(الصفحة 236)
بل يستفاد من رواياتنا وكذلك تأريخ الطبري(1) أنّه أحرم للعمرة ، ولم يكن قد عزم على الحجّ منذ البداية .
أجل ، فإنّ هذا الكلام يفيد عدم الترديد في خطبة «خطّ الموت . . .» حسب نقل اللهوف .
المؤلّف والإقرار بالعلم :
نفترض ـ مماشاة للمؤلّف ـ أنّ هناك تقطيعاً في الخطبة وأنّ الإمام (عليه السلام) لم يورد «من كان باذلا فينا مهجته» في مكّة ، إلاّ أنّه يتّفق معنا في أنّ هذه العبارة «وكأنّي بأوصالي . . .» قد أوردها في مكّة ، وهنا نسأل المؤلّف: أو لا تدلّ هذه العبارة على شهادة الإمام في هذه الحركة؟ أو لا تكشف أيضاً عن موضع الشهادة؟ هل هناك
- (1) 1 ـ جاء في كتاب وسائل الشيعة ج14 ص 310 عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حمّاد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه سُئل عن رجل خرج في أشهر الحجّ معتمراً ثمّ خرج إلى بلاده ، قال: لا بأس ، وإن حجّ من عامه ذلك وأفرد الحجّ فليس عليه دم ، وإنّ الحسين بن عليّ (عليهما السلام) خرج يوم التروية إلى العراق وكان معتمراً .
- 2 ـ وعنه، عن أبيه ، عن إسماعيل بن مرار ، عن يونس ، عن معاوية بن عمّار ، قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : من أين افترق المتمتّع والمعتمر؟ فقال: إنّ المتمتّع مرتبط بالحجّ ، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء وقد اعتمر الحسين (عليه السلام) في ذي الحجّة ثمّ راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى ، ولابأس بالعمرة في ذي الحجّة لمن لا يريد الحجّ .
- 3 ـ في تاريخ الطبري 4: 289 أنّه وروى أبو مخنف أنّ الحسين (عليه السلام) طاف عند الظهر بالبيت وبين الصفا والمروة وقصّ من شعره وحلّ من عمرته، ثم توجّه نحو الكوفة .
- نعم ، يشمّ من عبارة المفيد في الإرشاد 2: 67 ، أنّ الحسين (عليه السلام) أحرم للحجّ ثمّ أبدلها للعمرة ، ولكن لا اعتبار لهذه الرواية أمام الروايات المذكورة ، فإحرام الإمام (عليه السلام) كان للعمرة ولم يبدأ بمناسك الحجّ ، وقد حصل مراد الإمام (عليه السلام) ، لأنّ عدم الاشتراك في مراسم الحجّ لمن أقام أشهراً في مكّة ولا تستغرق المناسك سوى بضعة أيّام يفيد إبرازه لموقفه حيال الجهاز الحاكم وفضح سياسة يزيد القائمة على أساس انتهاك الحرمات وسلب الحرم الإلهي أمنه ، فأفهم (عليه السلام) الاُمّة أنّ يزيد وبدلاً من إحياء شعائر الله وتعظيمها يهدف ترويع ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مركز التوحيد لا لذنب سوى اتّباعه للحقّ والقرآن .
(الصفحة 237)
من معنى لأن يقول الإمام في عاشوراء: «كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء؟!» أو ليست العبارة تكهّن ونبوءة عن أمر خفيّ سيحدث قريباً بين النواويس وكربلاء؟
وهنا نسأل: أو لا تدلّ هذه العبارة على علم الإمام (عليه السلام) ؟ لو كانت هذه الحادثة ستقع بعد عشر سنوات فهل يصحّ من الإمام أن يطلق الآن في حركته عبارة «كأنّي بأوصالي . . .»؟ بل هل يعقل إطلاق مثل هذه العبارة في هذا الوقت؟
إذا كان الأمر كذلك فإنّ لسان حال الإمام هو أنّي سأتّجه إلى الكوفة من أجل الإطاحة بحكومة يزيد ، ولا أدري هل سأحقّق هذا الهدف أم لا ؟، إلاّ أنّي أرجو النصر ، أيّها الناس ـ الذين تهبّون لنصرتي ـ اعلموا بأنّي سأُقتل بعد عشر سنوات في كربلاء .
