(الصفحة 161)
لولادته من الاُمّ دون وجود الأب ، أي الولادة من غير المسير الطبيعي الإنساني ، وقد ركّز القرآن الكريم على أنّ الولادة الطبيعية خاضعة لإرادة الله تابعة لقدرته ، وإن كان هناك من وليد دون أب ; فإنّه لا يعني أنّه خارج عن الولادة الإنسانية الطبيعية وأ نّه فوق الإنسان الطبيعي ، وذلك لأنّ القدرة والإرادة الإلهية أعظم من هذه الأُمور ، فالله هو الذي يخلق من العدم ، كما يخلق آدم من تراب ، وعليه : فعيسى (عليه السلام) ليس خارجاً عن دائرة الإمكان ، فهو كسائر المخلوقات التي اكتسبتها المشيئة الإلهية حقيقة الوجود .
هدف الآيات النافية لعلم الغيب :
لا يبدو مستبعداً على ضوء الآيات التي وردت بشان علم النبيّ وأئمّة المسلمين أن يكون الهدف من نفي علم الغيب عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) هو الأمر المهمّ الذي ذكرناه سابقاً ، فقد ترعرع النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) في بيئة تتّصف بالجهل والخرافة وآلاف العيوب وعدم التعرّف على العالم الإنساني ، وقد سطع نوره في ظلمات القلوب ، فلعلّ هناك بعض الأفراد الذين يفقدون باصرتهم إثر تركيزهم على رؤية الشمس ، فقد كانت لشخصية النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقدرته العلمية وسموّه ورفعته أثرها في نفوس البعض الذي يخشى عليه من الاضطراب ، كما يمكن أن يصل بعض المؤمنين إلى المغالاة في الحقّ بالنسبة للنبي (صلى الله عليه وآله) ; وبالتالي يُصابون بما اُصيب به النصارى فيقولون باُلوهية محمّد (صلى الله عليه وآله) ، ولهذا جهد القرآن على إضفاء حالة الاعتدال لدى المسلمين وعدم الانحراف عن الصراط .
ولذلك نرى القرآن الكريم لا ينفك يؤكّد ما معناه أنّ محمّداً ليس إلاّ بشراً مثل سائر الأفراد ، كما أنّ شعار الإسلام الذي يكمن في الشهادة قد تضمّن التأكيد على عبودية محمّد لله «وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله» ، فالقرآن سعى من خلال نفيه
(الصفحة 162)
علم النبي (صلى الله عليه وآله) بالغيب لإبعاد التصوّر الذي قد يسود الأذهان بأنّه فوق البشر ، ولا يغفلوا عن كونه عبداً من عبيد الله ليبلغ الوحي والرسالة .
ومن هنا لابدّ من القول بأنّ الآيات النافية لعلم الغيب إنّما تجرّده من العلم الذاتي للغيب ، فهو ليس بذاته محيط بالأسرار والخفايا ، ليتصوّر بأنّه إله في الأرض ، وأنّ الله سبحانه بعنايته ولطفه وفيضه إنّما يرفع عنه حجب الغيب ويطلعه على المكنونات ، فالنبيّ (صلى الله عليه وآله) كالمرآة التي تعكس نور الله سبحانه .
ولذلك تطالعنا أيضاً ـ وفي إطار الهدف المذكور ـ بعض الآيات التي تسلبه القدرة الذاتيّة على هداية الاُمّة ، بل أبعد من ذلك أنّ بعض الآيات سلبته بعض الأفعال الاختيارية
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}(1) ، كما سلبته الهداية إلى الصراط المُستقيم تحقيقاً لذلك الهدف
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ}(2) .
نعم ، لقد تنوّعت الأساليب والخطابات القرآنية التي تروم تفادي الانحراف الفكري والغلوّفي شخص النبي (صلى الله عليه وآله) بفعل الكمالات العالية التي اشتملت عليها شخصيته ، وأحياناً ترد بعض الآيات القرآنية على لسانه
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ}(3) ، وكلّ ذلك بالطبع يهدف إلى عدم ضلالة القوم وتورّطهم كتورّط النصرانية في نسبتها المسيح للربوبية ، وإلاّ فمحمد (صلى الله عليه وآله) لم يسلك وادياً ولم يهد إلى سبيل إلاّ من خلال الغيب ، أو هناك تفسير سوى الغيب لهذه الفصاحة القرآنية والمعارف العلمية والحقائق الاجتماعيّة والسياسية والمدنية والبلاغية التي أتى بها بشر اُمّي؟
- (1) سورة الأنفال : الآية 17 .
- (2) سورة القصص : الآية 56 .
- (3) سورة الكهف: الآية 110 .
(الصفحة 163)
إذن ، فحديثه عن الغيب وكشفه الحجب إنّما يستند فيها إلى الحقّ سبحانه نور السموات والأرض ، وأمّا الآيات التي نفت علم الغيب عنه
{وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ}(1) إنّما تنفي الغيب الذاتي للنبي (صلى الله عليه وآله) ، وكأنّه يريد أن يقول بأنّي لا أعلم شيئاً إلاّ ما أفاض عليّ الحكيم المطلق .
