(الصفحة 246)
سؤال :
لعلّ هناك من يسأل : من أين فهمتم أنّ الحديث يتضمّن الإخبار بشهادة الإمام في كربلاء؟ فلم يقل الإمام سوى أنّه سيستشهد وأنّ الشهادة في كربلاء أحبّ إليه من اللجوء إلى الكعبة؟ فهل هناك من منافاة بين هذا الأمر وعدم حدوث واقعة كربلاء أو وقوعها بعد سنوات؟
الجواب :
لقد لفت الإمام انتباه ابن الزبير في جوابه إلى وقوع حادثة ، وكأنّه أراد أن يقول (عليه السلام) : هناك حادثة لا مفرّ منها ، ولا أرغب أن تقع هذه الحادثة في بيت الله ، بل سأتّجه لمواجهتها هناك .
سؤال آخر :
لم يتّضح ممّا قلت سوى أنّ هناك حادثة لا مفرّ منها ، إلاّ أنّ إمكان وقوعها في مكّة لم يزل ، وهذا ما يفهم تلويحاً من جواب الإمام ، ولنا أن نسأل هنا: هل الإمام (عليه السلام) موقن من قتله في كربلاء رغم احتمالية وقوع الحادثة في مكّة؟
الجواب :
لا يريد الإمام أن يقول: إنّي أحتمل أن تقع هذه الحادثة في مكّة ، بل أراد أن يفهم ابن الزبير بأنّ جلاوزة يزيد يترصّدونه وهم عازمون على قتله ، وهو ليس بغافل عن دسائسهم ، ولذلك فهو يختار كربلاء من أجل الفوز بالشهادة وإحباط مخطّطاتهم ، وإلاّ لو كان الإمام يحتمل وقوعها في مكّة أو مئات المناطق الاُخرى ، لم ينتخب شاطئ الفرات من بين جميع هذه الاحتمالات ، أضف إلى ذلك أنّه قد أعلن بأنّي أحبّ أن اُدفن في الفرات رغم بعده مئات الأميال ، وماذا يعني بإخباره عن هذا المكان غير المتوقّع؟ إذن ، فذكر اسم شاطئ الفرات والرغبة الشديدة للاستشهاد فيه لا يفيد إلاّ وقوع حادثة مأساوية حتميّة هناك ، ثمّ تصبح تلك المنطقة موضع مرقده الشريف .
الحديث الثالث :
الحديث الذي نقله الشيخ الثقة جعفر بن محمّد بن قولويه أيضاً في كتاب
(الصفحة 247)
«كامل الزيارات» ، وقد ذكرنا سابقاً أنّ أحاديث هذا الكتاب معتبرة وموثوقة لا يمكن الطعن في سندها . قال: حدّثني أبي (رحمه الله) وجماعة مشايخي عن سعد بن عبدالله ، عن علي بن إسماعيل بن عيسى ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطاب عن محمّد بن عمرو بن سعيد الزيّات ، عن عبدالله بن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كتب الحسين بن علي من مكّة إلى محمّد بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى محمّد بن علي ومَن قِبله من بني هاشم ، أمّا بعد فإنّ من لحق بي استشهد ، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح والسلام»(1) .
وقد نقل صاحب كتاب «بصائر الدرجات» عن الإمام الصادق (عليه السلام) نظير هذه الرواية ، حدّثنا أيّوب بن نوح ، عن صفوان بن يحيى ، عن مروان بن إسماعيل ، عن حمزة بن حمران ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ذكرنا خروج الحسين وتخلف ابن الحنفية عنه ، قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : «يا حمزة إنّي ساُحدّثك في هذا بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسين لمـّا فصل متوجّهاً دعا بقرطاس وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم ، أمّا بعد فإنّه من لحق بي منكم استشهد معي ، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح والسلام»(2) .
ما ينبغي الالتفات إليه في الحديثين:
1 ـ ماذا يفهم من كلمة «استشهد»؟
2 ـ الرسالة إلى محمّد بن الحنفية وسائر بني هاشم هل تتضمّن الإخبار
- (1) كامل الزيارات: 157 ح195 ، وعنه بحار الأنوار 45: 87 ح 23 .
- (2) بصائر الدرجات: 502 ، وعنه إثبات الهداة 2: 577 ح 18 وعن كامل الزيارات والملهوف: 28 ومختصر بصائر الدرجات: 42 ح 25، وفي بحار الأنوار 42: 81 ح 12 عنه وعن مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهر آشوب 4: 76.
(الصفحة 248)
باستشهاد كلّ من يقف في صفّ المجاهدين ، أم شهادة من يلتحق فيما بعد بالإمام من بني هاشم؟
3 ـ كيف يمكن الجمع بين هذه الرسالة وعدم قتل طائفة من بني هاشم؟
1 ) كلمة «استشهد» :
كلمة «استشهد» بصيغة المجهول ، وإن كانت بصيغة المعلوم فهي تعني طلب الشهادة ، وقد وردت بالمعنى الأخير في آيتين من القرآن ،
الاُولى في سورة البقرة
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجَالِكُمْ}(1) .
والاُخرى في سورة النساء
{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}(2) . وإن جاءت بصيغة المجهول بمعنى القتل والشهادة في سبيل الله .
وفي المنجد اُستشهد: «قتل في سبيل الله»(3) ولعلّ مناسبة اللفظ لهذا المعنى الوارد في الآيات القرآنية «قَتيل في سبيل الله» هو الشهود ودرك المحضر الربوبي للحقّ جلّ جلاله ، والشهيد لا يموت أبداً ، بل يحيا في شهادته يفيض حياة وحيوية .