نحن لا يسعنا أن نتأمّل خطبة الإمام (عليه السلام) بهذا الشكل ، فكيف تقيّم أنت الخطبة؟ على كلّ حال ; فإنّ خطبة «خُطّ الموت . . .» قد أوردت في مكّة ، وقد صرّحت بذلك رواية اللهوف الموثوقة ، وأنّ الإمام قد قال في مكّة: «وكأنّي بأوصالي . . .» التي تفيد علم الإمام التامّ بحادثة كربلاء ، والسلام على من اتّبع الهدى .
6 ـ قال المُفيد في الإرشاد : «روى سفيان بن عيينة ، عن عليّ بن يزيد، عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) قال: خرجنا مع الحسين (عليه السلام) فما نزل منزلا ولا ارتحل منه إلاّ ذكر يحيى بن زكريا وقتله ، وقال يوماً: ومن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا أُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل»(1) .
فالرواية تكشف عن حرارة مستعرة داخل الإمام قد ملأت قلبه الشريف حزناً وألماً حين يصوّر قتل يحيى ، كما ألّمت هذه الكلمات قلب ولده علي بن
- (1) الإرشاد للمفيد 2: 132 .
(الصفحة 238)
الحسين . كان الإمام عالماً بمصيره ناعياً نفسه في هذه الحركة ، ولكن كيف له بالتصريح علناً وعلي بن الحسين وزينب الكبرى يسمعان ما يقول؟ وما عساه أن يفعل والحادثة وشيكة الوقوع .
فالإمام (عليه السلام) يرى ميدان كربلاء وقد أحاط به جيش عبيدالله بن زياد وهم متعطّشون للارتواء من دمه الطاهر ، كما يرى سهام الغدر التي ستصوّب إلى نحر ولده الرضيع وسائر الفتية الذين يضرّجون عمّا قريب بدمائهم ، بل يرى حوافر الخيل التي ترضّ صدره ثمّ يحزّ رأسه ويُهدى من العراق إلى الشام إلى باغ من بُغاة بني اُمية .
ليت شعري ماذا عسى الإمام أن يفعل ، فإن أماط اللثام وصوّر الأحداث تعالت الأصوات بالنحيب والبُكاء الذي يرقّ له قلبه ، وإن فضّل السكوت فلا مناص من حركة تلك القافلة التي ستُواجه تلك الأحداث المروّعة دون أن تكون قد تصوّرتها وتأهّبت لها ، ولم يكن من اُسلوب يمكن اتّباعه بهذا الشأن سوى ذلك الذي اعتمده الإمام ، فلم يكن أن تسير القافلة غافلة عمّا سيواجهها ، لابدّ من لفت انتباه القافلة لتلك الأحداث ليستعدّ البعض للقتال الذي تطيح دونه الرؤوس ، كما تتأهّب النساء للسبي والأسر . فكيف يبدأ وماذا يقول؟ ليس هنالك أفضل من التذكير بحادثة النبيّ يحيى التي من شأنها علاج هذه المشكلة .
نعم ، بإمكان حادثة يحيى (عليه السلام) أن تكون الفصل الأوّل من قصّة حادثة الطفّ ، وهل نذكر تلك الحادثة جملة واحدة ونلفت النظر إلى تكرار حوادث التأريخ؟ كلاّ . فالقول مرّة واحدة قد لا يؤتي أُكله ولابدّ أن أثير تلك الحادثة في عدّة منازل ، ليعلم الركب ويستعدّ لتلقّي الأخبار المؤلمة التي سمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) فقد آن أوانها .
وهنا نتساءل لماذا لا يتحدّث هذا الزعيم الذي ينهض بمسؤولية إمرة الجيش
(الصفحة 239)
وقيادته من أجل تحقيق النصر ، عن معارك الإسلام والانتصارات الباهرة التي حققّها جدّه وأبوه في تلك المعارك ، لم لا يتحدّث عن معركة الجمل؟ لو كان يأمل بالنصر لكان من المناسب الحديث عن تلك المعارك لا عن حادثة يحيى! الإمام (عليه السلام) يمثّل قمّة الأدب والبلاغة ، وعليه أن يتكلّم بما ينسجم ومقتضى الحال ، لو كان هناك من أمل بالغلبة والنصر ; فإنّ مقتضى الحال يتطلّب من الإمام التحدّث عن قضية أبناء الطلقاء عند فتح مكّة وكسر شوكة أبي سفيان ، ليشتدّ عزم الأصحاب في خوض المعركة ، فيزيد ابن ذلك المدحور المهزوم في معارك الإسلام . إذن ، فإثارة الإمام لحادثة يحيى تفيد شيئاً آخر يجعل الحسين (عليه السلام) يحثّ الخُطى لاستقباله .
