(الصفحة 156)
الأحاديث بمعنى «الإخبار عن حوادث الزمان» ، فالآية تفيد تعليمه حوادث الزمان بتفاصيلها ، أي العلم الغيبي .
منصب يوسف (عليه السلام) :
إنّ يوسف الصدّيق الذي واجه تلك المصائب والويلات التي ملأت حياته بالألم والمعاناة والحرمان والفِراق ، وبعد أن أثبت خلوصه في عبودية الله وكفاءته حظي بشيء من زعامة مصر وأصبح أميناً لخُزانتها ، وحيث كان من أنبياء الله وقد جعله الله في ذلك المقام وفوّض إليه إدارة الشؤون الماليّة للبلاد ، وجب أن يكون عالماً بخزائن الغيب ومكنوناته وحوادث الزمان والمرجع في تلك الوقائع والأحداث .
وبناءً على هذا فإنّ الحاكم وإن كان دون الزعيم العام وأوطأ درجة منه ، فإن كان يشغل هذا المنصب من جانب الله فهو عالم بالمغيّبات والحوادث الخفيّة . وقد نبّه القرآن الكريم إلى قبس منه في تأويل الأحلام وارتداد يعقوب بصيراً (1)، وعليه : فإنّ الزعامة الإلهية تتطلّب العلم بالمغيّبات والإحاطة بالحوادث سواء كانت هذه الزعامة متمثّلة بيوسف (عليه السلام) ، أم غيره من الزعماء الربّانيين ، وذلك لأنّ الآية الكريمة صريحة في أنّ مَن تصدّى للملك من قِبل الله لابدّ أن يكون ملمّاً باُسلوب إدارة شؤون البلاد والاستمداد الغيبي .
الآية الثالثة :
{وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}(2) .
يتّضح من التأمّل في قصّة طالوت وجالوت ـ التي ذكرنا تفاصيلها سابقاًـ أنّ
- (1) سورة يوسف: الآيات 43 ـ 49 و 96 .
- (2) سورة البقرة: الآية 251 .
(الصفحة 157)
زعامة الاُمّة إنّما تفوّض إلى الصالحين من الأفراد ممّن تتوفّر فيهم شرائطها ، من قبيل العلم والقدرة و . . . وأنّ الله هو الذي زوّد الملك بتلك القدرة العلمية ، حيث صرّحت الآية قائلة:
{وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} . ولعلّ فاعل «يشاء» ضمير يعود إلى داود ، أي أنّ الله آتى داود كلّ ما شاء من العلم . وربّما عاد الضمير إلى «الله» أي أنّ علم داود من الله ، وقد أفاض الله ما شاء من العلم على داود .
على كلّ حال فالمعنى المستفاد هو أنّ زعيم البلاد ـ الملك ـ ينبغي أن يكون عالماً بالمغيّبات محيطاً بالمكنونات ، وأنّ زعامته لا تستند إلى الطرق والجهود المتعارفة في الحصول على العلم ، بل وسيلته فيها إفاضات الحقّ سبحانه في الوقوف على الأسرار ، سواء كان هذا الزعيم داود ، أو أيّ فرد آخر ينصّبه الله .
الآية الرابعة :
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الْصَّلَوةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَوةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}(1) . ترى الآية أنّ الإمامة منصب إلهي ، كما تدلّ على أنّ الإمام يتولّى الأمر بالاستمداد الغيبي ، والذي تفيده هذه الدلالة استناد الإمام في زعامته إلى العلم الغيبي .
وبناءً على هذا فللائـمّة الأطهار (عليهم السلام) مثل هذا الامتياز ; لأنّهم مصطفون من قبل الله ، غاية ما في الأمر أن لا سبيل إلى الوحي ، وأمّا سائر السبل فمفتوحة .
ثمرة هذا البحث القرآني :
لقد أصبح الأمر جليّاً بأنّ أئـمّة الإسلام إنّما يستندون إلى الغيب في زعامتهم
- (1) سورة الأنبياء: الآية 73 .
(الصفحة 158)
وأنّهم مطّلعون على خفايا الأُمور ، ولكن ما مدى هذا الإطّلاع والعلم ، وكيف يتأتّى لهم هذا العلم؟
لا يمكن الاستدلال بهذه الآيات في هذا الخصوص ، ولكن ما يمكن الجزم بقوله هو أنّ علمهم بكيفيّة تؤدّي إلى هدايتهم إلى الصراط المُستقيم وإلى سبل السلام ، وأن تكون هدايتهم صائبة صحيحة تماماً ، فهم الهُداة إلى الحقّ والحقائق المسلّمة ، وذلك بفعل استنادهم إلى الغيب ، وليس هنالك من سبيل إلى خطأ هذه الهداية ، وبالتالي فشل وهلاك الاُمّة
{أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى}(1) .
كما نعلم من جانب آخر أنّ هؤلاء زعماء إلى الأبد ، وقد تقدّم هذا البحث وثبت في حينه أنّ العالم الإسلامي لابدّ أن يخضع ـ وإلى قيام الساعة ـ في قيادته لمثل هؤلاء الزُعماء .
وبناءً على هذه النتيجة والمقدّمتين فإنّ علمهم بالحوادث الخفيّة وما ستواجهه الأُمّة الإسلامية في المستقبل ، ولاسيّما الحوادث ذات الصلة بكيان الإسلام والمسلمين إنّما تثبت وتوضّح أمرين ، هما:
1 ) أنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) هم الزعماء والقادة إلى الأبد .
