(الصفحة 60)
لمّا كان يوم الدار ـ أوائل بعثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ـ جعل النبي (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) خليفته ونصبه إماماً ، فقال: «هذا أخي ووارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي»(1) وقد صرّحت بعض الروايات بأنّ عليّاً (عليه السلام) قال: «يا رسول الله وما أَرِثُك؟» ، قال: «ما ورثت الأنبياء قبلي: كتاب الله وسنّتي»(2) .
خلاصة ما مرّ:
إنّ الإسلام ليس دين الاعتزال والرهبة ، بل دين يشتمل على برامج وتعاليم من شأنها تنظيم حياة البشرية وضمان المعيشة الهنيئة التي يسودها العدل والإنصاف والمساواة والإخاء والتساوي في الحقوق الاجتماعية المقرّرة لكلّ طبقة بما يصونها عن السلب والنهب ، وإنّ هناك حاجة ماسّة في هذا الدين لتدوين دستوره المتين الذي يقف حائلا أمام الظلمة ، فلا يدعهم يمدّون أيديهم ليعتدوا على حقوق الأُمّة ، كما يتكفّل بحفظ الشخصية الإنسانية لكلّ فرد في المجتمع من سطوات الجبابرة وعداونهم ، وتتحقق في ظلّه العدالة الاجتماعية والتمتّع بالحقوق الفردية والجماعية وارتفاع المستوى العلمي والثقافي للناس ونيلهم السعادة الدنيوية التي تؤهّلهم لنيل الخلود واستثمار الإيمان الذي يدعو إلى كسب الفضائل الأخلاقية والمعنوية ، وممّا لا شكّ فيه أنّ القرآن الكريم هو دستور الإسلام الذي تكفّل بتحقيق هذه الأهداف:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ}(3) .
إلاّ أنّ هذا القرآن قد تعرّض لشؤونُ حياة الأُمّة من خلال آياته الشريفة ، ولا تتفق هذه الآيات بأجمعها في كيفيّة شرحها لمفردات الحياة التي تعيشها الأُمّة ،
- (1) علل الشرائع 1: 170، ب 133 ح 2، وعنه بحار الأنوار 18: 178 ح 7 .
- (2) تفسير فرات الكوفي: 227 ح 304، بحار الأنوار 38: 346 ح 21، تفسير الميزان 8 : 117 .
- (3) سورة الإسراء : الآية 9 .
(الصفحة 61)
فهناك بعض الآيات القرآنية التي وردت بصيغة الرمز والإشارة والكناية ، بل وردت مُبهمة متشابهة بحيث قد تكون أحياناً أقرب إلى خلاف المراد في دلالتها اللفظية ، وهذا ما أشارت إليه الآية:
{هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}(1) .
فالقرآن شأنه شأن سائر القوانين ، حيث وردت بعض نصوصه مجملة ، وواضح أنّ المجمل يحتاج إلى ما يُفسّره ويوضّحه .والقرآن كسائر القوانين ، قد يصدر أحكامه على نحو العموم ثمّ يخصّصها بينما يصدرها على نحو الإطلاق لكنّها تتضمّن التقييد . فأحكامه على أنواع من قبيل العام والخاص والمطلق والمقيّد و . . . .
والقرآن يتطرّق أحياناً إلى قصص الاُمم الماضية من أجل تحقيق بعض الأهداف الكُبرى وإثبات دعوى النبوّة ، فيورد حقبة تأريخية عميقة في جملة قصيرة مقتضبة ، بالشكل الذي يتطلّب الوقوف على تلك الحقائق إلى مؤرّخ عالم بنشوء الأديان وقصص سالف الاُمم ومتخصّص بلغة القرآن ، والقرآن قد يصدر حكماً معيناً لمدة استناداً للمقتضيات السياسية والمصالح الإسلامية العليا ثمّ ينسخه بحكم حقيقي آخر لابدّ من مراعاته وتطبيقه ، والقرآن قد عيّن المقنن والمنفذ من أجل بسط العدل والقسط وتحقق الوحدة والتضامن والمجتمع الإسلامي ، ليتسنى للاُمّة أن تقيم الحكومة العادلة في ظل ولاية وزعامة هؤلاء الأفراد .
وأخيراً فإنّ بعض الآيات القرآنية تحمل رسالة دعوى الناس إلى الصراط المُستقيم الذي يؤدّي إلى السعادة الأبديّة والجنّة الخالدة ، إلى جانب كسب الفضائل الإنسانية وبلوغ السموّ والكمال .
- (1) سورة آل عمران: الآية 7 .
(الصفحة 62)
إذن فدستور الإسلام هو القرآن ، وإنّ الحياة الحرة الكريمة المقرونة بالرفاه والسعادة في القرآن . والقرآن طائفة من الآيات التي تشكّل موادها أساس النظام الداخلي للحياة ، غير أنّنا رأينا أنّ آياته قد تكون مجملة وأحياناً مُتشابهة كما قد تكون أحياناً أُخرى مُطلقة أو مقيّدة وناسخة أو منسوخة ، كما فهمنا أنّ القرآن هو دعامة حكومة العدل والقسط بالنسبة للاُمّة الإسلامية ، وعليه شئنا أم أبينا ; فإنّ القرآن يتطلّب اُستاذاً ماهراً ودليلا عليماً ليوضّح مجمله ويحلّ معضله ويبيّن مطلقه من مقيّده ويفسّر متشابهه ، وأن يكشف النُقاب عن قصص الاُمم السابقة بما يخرجها عن حالة الإجمال التي أوردها القرآن ، وبالتالي عليه أن يميط اللثام عن أسراره ويميّز ناسخه من منسوخه ، ليجعل الأُمّة تقف بما لا يقبل الشكّ على مفردات دستور الإسلام من أجل تشكيل الحكومة الإسلامية ، ليتمكن المسلمون في ظل حكومة العدل القرآني من العيش بأمن وسلام في حياتهم الدنيويّة ، بالشكل الذي يمهّد السبيل أمامهم لنيل سعادة الآخرة .
