(الصفحة 41)
المطلقة ، وذلك لأنّ المطيع إنّما يجعل فكره وإرادته وعمله تحت تصرّف المُطاع ، وقد ذكرنا بأنّ علّة طاعة المُطاع بنحو مطلق هي كون المُطاع يمتلك علماً مطلقاً ، وبصيراً وذا دراية بكافّة سبل الهداية وطرق السعادة والفلاح ، وهو عارف بنمط الحياة التي يسودها الأمن والاستقرار والسكينة ، والتي لا تعرف القلق والاضطراب ، كما أنّه خبير بكلّ ما يؤدّي إلى السعادة والشقاوة ، وحيث تحكم الفطرة بضرورة التسليم لمثل هذا الفرد ، كان لابدّ من القول بأنّ الآية
{ أَطِيعُوا اللهَ } إنّما توجب على الناس الانقياد والتسليم إلى الله والرسول وولاة الأمر ، بالشكل الذي تكون فيه إرادة الناس تابعة إلى إرادة ذلك الفرد ، فلم تعد لهم من إرادة ، وهذا ما يمثّل منتهى الإدراك والعقل والدراية بحيث يكون الإنسان على هذا النوع من التسليم تجاه معلّميه من ذوي العلم والبصائر ليظفر بسعادته وفلاحه .
هذا هو المعنى الذي نفهمه من الآية الشريفة ، وهو نفس المعنى الذي يفيده حديث الثقلين ، لاسيّما بالالتفات إلى كلمة «التمسّك» الواردة في الحديث «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً : كتاب الله ، وعترتي . . .»(1) فالتمسّك يعني التسليم والانقياد للمتمسّك به ، فهي لا تفيد سوى الطاعة المطلقة للمُطاع التي صرّحت بها الآية الشريفة .
وأخيراً فإنّا نرى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد خلّف للمسلمين ثقلين: الأوّل هو القرآن الكريم الذي يُعتبر دستور الحكومة الإسلامية وركنها الركين وقائدها ، فإنّ الأئمّة الأطهار هم أساس الحكومة وزعماؤها وليس للأُمّة من سبيل سوى الانصياع لقيادتهم والانقياد لهم .
خلاصة التحقيقات:
على ضوء الرواية المنقولة عن ابن بابويه القمي فإنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد عيّن
- (1) بحار الأنوار 23: 104 ـ 205 ب 7.
(الصفحة 42)
ولاة الأمر ، وقد كان مفاد الرواية ـ التي وردت بشأن الآية القرآنية ـ
{ أَطِيعُوا اللَّهَ } ـ أنّ الأئمّة (عليهم السلام) هم اثنا عشر وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصبهم بوحي من الله ، أي أنّ الله هو الذي نصبهم وجعلهم أئمّة ، فما كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ أن أبلغ المسلمين الخبر .
كما اتّضح من «التحقيق الآخر في الآية الكريمة» أنّ وظيفة الأئمّة لا تقتصر على شرح وبيان الحلال والحرام ، بل هم زعماء الأُمّة وقادة البلاد ورؤساء الحكومة الإسلامية، وأنّ رسالتهم هي تطبيق التعاليم الإسلامية والأحكام القرآنية في العالم الإسلامي، والأُمّة مأمورة بطاعتهم ليتمكّنوا من إجراء الأحكام الإسلامية ويأخذوا بيد الأُمّة إلى شاطئ السعادة والفلاح ، كما أنّ زعامتهم أبدية خالدة ، كما ذكرنا بعض الروايات التي تؤيّد بل تشكّل الدليل القطعي على هذا المدّعى، وقلنا بأنّ طاعة الأئمّة لا تعني سوى آمريتهم وزعامتهم للحكومة الإسلامية ، كما فهمنا من رواية بريد العجلي عن الإمام الباقر (عليه السلام) بأنّ الأُمّة إذا أقرّت بمثل هذه الزعامة للأئمة ، كانت حصيلة هذه الزعامة بلاد واسعة ومستقلّة وحرّة قائمة على أساس العدل والقسط ، وقد ذكّر الإمام بأنّ شرط الحكومة الإسلامية العالمية والملك العظيم إنّما يكمن في زعامة الأئمّة الأطهار وحاكميتهم المطلقة .
