(الصفحة 187)
الخطاب للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) والكتاب الذي أوحي إليه هو القرآن ، ثمّ شرعت الآية الثانية بقوله :
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} ، فالكتاب هو القرآن ، والتعريف إشارة إلى ذلك الكتاب العزيز ، ثمّ حرف عطف يفيد التراخي وظهور الثاني بعد الأوّل ، فالمعنى ثمّ أودعنا القرآن تلك الطائفة المصطفاة من العباد ، وبناءً على هذا فإنّ وارثي الكتاب وحافظي الوحي السماوي هم صفوة مختارة من عباد الله .
عباد ، أم صفوة مصطفاة من العباد ؟
هل أودع الكتاب صفوة مصطفاة من العباد ، أم كافّة العباد؟ بعبارة اُخرى: هل الكتاب إرث عامّ تتولّى جميع الأُمّة مسؤولية حفظه وتطبيق تعاليمه وأحكامه فهو وديعة عامّة ، أم تقتصر هذه الوظيفة والمسؤولية على صفوة خاصّة مصطفاة من بين خلّص العِباد؟ ما الذي نفهمه من قوله تعالى:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}؟ لا نشكّ أنّ هذه الوظيفة الخطيرة إنّما ينهض بها المصطفون ; لأنّ الآية تفيد نقل الكتاب إلى نخبة من العباد لا جميعهم .
مَنْ هُم المصطفون من العباد ؟
ذكرنا سابقاً أنّ
{الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} هم صفوة مختارة من بين العباد لإخلاصهم وتسليمهم وعبوديتهم المحضة لله وخلوّهم من كلّ عيب ونقص ، وقلنا في حينه: إنّ هذه الصفوة هم الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) . ولا يسعنا إلاّ أن نذكر دليلا واضحاً في إثبات هذا الأمر بغية طمأنة الآخرين .
الدليل الدامغ :
تبيّن ممّا أوردناه بشأن الآية 32 و33 من سورة آل عمران
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى
(الصفحة 188)
آدَمَ وَنُوحَاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} أ نّ الذي يكون على رأس سلسلة آل إبراهيم في آخر الزمان من التأريخ البشري هو الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ومن بعده الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) ، فالآية كاشفة عن الصفوة المختارة «المصطَفين» ولابدّ من القول على ضوء هذا المصداق:
{الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} أنّها لا تعني سوى أئـمّة الدين ، وأنّ هذه الآية هي المفسّرة والحاكمة علمياً على الآية التي نحن بصددها ، أي أنّها تفصح عن أنّ مصداق
{الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} هم الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) . وهنا لابدّ من التأكيد على أنّها خاصّة في الأئـمّة (عليهم السلام) فقط ; لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) وإن كان من ذرّية آل إبراهيم ، إلاّ أنّ الآية 30 قد حدّدت وضعه ، والآية اللاحقة تعيّن الصفوة المختارة بعد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) .
سؤال:
إذا كان الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) هم
{الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فما مناسبة اختتام الآية بقوله:
{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} أي أنّ بعض هؤلاء المصطفين ظلمة ، فهل يظلم الأئـمّة أنفسهم؟
جواب:
الضمير في «منهم» يعود إلى العباد لا إلى المصطفين ، ويؤيّده كلام المحقّق الطوسي في تفسيره للآية في إطار إثباته لرجوع الضمير «منهم» إلى العباد ، حيث قال: «لأنّ من اصطفاه الله لا يكون ظالماً لنفسه» (1)، إذن فهل من الممكن فرض كون المصطفين ظالمين لأنفسهم؟(2) .
- (1) تفسير التبيان 8: 394.
- (2) قد تبدو كلمة «عبادنا» واسعة تشمل كافّة عباد الحق تعالى ، إلاّ أنّ إضافة العباد إلى ضمير الجمع «نا» تفيد خصوصية معيّنة: «عبادنا» ، فلا يستبعد القول بأنّها طائفة واسعة من أهل الرسالة والتي تستوعب «أهل البيت» ، ومن ينكر ذلك فلا يسعه أن ينكر روايتين بل عدّة روايات بهذا الشأن . فمعنى الآية بتفسير الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) : أورثنا الكتاب صفوة من عبادنا من أهل البيت ، إلاّ أنّ أهل البيت على ثلاث طوائف: طائفة تظلم نفسها وهي التي تتجاهل نسبها وتقلّد نخبتها من هذه الطائفة ، فهذه لا تكون من الأئمّة الأطهار ، وطائفة معتدلة ، وثالثة سابقة بالخيرات هادية في حركتها وهي تلك النخبة .
- هذا هو المراد من الآية بالاستناد إلى الأحاديث المُعتبرة ، ولكن نظرة اُخرى إلى القرآن تفيد أنّ الآية الكريمة دراسة لجماعة واسعة باسم «عبادنا» وهم أهل البيت ، وأنّ الكتاب ورّث فيهم ، وهم على طائفتين: 1ـ النخبة 2ـ سائر الطائفة ، فالنخبة هُم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، وجميع بني هاشم هم سائر الطائفة ، فهم قد يظلمون أنفسهم ولكن ليس على الدوام والشاهد هو الآية اللاحقة {جَنَّاتُ عَدْن يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَب وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}
- وعلى فرض أنّ هذا الكلام خلاف ظاهر الآية وأنّ كلمة «عبادنا» تشمل جميع المسلمين ، لكن مع هذا الفرض وهو أنّ «المصطفين من عبادنا» ليس سوى أهل بيت الرسالة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، وقد لاحظتم شرح ذلك ، حيث كان الاستدلال مبتنياً على كلمة «المصطَفين من العباد» لا كلمة عبادنا .
