(الصفحة 20)
الدليل الأوّل من القرآن
قال سبحانه في كتابه العزيز:
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ}(1) .
دراسة الآية الكريمة:
«الكلمة» أحياناً تطلق هذه اللفظة ويُراد بها المعنى ، كما تُطلق أحياناً أُخرى على الكلام «وكلمة بها كلام قد يؤم» ، وقد أطلقها القرآن الكريم على لسان آياته على نوع من الحقائق ، كما عبّر عن عيسى (عليه السلام) بأنّه كلمة
{إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}(2) .
فعيسى (عليه السلام) حقيقة قيّمة وإنسانية مدهشة عجيبة ، وأنّ اسم هذا الإنسان العجيب هو «عيسى بن مريم» .
إذن فالكلمة إشارة إلى تلك الحقيقة والحدّ الوجودي لعيسى ، واسم هذا
- (1) سورة البقرة: الآية 124 .
- (2) سورة آل عمران: الآية 45 .
(الصفحة 21)
الموجود أو الكلمة هو عيسى ، وتوكل التفاصيل إلى محلّها(1) .
«الابتلاء» الامتحان والتمحيص ، ولمّا كان أصله هو البلاء ، فكلّ تمحيص وامتحان اشتمل على البلاء والمصاعب كان ابتلاءً .
الهدف من الامتحان:
الهدف من الامتحان هو دراسة قوى الشخص الممتحن والوقوف على استعداداته بالنسبة للمادّة التي تخضع للامتحان ، فلو امتحن شخص في مسألة رياضية ، فإنّه يكون موفّقاً في الامتحان ويُكتب له النجاح إذا تمكّن من حلّ المسألة بصورة صائبة ، أمّا إذا عجز عن حلّها وفشل عن الإتيان بالإجابة الصحيحة ، إلاّ أنّه كتبها بخطّ واضح جميل فإنّ درجته في الامتحان صفر رغم أ نّه أجاد كتابتها بخطّ لطيف .
لقد محّص إبراهيم بعدّة حقائق مريرة وقد اجتازها بقوّة ، وقد خرج مرفوع الرأس أمام الحقّ المطلق في هذا الاختبار والتمحيص .
النبي إبراهيم والتمحيص :
1 ـ لقد محّص إبراهيم بالإنابة إلى الله والتوكّل على الحقّ والحقيقة والتوحيد ، فخرج من هذا التمحيص مطمئنّ القلب ذا يقين خالص; وعليه فإبراهيم كان رجلاً
- (1) اُنظر تفسير «كلام الحقّ» لآية الله الإشراقي .
(الصفحة 22)
موقناً وثابت الجنان منقاداً للحق مسلماً للذات الإلهية المقدّسة .
2 ـ إنّ إبراهيم كان يعتمد على علم جمّ في إثبات مفهوم التوحيد ووجود واهب الوجود بحيث بهت خصمه ولفّته الحيرة من منطق إبراهيم وأدلّته وبراهينه المحكمة .
3 ـ كانت شخصية إبراهيم لا تعرف للقومية والوطنية والقبلية من معنى في قبال الذوبان والفناء في الله والثبات على العقيدة .
4 ـ أبدى إبراهيم غاية الصبر والصمود والمقاومة من أجل عقيدته ودافع عنها مستميتاً .
5 ـ كان خلع حبّ الدنيا عن قلب إبراهيم ـ وعدم اغتراره بزبرجها ـ هيناً عليه في جنب طاعة الله والتسليم لأوامره .
6 ـ كشف إبراهيم عن مدى شجاعته وعمق شخصيته الذاتيّة في إطار مواجهته لطاغوت عصره نمرود .
