(الصفحة 18)
أوكل الأمّة لنفسها وخوّلها انتخاب الإمام ، رغم وجود البعض من عبدة الأهواء وحبّ الجاه والرئاسة الذين لا يتورّعون عن اعتماد الحيلة والخداع من أجل الحكم والأخذ بزمام الأمور; وهذا لن يؤدّي بالتالي إلاّ إلى سيادة الظلمة والطُغاة الذين يتّخذون عباد الله خولاً وماله دولاً .
وعليه وبحكم العقل والمنطق فإنّ الله الذي أراد لدينه المُبين أن يكون الدين الخاتم والخالد إلى يوم القيامة ، والذي أسّس بُنيانه على أساس حكومة العدل والقِسط وبثّ العلم وإشاعة الحريات والحياة الخالدة والعيش الهنيء الذي تسوده المساواة والمواساة ، قد فرغ من تحديد تكليف المسلمين لمرحلة ما بعد رحيل النبي ، حذراً من الهرج والمرج والفوضى التي تخلّفها حكومة الطُغاة ، والتي تقود في خاتمة المطاف إلى زوال الدين .
وهذا ما دفع بالطائفة الحقّة لأن تؤمن بأنّ الولاية والإمامة منصب إلهي ربّاني كالنبوّة ، حيث أوجبها الله وحصرها في صفوة من أجل خلود الدين وبقاء كلمة التوحيد وسيادة حكومة العدل العالمي .
هذه خلاصة مقتضبة من حكم العقل الذي يرى ضرورة وجود الإمام بعد النبي من أجل زعامة الأمّة الإسلامية وإدارة شؤونها ، كما يدرك هذا العقل بأنّ الله سبحانه قد أودع هذا المنصب لمن لهم أهليّة القيام بمسؤوليته .
القرآن والإمامة:
ما يُفهم من القرآن الكريم أيضاً هو أنّ الإمامة منصب إلهي ، ولابدّ لنا من أجل توضيح هذا الأمر أن نستعرض النصوص القرآنية .
فالذي يفيده القرآن هو أنّ إمامة الاُمّة والولاية عليها إنّما تفوق النبوّة ، أي أنّ صلاحية الإمامة متوفّرة في النبي ، حيث إنّ مجابهته للأحداث والوقائع المريرة
(الصفحة 19)
جعلت مقام النبوّة أعظم ثقلا فأمدتّه بالأرضية الخصبة لممارسة منصب زعامة الاُمّة وإمامتها .
وعليه فلا ينبغي أن يسيء أحد فهم هذه القضية ليتصوّر بأنّنا نريد أن نقول: إنّ الإمام فوق النبي . كلاّ ، بل المقصود هو أنّ الإمامة فوق النبوّة وأنّ النبوّة قد تشتمل أحياناً على الإمامة .
ومن هنا يتّضح بأنّ كلّ نبي في نفس الوقت الذي يبلغ فيه مقام النبوّة ويخبر عن المغيّبات فهو إمام للأُمّة قد محّص بالبلاء ليكون جديراً بتولّي منصب الإمامة .
فالنتيجة التي نخلص إليها أنّ القرآن في الوقت الذي يُعتبر فيه الإمامة منصباً إلهياً ، يلفت الإنتباه إلى مزيّتها التي تفوق النبوّة ، والآن نتناول بالبحث ، الآيات القرآنية الواردة بهذا الخصوص:
(الصفحة 20)
الدليل الأوّل من القرآن
قال سبحانه في كتابه العزيز:
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ}(1) .
دراسة الآية الكريمة:
«الكلمة» أحياناً تطلق هذه اللفظة ويُراد بها المعنى ، كما تُطلق أحياناً أُخرى على الكلام «وكلمة بها كلام قد يؤم» ، وقد أطلقها القرآن الكريم على لسان آياته على نوع من الحقائق ، كما عبّر عن عيسى (عليه السلام) بأنّه كلمة
{إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}(2) .