(الصفحة 189)
إذن ، فالمقصود «بالعباد» جماعة أشمل وأوسع من أهل البيت ، لا المصطفين من أهل البيت ، ويؤيّد ذلك عدّة روايات .
وارث الكتاب الكريم :
أئـمّة الدين هم وارثو الكتاب ، وأئـمّة الإسلام هم صفوة العباد ، المبرّأون من كلّ عيب ونقص ودنس ، الذين خصّهم الله بعنايته ولطفه ، فأودعهم القرآن بأسراره ومكنوناته وخفيّاته ، إلى جانب تعليمهم من قبل ربيب الوحي النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، فهم يرون الحقائق كما يراها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقد أفاض عليهم نوره ، فهو معلّم أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي علّمه ألف باب من العلم ، فكان (عليه السلام) هو الأُذن الواعية التي لا يعزب عنها شيء حتّى قال فيه: «إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلاّ أنّك لست بنبيّ»(1) .
- (1) نهج البلاغة لمحمّد عبده : 437 .
(الصفحة 190)
الآية الأُخرى التي كشفت عن علم الإمام بالغيب هي:
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1) .
كيف يعلم الجميع ؟!
كيف يعلم جميع المسلمين بسيرة المنافقين أو خفايا بعض الناس؟ الله عالم الغيب والشهادة والذي يكشف الأعمال ويريها من يقوم بها فيضعها نصب أعينهم ، فالأعمال التي تصدر من الناس ـ وعلى ضوء ذيل الآية ـ لابدّ أن تكون الأعمال والأفعال الخفيّة ، إلاّ أنّنا نعلم أنّه لا يمكن للجميع الإطّلاع على هذه الخفايا ، وهنا لابدّ من القول بوجود عدّة معدودة من المؤمنين ـ مضافاً إلى الله ورسوله ـ تمتلك رؤية ثاقبة تجعلها تخترق الحُجب وتطّلع على الخفاء ، فلابدّ أن نعرف من هي هذه العدّة المعدودة من المؤمنين؟
قال المحقّق الطوسي في تفسيره التبيان: هؤلاء هم الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) ، وقد جاء في الخبر أنّ أعمال الاُمّة تعرض كلّ يوم اثنين وخميس على النبي (صلى الله عليه وآله) والأئـمّة (عليهم السلام) (2)، وهذا ما أشار إليه الإمام الرضا (عليه السلام) لابن الزيّات (3).
إذن ، فالآية الكريمة ترى للأئمة رؤية ثاقبة كالتي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والتي تمكّنهم من الإحاطة بالخفيات . وأدنى تأمّل في صدر الآية وذيلها يقود إلى أنّ تلك العدّة المعيّنة من المؤمنين عالمة بالغيب والشهادة أيضاً ، فقد ورد لفظ الجلالة في أوّل الآية دون قيد ثمّ أردف بالرسول ، وهؤلاء المؤمنين في طول لفظ الجلالة في الاطّلاع على
- (1) سورة التوبة: الآية 105 .
- (2) تفسير التبيان: 5 / 295 .
- (3) تقدّم في ص 173 .
(الصفحة 191)
خفايا الناس ، أمّا ذيل الآية فقد ورد لفظ الجلالة متّصفاً بعالم الغيب والشهادة ، وهذا العالم هو الله الذي ذكر في صدر الآية ، وعليه : فكما أنّ الله عالم الغيب فإنّ رسول الله وبعناية الحقّ سبحانه في طول هذه المزية الإلهية الذاتية ـ لأنّها وردت في طول الله في الآية ـ يتمتّع بإفاضة علم الغيب عليه ، وليست هنالك من الأعمال مايخفى عليه ، ثمّ كان المؤمنون في طول رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، الأئـمّة الأطهار الذين يطّلعون الخفاء بلطف الله فيقفون على أعمال العِباد ، والله أعلم .
الشواهد الحيّة !!!
هل يمكن أن نحصر علم الأئـمّة في دائرة أحكام وتعاليم القرآن رغم هذه الشواهد الحيّة والدلالات القرآنية بعلمهم المطلق وإحاطتهم بالخفايا والأسرار ، فلا نراهم أبعد شأناً من المجتهد الذي يستنبط الأحكام الشرعية من القرآن؟! أم لابدّ أن نذعن إلى سعة علمهم وإحاطتهم بكافّة الحوادث ; لأنّ الزمان والمكان ليس من شأنهما أن يكونا حجاباً يحول دون رؤيتهم لباطن الاُمور ، وهل يصعب على هؤلاء الزعماء الخالدين المطهّرين من الرجس والدنس والعلماء بالكتاب والشهداء على أعمال العباد وحفظة القرآن وأمناء الوحي ، أن يتكهّنوا بالحوادث والوقائع التي تهدّد بالخطر كيان الإسلام والمسلمين؟ وهل كان الإمام الحسين (عليه السلام) المظلوم الذي هبّ للدفاع عن الرسالة غافلا عمّا ستؤول إليه الاُمور في كربلاء ، ولم يكن يمتلك رؤية واضحة لحركته وانطلاقته التأريخية من المدينة إلى كربلاء! لا ننوي الإجابة على هذه الأسئلة ونترك ذلك للإخوة القرّاء الأعزّاء ، ليتحفونا بجوابهم على ضوء ما واكبناه من أحداث سابقة .
طرق الأئمّة (عليهم السلام) في الحصول على العلم :
لقد اتّضح من الأبحاث السابقة أنّ الإمام عالم بالغيب ، وأنّه يستمد علمه