطي البياضي ،