فعيسى (عليه السلام) حقيقة قيّمة وإنسانية مدهشة عجيبة ، وأنّ اسم هذا الإنسان العجيب هو «عيسى بن مريم» .
إذن فالكلمة إشارة إلى تلك الحقيقة والحدّ الوجودي لعيسى ، واسم هذا
- (1) سورة البقرة: الآية 124 .
- (2) سورة آل عمران: الآية 45 .
(الصفحة 21)
الموجود أو الكلمة هو عيسى ، وتوكل التفاصيل إلى محلّها(1) .
«الابتلاء» الامتحان والتمحيص ، ولمّا كان أصله هو البلاء ، فكلّ تمحيص وامتحان اشتمل على البلاء والمصاعب كان ابتلاءً .
الهدف من الامتحان:
الهدف من الامتحان هو دراسة قوى الشخص الممتحن والوقوف على استعداداته بالنسبة للمادّة التي تخضع للامتحان ، فلو امتحن شخص في مسألة رياضية ، فإنّه يكون موفّقاً في الامتحان ويُكتب له النجاح إذا تمكّن من حلّ المسألة بصورة صائبة ، أمّا إذا عجز عن حلّها وفشل عن الإتيان بالإجابة الصحيحة ، إلاّ أنّه كتبها بخطّ واضح جميل فإنّ درجته في الامتحان صفر رغم أ نّه أجاد كتابتها بخطّ لطيف .
لقد محّص إبراهيم بعدّة حقائق مريرة وقد اجتازها بقوّة ، وقد خرج مرفوع الرأس أمام الحقّ المطلق في هذا الاختبار والتمحيص .
النبي إبراهيم والتمحيص :
1 ـ لقد محّص إبراهيم بالإنابة إلى الله والتوكّل على الحقّ والحقيقة والتوحيد ، فخرج من هذا التمحيص مطمئنّ القلب ذا يقين خالص; وعليه فإبراهيم كان رجلاً
- (1) اُنظر تفسير «كلام الحقّ» لآية الله الإشراقي .
(الصفحة 22)
موقناً وثابت الجنان منقاداً للحق مسلماً للذات الإلهية المقدّسة .
2 ـ إنّ إبراهيم كان يعتمد على علم جمّ في إثبات مفهوم التوحيد ووجود واهب الوجود بحيث بهت خصمه ولفّته الحيرة من منطق إبراهيم وأدلّته وبراهينه المحكمة .
3 ـ كانت شخصية إبراهيم لا تعرف للقومية والوطنية والقبلية من معنى في قبال الذوبان والفناء في الله والثبات على العقيدة .
4 ـ أبدى إبراهيم غاية الصبر والصمود والمقاومة من أجل عقيدته ودافع عنها مستميتاً .
5 ـ كان خلع حبّ الدنيا عن قلب إبراهيم ـ وعدم اغتراره بزبرجها ـ هيناً عليه في جنب طاعة الله والتسليم لأوامره .
6 ـ كشف إبراهيم عن مدى شجاعته وعمق شخصيته الذاتيّة في إطار مواجهته لطاغوت عصره نمرود .
7 ـ أثبت إبراهيم باستجابته لذبح ابنه مدى زهده في الدنيا وعشقه للجمال الإلهي المطلق ، وأنّه لا يملك لنفسه من خيرة تجاه أمر الله سوى الطاعة والتسليم ، وليس هناك من علاقة أسمى من العلاقة بالله والرغبة بامتثال أوامره ، وليس هنالك من أثر يمكنه الحدّ من هذه العلاقة حتّى رابطة الأب بابنه وإن كان وحيده ، فقد ملئ قلبه بحبّ الله ولم يدع فيه مثقال حبّة من خردل لحبّ غيره .
مواد التمحيص :
يتبيّن من النقاط آنفة الذكر أنّ المواد التي مُحّص فيها إبراهيم ، وقد اجتازها بنجاح هي عبارة عن: اليقين التامّ والإدراك الكامل للحقّ والحقيقة وخالق العالم ،