(الصفحة 169)بحث مختصر حول آية قرآنية :
صرّحت آخر آية من سورة الحج قائلة:
{وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْوَمَاجَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}(1) .
فظاهر الآية يفيد أنّها خطاب لصفوة من زُعماء الدين ، ويؤيّد ذلك:
1 ) عبارة
{هَوَ اجْتَبَيكمْ} التي تدلّ على الاختيار والامتياز .
2 ) كلمة
{أَبِيكُمْ} لأ نّ إبراهيم هو أب الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) لا جميع المسلمين .
3 ) عبارة
{هَوَ سَمَّيكُمُ الْمُسْلِمِينَ} وذلك لأنّ إبراهيم سأل الله صفوة من ذرّيّته مسلمة منقادة لله ، وقد تناولنا ذلك مسبقاً خلال شرح الآية الكريمة
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسِلمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}(2) .
وبناءً على هذا فإنّ العبارة:
{لَيَكُونَ الْرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} خطاب لزعماء الدين ولا سيّما الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) ، مضافاً إلى أنّ «الشاهد» غير المدّعي والمنكر ، فالمنكر أو المدّعي هم «الناس» . وحقّاً لابدّ أن يكون الشاهد أُناساً آخرين عالمين بأعمال كافّة الناس ، وإذا تعاملنا مع كلمة «الناس» على ظهورها فإنّها تعني جميع العالمين ، فنستطيع القول بأنّه ليس هنالك عمل لأيّ فرد يخفى على زعماء الدين وأئـمّة المسلمين . وهكذا يتّضح ـ على ضوء هذا الاستدلال ـ قول الإمام الباقر (عليه السلام) : «ونحن الشُهداء على الناس» .
نعم ، فالأئمة الأطهار (عليهم السلام) هم الصفوة من وجهة نظر القرآن التي اُختيرت من أجل زعامة الأُمّة:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (3). قال سورة
- (1) سورة الحجّ: الآية 78 .
- (2) سورة البقرة: الآية 128 .
- (3) سورة فاطر: الآية 32.
(الصفحة 170)
بن كليب: قال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام) : «والله إنّا لخزّان الله في سمائه وأرضه ، لا على ذهب ولا على فضّة إلاّ على علمه»(1) .
تسند هذه الرواية المعتبرة ـ التي تؤيّدها عشرات الروايات ـ إلى أبي جعفر الذي أسماه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالباقر ; لأنّه يبقر علم الأوّلين والآخرين ، ونرى كيف أنّه يقسم ثمّ يؤكّد قسمه بحرف (إن) وحرف اللام: إنّا لخُزّان العلم! فهل علم الله محدود؟ وعليه : فعلم الأئـمّة (عليهم السلام) هو الآخر ليس بمحدود ، فلو قلنا: إنّ جميع الحوادث وما خلف الحُجب معلومة عند أئـمّة المسلمين ، لما كان ذلك جزافاً ، ولكن ينبغي التعامل مع هذا الأمر ببصيرة القلب للتعرّف على خاصة عباد الله .
لقد جعل الله الأئـمّة (عليهم السلام) أنواراً وطهّر قلوبهم وأرواحهم ، فهل من اجتماع بين الظلمة والنور؟ وهل لمن كان نوراً محضاً أن يكون جاهلا؟ نعم ، إنّما هم نور من ذلك النور ، ولذلك أوجب القرآن الاقتداء بشعاع هذا النور:
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْنُّورِ الَّذِى أَنْزَلْنَا}(2) .
لقد قال الإمام الباقر (عليه السلام) ـ طبقاً لرواية أبي خالد الكابلي ـ : «النور والله الأئـمّة من آل محمّد (صلى الله عليه وآله) إلى يوم القيامة ، وهم والله نور الله الذي أنزل ، وهم والله نور الله في السموات وفي الأرض ، والله يا أبا خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار ، وهم والله ينوّرون قلوب المؤمنين ، ويحجب الله ـ عزّوجلّ ـ نورهم عمّن يشاء فتظلم قلوبهم ، والله يا أبا خالد لا يحبّنا عبد ويتولاّنا حتّى يطهّر الله قلبه ، ولا يطهّر الله قلب عبد حتّى يسلّم لنا ويكون سلماً لنا ، فإذا كان سلماً لنا سلّمه الله من شديد الحساب وآمنه من فزع يوم القيامة الأكبر»(3) .
- (1) الكافي 1: 192 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) ولاة أمر الله ح2 .
- (2) سورة التغابن : الآية 8 .
- (3) الكافي 1: 194 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) نور الله عزّوجلّ ح1 .
(الصفحة 171)علل الزعامة :
لقد تعرّضت الرواية السابقة إلى الفصول المميّزة للإمامة في الإسلام ، كما أشارت إلى علل اتّباع زعامتهم وإمرتهم وأنّ زعامتهم نور إلى يوم القيامة ، فهم زعماء إلى الأبد ، والاُمّة تستضيء بنور علمهم على الدوام ، والزعيم من يستطيع التغلّب على المشاكل والصعوبات ويبعث الأمل في قلوب أفراد الاُمّة .
فمثل الذين ينكرون علم الإمام التام كمثل خفافيش الليل التي لا تطيق رؤية الشمس ، فليس للقلوب المدنّسة والنفوس المريضة أن تدرك شأن الإمام ، فمعرفة الإمام تتطلّب قلباً طاهراً ، ولا يطهر القلب إلاّ بتسليمه واستسلامه لهذه الزعامة ، والتسليم لهم لا يتمّ إلاّ من خلال الإقبال عليهم والاستفادة من أفكارهم العظيمة ونهجهم القويم ، الأمر الذي يبعث على سعة الصدر وانشراح القلب ، وهذا بدوره يميط عن الإنسان رذائل الأخلاق ويحلّ عقد الحياة ويبعث الأمل في النفوس .