نعم ، هذه هي الطريقة التي تجعل سيد الشُهداء (عليه السلام) يحطّم حاجز الصمت ويخرج من تلك الحيرة العظيمة ، ولذلك يتكلّم خلال المسيرة عن الموت والشهادة إلى صحبه ، ثمّ أخذ الإمام يخوض في التفاصيل أكثر فأكثر كلّما اقترب من أرض كربلاء . فقد نقل مثلا رؤياه إلى ولده عليّ بن الحسين وهو يسترجع كثيراً ، ثمّ أخبره بأنّه سمع منادياً ينادي «القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم»(1) . ونرى أنّ الإمام إنّما يهدف من هذه الكلمات إلى إعداد صحبه ولاسيّما أهل بيته إلى ما سيواجههم من حوادث ، ولذلك يردّ عليه «لا نبالي نموت محقّين» (2).
نعم ، كان الإمام (عليه السلام) يعلن عن هذه الأحداث رغم أنّ المسافة كانت بعيدة نسبياً عن يوم عاشوراء وأرض كربلاء . على كلّ حال أدرك الجميع أنّه آن الأوان لتلك الروايات والأحاديث والأخبار التي صرّح بها النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) .
ثمّ تحدّث الإمام عن الموت أيضاً حين التقى الحرّ بن يزيد ـ طبق نقل الطبري
- (1 ، 2) تاريخ الطبري 4: 308 .
(الصفحة 240)
في ذي حُسم وعذيب الهجانات بعد وصول رسالة عبيدالله إلى الحر (1). وتأكيده على التضييق على الحسين حسب نقل اللهوف . فقال: «فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما»(2) .
نعم كان محور الكلام هو الموت ، فقد قال في مكّة: «كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات» ويتكلّم خلال مسيرته عن شهادة يحيى بن زكريا ، ويمرّ بقصر بني مقاتل فيخبر ولده عليّاً برؤياه وحديثه عن الشهادة . ويواصل حديثه عن الشهادة في عذيب الهجانات وذي حُسم . فلمّا دخل كربلاء أخبرهم عن مصارعهم وقال: «هاهنا والله محطّ رحالنا ومسفك دمائنا»(3) .
وليت شعري لماذا يصرّ البعض على أنّ ابن الأعثم الكاذب هو الذي نسبها إلى الحسين (عليه السلام) . وعلى فرض كذب ابن الأعثم ، فإن نسب إلى الإمام عبارة تؤيّدها جميع القرائن القطعية والشواهد ، فهل نصّ على أنّ الإمام لم يقلها حتّى ولو كانت قريبة من حادثة عاشوراء التي زعمتم بأنّ شهادته أصبحت فيها حتمية! .
أيّها المؤلّف العزيز ناشدتك الله أن تعيد النظر في ما أوردت ولا تفرّط بالحسين (عليه السلام) ، فليس لنا من عزّة وعظمة سوى في الحسين (عليه السلام) ، ليس لنا من سبيل لإيقاظ الاُمّة سوى الحسين (عليه السلام) ، كما ليست لنا من مجالس يمكنها النهوض بأهداف الإسلام سوى مجالس الحسين (عليه السلام) . فالعنصر المقتدر الذي من شأنه حشد الطاقات وصهرها في بوتقة واحدة وهو أبو الأحرار سيد الشهداء (عليه السلام) . ليس هناك من ملاذ لما نواجه من مخاطر وصعاب في حركتنا الإسلامية سوى مصائب الحسين (عليهما السلام) ، بل
- (1) تاريخ الطبري: 4 / 305 .
- (2) الملهوف لابن طاووس: 138 .
- (3) نفس المصدر: 139 .