7 ـ أثبت إبراهيم باستجابته لذبح ابنه مدى زهده في الدنيا وعشقه للجمال الإلهي المطلق ، وأنّه لا يملك لنفسه من خيرة تجاه أمر الله سوى الطاعة والتسليم ، وليس هناك من علاقة أسمى من العلاقة بالله والرغبة بامتثال أوامره ، وليس هنالك من أثر يمكنه الحدّ من هذه العلاقة حتّى رابطة الأب بابنه وإن كان وحيده ، فقد ملئ قلبه بحبّ الله ولم يدع فيه مثقال حبّة من خردل لحبّ غيره .
مواد التمحيص :
يتبيّن من النقاط آنفة الذكر أنّ المواد التي مُحّص فيها إبراهيم ، وقد اجتازها بنجاح هي عبارة عن: اليقين التامّ والإدراك الكامل للحقّ والحقيقة وخالق العالم ،
(الصفحة 23)
والصبر والاستقامة لإثبات وجود الله ، وامتلاكه الحجّة القاطعة والعلم الذي يدعو للحيرة والذهول ، والحلم والتضحية والزهد والتغاضي عن زخارف الدنيا وزبرجها ، والشجاعة والمروءة واحتمال الصعاب ، ومحاربة الأفكار الضالّة وعدم التأثّر بعواطف العوامّ إلى آخر ما هنالك .
أجل لقد مُحّص إبراهيم بهذه المواد وقد وفّق فيها جميعاً ، وهو نبيّ ، فلمّا مُحّص بهذا التمحيص وكُتب له النجاح والتوفيق جعله الله إماماً مُفترض الطاعة على الناس .
إذن:
فالإمامة لا تتوقّف على قوميّة الشخصية أو روابطها النسبية ، وهي ليست تفويضية ، كما أنّها ليست خاضعة لآراء الأمّة ووجهات نظرها من أجل تحديد مصير البلاد والإسلام ، ولا يمكن لرأي أفراد الأمّة أن يعيّن الزعامة على الأمّة على ضوء النظرة الإسلامية ، بل الإمامة في عرض النبوّة وتابعة للإرادة الإلهية وهي منصب ربّاني رفيع لا يشغله إلاّ من كان له علم كاف ودراية بالأحكام والتعاليم الإلهية وإشاعة روح التوحيد ، ليتسنّى له الردّ على الشبهات والإشكالات التي تثيرها سائر الأديان ضدّ الله والدين ، وتفنيد النظريات والفرضيات الجديدة التي تهدف إلى زعزعة أساس التوحيد .
وعلى هذا فلابدّ أن يكون عالماً بأفكار الناس وعقائدهم واُسلوب تفكيرهم ، إلى جانب وقوفه على العلوم التي من شأنها تهديد الدين الإسلامي الحنيف .
بل الإمام هو الشخص الذي لا تأخذه في الله لومة لائِم ولا يخشى القِتال من أجل الإسلام ، وألاّ يُكلّف سوى نفسه في هذا الشأن .
والإمام هو الشخص الذي لا تزحزحه الشدائد والويلات والمصائب المروّعة عن الاستقامة والثبات على الحقّ ، فهو مثال الصبر والحلم .
(الصفحة 24)
والإمام هو الشخص الذي ليس لزخارف الدنيا وزينتها من سبيل إلى روحه الآمنة ونفسه المطمئنّة .
والإمام هو الشخص المُستقيم والصامد المضحّي الذي ليس لأفكار العامّة وخرافاتها وانصياعها للأراجيف والأوهام أن تبعده عن الدفاع عن العقيدة ، ويعيش الاستقامة والصلابة تجاه العواطف الطائشة البعيدة عن التعقّل والمنطق .
وأخيراً فالإمام هو الشخص الذي يمتلك الشجاعة والإقدام الذي لا يدعه يصمت مقابل القوّة الجبّارة التي تناهض الله والحقّ ، بل تدفعه شجاعته لإحقاق الحقّ والإفصاح عن حقائق الدين .
ما مرّ معنا كان قبسات مقتضبة من شرائط الإمامة ، وسنخوض بصورة أكثر تفصيل في هذا الموضوع من خلال دراسة الآيات الأُخرى الواردة بهذا الشأن .