آيات أُخرى :
نذكر هنا طائفة من الآيات التي تؤيّد ما ذهبنا إليه سابقاً:
1 ـ
{قُلْ إِنِّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً}(2) .
2 ـ
{إِلاَّ بَلاَغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهِ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أبَداً}(3) .
3 ـ
{قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّى أَمَداً}(4) .
4 ـ
{عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}(5) .
فالآيات تكشف عن عدم قدرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) على النهوض بالإنسان وإيصاله إلى مراحل الكمال بالاستناد إلى نفسه دون الاستمداد من الغيب الإلهي .
إذن ، لاشكّ في أنّه ليس له من وسيلة إلى تربية الأُمّة وإرشادها وإبلاغها رسالات السماء وقيمها سوى الاستناد إلى الغيب ، وكلّ ما يأتي به إنّما هو الغيب ،
- (1) سورة الأعراف : الآية 188 .
- (2) سورة الجنّ : الآية 21 .
- (3) سورة الجنّ : الآية 23 .
- (4) سورة الجنّ : الآية 25 .
- (5) سورة الجنّ : الآيتان 26 ـ 27 .
(الصفحة 164)
وليس هنالك إلاّ بعض النوادر التي لم يطّلع عليها النبيّ (صلى الله عليه وآله) من قبيل الساعة ، ولعلّ مثل هذا الأمر خارج عن طاقة العقل البشري مهما كانت قوّته ، وليس ذلك إلاّ إلى علاّم الغيوب .
نعم ، إنّ هذه الآيات هي الأُخرى واضحة في نفي علم الغيب عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، في الوقت الذي تصرّح فيه بأنّه إنّما يستند إلى الغيب الإلهي في مسيرته الدينية التربوية .
هدف الأئمّة من نفي العلم بالغيب:
هذا هو الأمر الذي واجه الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) أيضاً ، فقد كانوا يحدّثون بالأخبار الغيبيّة; ممّا حدا بالبعض إلى المغالاة ، ولذلك نراهُم أحياناً ينفون وقوفهم على مثل هذا العلم . ونرى من الأفضل أن نورد بعض النماذج التي ذكرها النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو الأئـمّة (عليهم السلام) والتي تكشف عن مدى كمالهم وعلمهم ، ثمّ نتطرّق بعدها إلى تلك الأخبار التي تضمّنت نفيهم الانطواء على ذلك العلم ، ولا نرى من حاجة للخوض في المزيد من الأخبار التي وردت عنهم ، فنوكل هذا الأمر إلى الكتب الروائية والتأريخية التي شحنت بهذه الأخبار ، ونكتفي بذكر بعض الأخبار التي وردت عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ثمّ نورد عباراته بهذا الشأن بصفته متتبّعاً لا غرض له ، إذ ليس هو من علي (عليه السلام) .
إخبار أمير المؤمنين (عليه السلام) :
«أيُّها الناس فإنّي فقأتُ عين الفتنة . . . فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحطّ رحالها ،
(الصفحة 165)
ومَن يُقتل من أهلها قتلا ومن يموت منهم موتاً»(1) .
يقول ابن أبي الحديد: «روى أبو عمر محمّد بن عبدالبرّ في كتابه الاستيعاب عن جماعة من الرواة المحدّثين قالوا: لم يقل أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) : سلوني قبل أن تفقدوني إلاّ عليّ بن أبي طالب.
وقال: «روى شيخنا أبو جعفر الإسكافي في كتابه نقض العثمانية ، عن علي بن الجعد ، عن ابن شبرمة قال: ليس لأحد من الناس أن يقول على المنبر: «سلوني إلاّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) » .
ثمّ خاض ابن أبي الحديد في الاُمور الغيبية التي أوردها أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: «لقد أقسم علي بالله الذي نفسه بيده أنّهم لا يسألونه عن أمر يحدث بينهم وبين القيامة إلاّ أخبرهم به ، وأنّه ما صحّ من طائفة من الناس يهتدي بها مائة ، وتضلّ بها مائة إلاّ وهو مخبر لهم ـ إن سألوه ـ برعاتها وقائدها وسائقها ، ومواضع نزول ركّابها وخيولها ، ومَن يقتل منها قتلاً ، ومَن يموت منها موتاً ، وهذه الدعوى ليست منه (عليه السلام) ادّعاء الربوبيّة ، ولا ادّعاء النبوّة ، ولكنّه كان يقول: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبره بذلك» .
ثمّ أراد أن يؤكّد أ نّ ما قاله عليّ في ادّعائه علم الغيب إنّما هو عين الصواب فقال: «ولقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقاً ، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة»(2) .
ثمّ قال: لقد حدث كلّ ما أُخبر عنه ، فقد قال قبل موته بسنوات: كأنّي بالشقي وقد خضّب هذه بهذه ، أي ضربة ابن ملجم ، ثمّ أخبر عن قتل ابنه الحسين في
- (1) نهج البلاغة لمحمد عبده: 233 ـ 234 .
- (2) طبعاً لا نحتاج إلى اختبار ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) ويشاركنا في ذلك السنّة ونفس ابن أبي الحديد ، ولكن ليس هنالك من سبيل لمن لا يعتقد بمقام علي سوى وقوع الحوادث طبقاً لما أخبر عنها .