2 ) أنّ زعامتهم وبالاستناد إلى المدد الغيبي والعناية الإلهية هي عين الصواب والتي تتضمّن الهداية المطلقة إلى الحقّ .
وأمّا ثمرة هاتين المقدّمتين ; فهي أنّ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) عالمون بالحوادث الخفيّة وما ستواجهه الاُمة الإسلامية إلى يوم القيامة ، وذلك لأنّه لا يمكنهم أن يكونوا زُعماء إلى الأبد ما لم يكونوا عالمين . وإن قُلنا بأنّهم زعماء إلى الأبد ، ولكن ليس من الضروري أن يكونوا عالمين بجميع الحوادث ، فإنّ هذا ينقض الفرض
- (1) سورة يونس : الآية 35 .
(الصفحة 159)
القائل بأنّ زعامتهم هي عين الصواب .
إذن ، فالعلم والإطّلاع من مستلزمات خلود زعامتهم . كما أنّ ملزوم هدايتهم المطابقة للواقع والبعيدة عن الفساد هو علمهم بجميع الحوادث .
وهنا يبرز هذا السؤال: أيمكن أن تكون توجيهات وهداية الزعيم صائبة ودون شائبة في حين ليس له من علم بالحوادث ، وأنّه يقود الأُمّة إلى سبل السلام ويهديها إلى الصراط المستقيم حين تعترضها بعض الأحداث التي لم يتكهّن بها؟
كيف يمكن الاعتقاد بأنّ الأئـمّة (عليهم السلام) هم الزعماء إلى الأبد ، وأنّ الاُمّة تحذو حذوهم بينما يجهلون عواقب الاُمور والأحداث! وكيف لنا أن نتصور أنّ هدايتهم عين الواقع إلى الأبد وهم جاهلون بالوقائع؟! وعليه : فإنّ افتراض عدم علم الأئـمّة (عليهم السلام) إنّما يستلزم إنكار أصلين قرآنيين مسلّمين ، وهما:
1 ـ الزعامة الأبديّة للإمام .
2 ـ الهداية الواقعية التي تأبى الفساد
{أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى}(1) . فكأن مفهوم الآية هو أنّ مَن يهدي إلى الحقّ وليس للباطل من سبيل إليه هو الإمام الأبدي ، والإمام الأبدي لن يخطئ ; لأنّ الإتّباع ورد مطلقاً في الآية ، وعليه : فالإمامة دائمة أيضاً ، أمّا نفي العلم بالحوادث المستقبلية عن الإمام الأبدي ذي الهداية الواقعية الصائبة إنّما هو مكابرة وجدل فارغ .
علائم الإمام (عليه السلام) :
بغضّ النظر عن الشرائط التي بحثت في الآيات الماضية التي تكشف النقاب عن علائم الإمام وشرائط الإمام من وجهة نظر القرآن الكريم ، فقد اتّضحت
- (1) سورة يونس : الآية 35 .
(الصفحة 160)
الأبعاد العلمية للإمام في ما يلي:
1 ـ أنّ الإمام يمارس زعامته من خلال الاعتماد على الغيب .
2 ـ الزعامة الروحية ـ الأشمل من الإمامة والنبوّة ـ ليست سوى المعرفة بالغيب ، ولم تجر المشيئة الإلهية أن يطّلع الناس على الغيب دون الوسيط العالم بسبل السعادة والفلاح ، بل لا يتحقّق هذا الهدف إلاّ في ظلّ صفوة ربّانية ، وهذه هي إرادة الله في أنّه
«لاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَسُول»(1) .
3 ـ أنّ أئـمّة الدين عالمون بالغيب خبيرون بما حُجِب عن الأبصار .
4 ـ هدايتهم بالنظر لاعتمادهم على الغيب مطابقة للواقع تأبى الخطأ والانحراف .
5 ـ حدّ الهداية والإرشاد هو المسيرة التأريخية للبشرية ، وعليه : فهم عالمون بحوادث البشرية وعاقبتها .
6 ـ كلّ هذه الاُمور من الفيوضات الغيبية والعنايات الإلهية ، وإلاّ فهم لا يتجاوزون الإمكان العلمي في الحدود الإنسانية .
التصدّي للانحراف :
لقد أشار القرآن في أكثر من آية إلى روح اللجاجة والعناد وعدم التسليم التي تحكم روح الإنسان طيلة عصور الأنبياء (عليهم السلام) ، لكن أحياناً يخرج عن حالة التسليم الطبيعي ليقع في مستنقع الضلال . فالقرآن يُشير إلى هذا الأمر ، وأنّ هناك طائفة لم تؤمن بنبوّة عيسى (عليه السلام) حتّى همّت بقتله ، بينما ذهبت طائفة اُخرى وسلّمت لأُلوهيّة نبي الله عيسى (عليه السلام) ، ولذلك جهد القرآن في محاربة هذه الأفكار الضالّة المنحرفة ، والواقع هو أنّ هذا الضلال الذي شمل ملايين النصارى الروم إنّما كان معلولاً
- (1) اقتباس من سورة الجنّ : الآيتان 26 ـ 27 .