كما ذكرنا بأنّ مفاد حديث الثقلين هو نفس مفاد آية الطاعة ، أي أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد جعل القرآن والعترة الركيزتين الأساسيتين لقيام الحكومة الإسلامية.
وبناءً على ما تقدّم فليست هناك من حاجة لأن نستعرض سائر الروايات لإثبات ماذا تعني ولاية الأمر؟ ومن هُم ولاة الأمر؟ وما هي وظيفة ولاة الأمر؟
إلاّ أنّنا نذكّر بقضية مهمّة أشرنا إليها سابقاً ، وهي أنّ شخصية الإمام ليست شخصية علمية شارحة ومفسّرة لأحكام القرآن الكريم والسُنّة فحسب ، بل
(الصفحة 43)
الإمامة مساوية للنبوّة ومن المناصب الإلهيّة ، أي أنّ الله سبحانه قد جعل صفوة من الناس بعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أئمّة الدين وجعل لهم الحكومة التي يصرفون شؤونها بالاستفادة من علومهم التي ورثوها عن النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يجعل الله الزعامة والإمامة الإسلامية إلاّ إلى الصفوة التي اتّصفت بالزهد والبصيرة والعصمة والشجاعة والمروءة والتضحية ، العالمة بأوضاع الأُمّة والتي ليس لعلمها حدود بالحوادث الواقعة ، ليبقى الدين خالداً أبدياً والأُمّة قويّة مستقلة سعيدة في دينها ودنياها ، كما أنّ بقاء دين الحقّ وشعور المسلمين بالحياة الحرّة الكريمة والاستقلال من شأنه أن يفجّر طاقاتها ويجعلها تعيش الحياة الهانئة وتسعى لنيل الحياة الأُخرويّة .
الإمام في رسالة سيّد الشهداء (عليه السلام)
أشار الإمام الحسين (عليه السلام) إلى مقام الإمام في رسالته التي بعثها ردّاً على رسائل أهل الكوفة الذين كتبوا إليه مطالبين بزعامته وتشكيل الحكومة الإسلاميّة تحت لوائه فقال (عليه السلام) : «فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحقّ ، الحابس نفسه على ذات الله والسلام»(1) ، فالرسالة تشير إلى لحاظين مهمّين بالنسبة للإمام:
اللحاظ الأوّل: ما هو مقام الإمام في الأُمّة؟ فالإمام ليس ذلك الفرد الذي يقبع في زاوية وينأى بنفسه بعيداً عن التدخّل في شؤون الأُمّة وتحقيق مصالح عامّة الناس ، بل لابدّ أن يكون الإمام هو الآخذ بزمام الاُمور وعلى رأس الحكومة ، وهو حاكمها المطلق الذي يسعى لاستيفاء حقوق الضُعفاء من الأقوياء .
- (1) الإرشاد لأبي عبدالله محمّدبن محمّدبن النعمان العكبري البغدادي ، المعروف بالشيخ المفيد (م413) . تحقيق مؤسسة آل البيت لتحقيق التراث ، مجلّدان . نشر وطباعة دار المفيد ج 2 ص 39.
(الصفحة 44)
اللحاظ الثاني: إنّ وظيفة الإمام في هذه الحكومة هي العمل بالقرآن وتطبيق أحكامه وتعاليمه ، فالقرآن لم ينزل لتقتصر الأُمّة على تلاوته ، وتحتكم في عملها ووظائفها للقوانين الوضعية التي يبتدعها بعض الأفراد بما لديهم من أفكار وآراء; الأفراد الذين لا يسعهم النظر إلى أبعد من الواقع الذي يعيشون فيه ويفتقرون للإحاطة التامّة بجميع المصالح والمفاسد ، فالمجتمع في ظلّ حكومة هؤلاء الأفراد يعيش في دوامة من القلق والاضطراب والفساد والانحراف ، فهي حكومة الأهواء والشهوات التي تحرق الأخضر واليابس من قيم الأُمّة .