ولا يبعد القول بأنّ الشُهداء لا برزخ لهم ، بل تبدأ آخر مراحل حياتهم الملكوتيّة بمجرّد موت الجسد . وهذه هي الحقيقة التي ظهرت في ميدان كربلاء ، فهذا علي الأكبر ينادي أباه الحسين في لحظة الوداع قائلا: «هذا جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد سقاني بكأسه الأوفى» (4).
وعلى كلّ حال كلمة «استشهد» في عبارة الإمام (عليه السلام) ظاهرة بمعنى القتل في سبيل الله ، وصرف المعنى عن هذا الظهور ـ دون مسوّغ ـ إنّما يتعارض والعرف السائد في المكالمات والمحاورات المتداولة في الأزقّة والأسواق ، وفي حالة الشكّ في
- (1) سورة البقرة: الآية 282 .
- (2) سورة النساء ، الآية: 15 .
- (3) المنجد في اللغة: 406 .
- (4) بحار الأنوار 45: 44.
(الصفحة 249)
أنّ المراد المعنى الحقيقي للشهادة أم المعنى المجازي بمعنى التعرّض للشهادة؟ فيوجد أصل مسلّم يسمّى أصالة الحقيقة حيث يعيّن ويشخّص المعنى الحقيقي ، ناهيك عن عدم صحة صرف الكلمة إلى المعنى المجازي دون وجود علاقة ، والعلاقة التي يمكن تصوّرها هنا هي علاقة المشارفة ، وعلاقة المشارفة تكون في الموارد التي يكون تحقّقها شيئاً قطعياً تقريباً . ولا تطلق علاقة المشارفة على الأشياء التي يكون وقوعها على نحو الاحتمال . وعليه فليس هنالك من دليل على صحّة استعمال «استشهد» بمعنى التعرّض للشهادة واحتمالها .
دليل آخر:
لو كانت «استشهد» بمعنى احتمال الشهادة لكانت عبارة الإمام توضيحاً للواضح ; لأنّ احتمال الشهادة قائم بالنسبة لكلّ فرد يقوم ضدّ الحكومة الظالمة والحاكم الغاشم ، ويهدف إلى الإطاحة بالحكومة وإنشاء الحكومة الإسلامية ، ولأنّ مثل هذا القيام إنّما يصحبه صِدام عسكري يؤدّي إلى حالة القتل والاقتتال .
إذن ، فلو كانت «استشهد» بمعنى إمكانية الشهادة ، فهذا المعنى ليس بخاف على محمّد بن الحنفية وبني هاشم ولا يحتاج إلى تذكير الإمام ، وعليه : فليس أمامنا من سبيل سوى القول بأنّ «استشهد» إنّما تعني الشهادة الحتمية ، والإخبار الذي صدر عن الإمام (عليه السلام) كان إخباراً عن أمر مخفي ومصير مجهول .
2 ـ ماذا نفهم من العبارة «مَن لحق بي استشهد» .
هل المراد أن كلّ من يلحق بنا يُقتل؟ أم أنّ العبارة إخبار بشهادة قوم على الخصوص؟
لا يمكننا أن نقبل الاحتمال الأوّل ، وذلك للأسباب التالية:
1 ـ لو كان الأمر كذلك فلو افترضنا التحاق جميع أهل المدينة ومكّة والكوفة
(الصفحة 250)
والبصرة وسائر المدن بقافلة الإمام ، فإنّهم سيُقتلون ، والحال لا يمكن تصوّر هذا المعنى أبداً .
2 ـ يلزم من هذا الاحتمال أن يستشهد جميع أفراد ركب الحسين (عليه السلام) بما فيهم الصبية والنساء والكهول ، بينما لم يُقتل من النساء والصبية سوى ثلاث أو أقلّ ، وعليه : نسأل مؤلّف كتاب «شهيد جاويد» لماذا يستدلّ بتجاوز المعنى الحقيقي لكلمة «استشهد» بسبب بقاء عشرة أفراد من الأصحاب وبني هاشم؟ بل الشاهد الأفضل هو بقاء جميع النسوة و . . .
ومن هنا يتّضح أنّ معنى الحديث ليس إخبار الإمام (عليه السلام) بمعنى أنّ جميع الركب ومن يلحق به سيستشهد حتى يعترض على المعنى الحقيقي ، بل المعنى هو أنّ كلّ مَن يلحق بنا من بني هاشم سكنة المدينة سيُقتل ويستشهد . والواقع أنّ هذا الإخبار يختصّ فقط بمحمّد بن الحنفية وبني هاشم من أهل المدينة ممّن لم يلتحق بالإمام حين حركته ، وبالطبع فإنّ الأفراد الذين أرادوا أن يلحقوا منهم إنّما كانوا أفراداً بالغين مكلّفين ، والدليل على ذلك:
1 ـ ما ورد في رواية بصائر الدرجات التي أردفت عبارة «من لحق بي» بكلمة «منكم» أي كلّ من يلحق بي منكم يا بني هاشم فإنّه ينال الشهادة ، إذن فالخبر في بني هاشم و كلمة «منكم» مختّصة بهم .
2 ـ ما ورد في كامل الزيارات حول هذه الرواية ، أنّ الرسالة من الحسين إلى محمّد بن الحنفية وسائر بني هاشم ، أي هؤلاء هم المرادون بالرسالة ، فهل يسعنا بعد ذلك أن نقول بأنّ الخبر وارد بشأن جميع الناس؟!
نتيجة البحث :
نخلص ممّا سبق إلى أنّ العبارة «من لحق بي استشهد» تدلّ على شهادة كلّ من