وبناءً على ما تقدّم فإنّ إدراك جميع حقائق القرآن ـ بغضّ النظر عن آياته الصريحة أو الظاهرة ـ بحاجة إلى معلّم ودليل ، وكذلك الحكومة الإسلامية المستندة للقرآن بحاجة إلى إمام وولي أمر .
فالذي نخلص إليه هو أنّ القرآن محتاج إلى مرشد ، والمسلمون أيضاً محتاجون إلى الإمام ، وهنا لابدّ أن نسأل: من هو المرشد إلى القرآن وإمام الإسلام؟
لقد دلّت الآيات والروايات التي أوردناها في هذا الفصل أنّ المرشد الأبدي والإمام الواقعي للمسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) وفي ظلّ تعاليمه هم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) كما صرّحت الأخبار بأنّ الزعامة قد فوّضت إليهم إلى يوم القيامة (1)، وعليه فلن يسع
(الصفحة 63)
المسلمون قطّ أن يشكّلوا الحكومة العادلة والمدينة الفاضلة دون هؤلاء الهداة الذين لهم ولاية الأمر .
فإن قال قائل: لسنا بحاجة لهذه المدينة الفاضلة الإنسانية ، كما لا نريد الحكومة القائمة على أساس القرآن ، فالبشرية قد شكّلت الحكومة على أساس قدراتها العلمية والعقلية والتي حقّقت لها السعادة .
فإنّا نقول: لابدّ ـ على ضوء هذا القول ـ من غضّ الطرف عن القرآن واعتبار الإسلام دين العزلة والرهبنة ، في حين لابدّ لمن يؤمن بالقرآن والإسلام أن يذعن بأنّ القرآن والإسلام من شأنهما فقط إدارة شؤون الحياة الإنسانية ، وأن يقرّ أيضاً أن ليس هنالك من زعامة للحكومة الإسلامية وهداية بالقرآن وإحاطة بحقائقه ومعارفه سوى للأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، ولا يمكن للقرآن ـ بما أوردناه من خصائص ـ أن يكون هادياً للبشرية دون أولئك الهُداة الذين يهدون بأمر الله ، كما لا يمكن القول بأنّ الحكومة العادلة مطلوبة ، لكن دون الحاجة إلى زعماء الدين ومجسِّدي أحكام وقوانين القرآن ; لأنّ الأخبار والآيات دلّت على أنّ أئمّة الدين وهُداة المسلمين هم تلامذة الرسالة وربيبي مدرسة النبوّة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) .
إذن ، فلا يمكن ألاّ يكون هؤلاء ممن توفّرت فيهم شرائط الهداية بالقرآن واِمامة الأُمّة الإسلامية إلى يوم القيامة ، وبناءً عليه فلابدّ أن يكونوا محيطين بجميع رموز القرآن وأسراره ، عارفين بمحكمه ومُتشابهه ومطلقه ومقيّده ، عالمين بجميع الحوادث التي تواجه المسلمين; وإلاّ فأنّى لهم أن ينأوا بالمجتمع بعيداً عن آفات تلك الحوادث؟ فهل يسع ربّان السفينة أن يتكفّل بضمان سلامة ركّابها وهو يشقّ عباب البحر دون علم بأمواجه وجزره ومدّه والحوادث التي يمكن أن تطرأ عليه ؟!
(الصفحة 64)خلاصة البحث:
يمكن خلاصة ما مرّ منّا خلال البحث في ما يلي:
1 ـ لا يستغني الدين الإسلامي عن إمام ، كما لا يستغني القرآن ـ الذي يُعتبر دستور وقانون المجتمع الإسلامي ـ عن شارح ومفسّر .
2 ـ لا يقتصر الإسلام على كونه سلسلة من الصفات الأخلاقية والمعنوية المكملة للخصائص الإنسانية السامية فحسب ، بل هو دين ينطوي على تعاليم شاملة تستهدف بناء المجتمع الإسلامي المقتدر في ظلّ الحكومة الإسلامية التي تنشد تربية الإنسان الصالح .
3 ـ تستند الحكومة الإسلامية إلى اُسس القوانين والتعاليم القرآنية ومبادئ السنّة النبويّة الشريفة .
4 ـ يتعذّر التعامل مع النصوص القانونية القرآنية دون توضيحها وشرحها من قِبل ذوي الاختصاص من زعماء الدين .
5 ـ تفيد الآيات والأخبار أنّ للأئمّة صلاحية وأهلية الخوض في التعاليم والبرامج القرآنية وتوضيحها وسبر أغوارها .
6 ـ أنّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) هم زُعماء الأُمّة الإسلامية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) ، وأنّهم مكلّفون بالنهوض بمسؤولية هذه الزعامة إلى يوم القيامة .
7 ـ نتيجة هذه الخلاصة هي أنّ الأئمّة يملكون شرائط الزعامة والإمامة ، وحيث إنّ أحد شروط زعامة المسلمين إلى يوم القيامة يتمثّل بالعلم التام والوقوف على جميع الحوادث والأخبار الخاصّة ، والإحاطة بأسرار القرآن ، والمعرفة بما غاب عن فهم الأُمّة وإدراكها من الاُمور ، كان من اللازم القول بأنّ للإمام علماً وإحاطة تامّة بخفايا القرآن والسُنّة ، وبخلافه فليس بوسعه أن يكون زعيماً للأُمّة إلى الأبد ومفسّراً للقرآن هادياً به .