أجل لابدّ أن يكون القرآن هو المنهج الذي تستمدّ منه القوانين في الدولة الإسلاميّة التي يتزعّمها الإمام ، فتكون وظيفته الانتصار للمظلوم وبسط القسط والعدل ، بحيث لا يطمع القوي في حيفه ولا ييأس الضعيف من عدله ، ولا ينبغي أن ينحرف الإمام قيد أنملة في إجرائه للقوانين الإسلامية التي تضمن العدل وتزيل الظلم والجور ، وأن يحبس نفسه لله ولا يرى سوى رضاه .
وبناءً على هذا لا ينبغي لأيّ عنصر سوى الحقّ أن يؤثّر على الإمام في بسطه للعدل والقسط ، من قبيل النسب والحصول على الجاه ، والقبلية والقومية ، وما إلى ذلك، وإلاّ فهو أسير بيد الشيطان، وليس لمثل هذا الفرد أهلية زعامة الإسلام والمسلمين.
هذه هي وظائف الإمام ، ولذلك قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حين ولي أمر الخلافة: «ليس أمري وأمركم واحداً ، إنّي اُريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم ، أيّها الناس أعينوني على أنفسكم ، وأيم الله لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ولأقودنّ الظالم بخزامته حتّى أورده منهل الحقّ»(1) .
فأمير المؤمنين إنّما يحكم من أجل الله ، وحكومته إجراء العدل والانتصار
- (1) نهج البلاغة / لمحمّد عبده : ص 306 .
(الصفحة 45)
للمظلوم من الظالم ، لا يرى سوى الله وليس للهوى من سبيل إليه .
وبناءً على ذلك فمن وجهة نظر أمير المؤمنين وولده السعيد الحسين الشهيد (عليهما السلام) أنّ الإمام هو ذلك الشخص الذي يهيّئ نفسه لقيادة المسلمين وزعامتهم ، وأنّ الإمام هو الشخص الذي يتربّع على كرسي الحكم ويكوّن حكومة اجتماعية فعّالة تستهدف تجسيد العدالة والوقوف إلى جنب المظلوم ، وتطبّق القرآن الكريم في المجالات المختلفة للحياة .
والإمام في تطبيقه لهذه البرامج يكون شخصيّة إنسانيّة متسامية ، لا يفكّر بغير الله تعالى ، ولا مجال للأهواء والشهوات في إدارة تلك الحكومة ، ولا يحكم إلاّ من أجل رضا الله تعالى .
وإذا لم يتّخذ القرآن الكريم برنامجاً لعمله ، لا لأجل تثبيت سلطته الشخصية ، التي تجد طريقها إلى قلوب الناس من خلال إشاعة العدل والتوحيد ، ومن خلال هذا الطريق يحاول أن يثبّت سلطته ويُحكم سيطرته ، بل تطبيق العدالة لأجل العدل وإصلاح البلاد وإعمار المدن ، وإيواء المظلومين والأخذ بحقّهم ، وإحياء آثار النبوّة ، وحفظ كتاب الله ، وأخيراً لإحياء اسم الله ودعوتهم إليه سبحانه وإقبالهم على الله تعالى بقلوب متيّمة بحبّ الذات الأقدس .
ولذلك يصف (عليه السلام) هدفه من الحكومة وزعامة المسلمين: «اللهمّ إنّك تعلم أ نّه لم يكن الذي فينا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنردّ المعالم من دينك ونظهر الصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطّلة من حدوك»(1) .
- (1) نهج البلاغة / لمحمّد عبدة : ص 300 .