ولا يرتجى من الزعيم سوى إيصال الأُمّة إلى كمالها المنشود وإزالة المشاكل عن طريقها ، وطالما كانت هذه الاُمور متوفّرة في الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) ، فهم قادة الدين وأئـمّة الخلق لا محالة .
وبناءً على هذا فإنّ الإمام الباقر (عليه السلام) وبذكره للعلل السابقة قد لفت الانتباه إلى ضرورة زعامة آل محمّد (صلى الله عليه وآله) . وهو ذات الأمر الذي قاله الإمام الصادق (عليه السلام) للمفضّل بن عمر: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) باب الله الذي لا يؤتى إلاّ منه ، وسبيله الذي من سلك بغيره هلك ، وكذلك يجري لأئـمة الهدى واحداً بعد واحد(1) .
- (1) الكافي 1: 196 باب أ نّ الأئمّة (عليهم السلام) هم أركان الأرض ح 1 . هذه الرواية ضعيفة السند ، غير أنّه هنالك عدّة روايات وردت بهذا المضمون فهي مؤيدة لهذه الرواية .
(الصفحة 172)وحدة الموضوع:
كان البحث بشأن الأخبار والآيات التي كشفت عن المرتبة العلمية للأئمة (عليهم السلام) ، وقد اتّضح لدينا خلال الأبحاث أنّ أئـمّة المسلمين هم الصفوة من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) الذين حظوا بلطف الله وعنايته ببصيرة ثاقبة جعلتهم يقفون على جميع أسرار القرآن وخفايا الحوادث ومكنونات قصص الماضين ومصير المسلمين ، وللوقوف أكثر على منزلتهم العلمية نتابع ما ورد في الخبر عن الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) أنّهما قالا: قال أمير ألمؤمنين (عليه السلام) : «علمتُ علم المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب ، فلم يفتني ما سبقني ، ولم يعزب عنّي ما غاب عنّي»(1) .
ولا تقتصر هذه المنزلة على علي (عليه السلام) ، بل هي لجميع الأئمّة (عليهم السلام) ، فقد قال الإمام الرضا (عليهم السلام) : «عندنا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ومولد الإسلام»(2) .
الذهول والدهشة!!
لعلّ مثل هذه الكلمات أثارت اضطراب البعض وجعلته يشعر بالدهشة والذهول ، ولا غرو ولا عجب!
إنّنا نرى العجائب في العالم ونشاهد الغرائب ، إلاّ أنّنا نمرّ مرّ الكِرام ، فنرى المرتاضين الذين جعلهم الارتياض يصيبون في بعض ما يتكهّنون ومن خلف الحجب والكواليس يتحدّثون ، أو نلتقي بعض الأفراد الورعين الذين يتحدّثون أحياناً عن أسرار حياتنا فلا نتعجّب ممّا يقولون . فقد فتحت بعض نوافذ العلم بوجه تلك الطائفة من المرتاضين إثر رياضتهم ولو كانت بالباطل . وهذه الطائفة من العارفين السالكين حصلوا على ذلك إثر اتّباعهم الحقّ وهجرهم الشهوات ، في
- (1) الكافي 1: 197 ـ 198 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) هم أركان الأرض ح 2 و 3 .
- (2) الكافي 1: 223 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) ورثوا علم النبيّ . . . ح1 .
(الصفحة 173)
حين تتلمذ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) في مدرسة الرسالة ، وقد نالوا الإخلاص في العبودية بدعوة إبراهيم (عليه السلام) ، ثمّ جدّوا في الورع والتقوى والتسليم والرضا والجهاد في الحقّ وطهارة المولد ، حتّى حظوا بعناية واهب العلم والعقل والنور ، فهم تلامذة الوحي ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة .
أفمن العجب أن تكون للأئمة مثل تلك الرؤية والبصيرة بحيث يرون جميع الأشياء ويحيطون بكافّة أسرار القرآن ومكنونات الخلقة ومصير المسلمين؟ فإن كان القرآن صرّح بأنّهم شُهداء على الناس ، فمن الطبيعي أن يفيض عليهم الرحمن بحارالعلم ومحيطات الحلم ويزوّدهم بالبصر والبصيرة ، بحيث لا يخفى عليهم شيء .
لقد ذهل عبدالله بن أبان الزيّات ـ الذي يتمتّع بمكانة خاصّة عند الإمام الرضا (عليه السلام) ـ حين قال له الإمام (عليه السلام) : «والله إنّ أعمالكم لتُعرض عليّ في كلّ يوم وليلة»(1) .
فلمّا أحسّ الإمام (عليه السلام) منه ذلك قال له: ألم تقرأ الآية
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(2) . وهنا التفت ابن الزيّات ليدرك القيمة الحقيقية للإمام ، وأن ليس هناك ما يدعو إلى الدهشة والعجب في أن يفيض الله على عالم الوجود بمثل هؤلاء العِباد فيلبسهم من حلل الكرامة والعلم ، والقرآن يقود إلى هذه الحقيقة . وقد ورد عن أمير المؤمنين ، وعلي بن الحسين زين العابدين ، وجعفر بن محمّد الصادق (عليهم السلام) ، أنّهم قالوا: نحن شجرة النبوّة ، وبيت الرحمة ، ومفاتيح الحكمة ، ومعدن العلم ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وموضع سرّ الله(3) .
- (1) الكافي 1: 219 باب عرض الأعمال على النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) ح4 .
- (2) سورة التوبة : الآية 105 .
- (3) الكافي 1: 221 باب أنّ الأئمّة (عليهم السلام) معدن العلم وشجرة النبوّة ح 1 ـ 3 .