(الصفحة 50)
منصب الولاية ، أي كما أنّ الرسول هو ولي الأُمّة الإسلامية والقائم على تدبير شؤونها ; فإنّ لبعض المؤمنين ـ بنص الآية ـ مثل هذا المنصب ، والقرائن التي وردت قبل هذه الآية وبعدها إنّما تؤيّد صحّة هذا المدّعى .
فقد خاطبت الآية السابقة جميع المسلمين قائلة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ . . .} .
وصرّحت الآية اللاحقة بنفس المضمون قائلة:
{وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} .
توضيح المُراد:
الادّعاء القائم هو أنّ العبارة «والذين آمنوا» ـ في الآية التي نحن بصدد بحثها ـ مقتصرة على جماعة معيّنة من المؤمنين ، فولاية المسلمين بعد رسول الله لهذه الجماعة ، والشاهد على صحّة وتماميّة ذلك الآية التي سبقت:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } والآية اللاحقة
{وَمَن يَتَوَلَّ} ، فالآية الشريفة خطاب لكافّة المسلمين ، فالمراد بالضمير المتّصل في جملة
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهَ} هؤلاء المسلمون ، والمعنى: «أيّها المسلمون إنّما وليكم الله ورسوله وبعض من المؤمنين» .
أمّا إذا قلنا إنّما وليّكم الله ورسوله وأنتم المسلمون جميعاً ، فإنّ هذا المعنى ليس بمعقول ، فإنّه لا يمكن أن يكون للمسلمين جميعاً الولاية على أنفسهم ، أفليس مثل هذا الجعل للحكم والمنصب لغواً؟ أو لا يوجب مثل هذا الأمر تصدّع وانهيار النظام الاجتماعي؟! .
أمّا الآية اللاحقة
{وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ...} أي أنّ كلّ من امتثل حكومة وولاية هؤلاء الأفراد بعد الله ورسوله ، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى ظهور مجتمع قوي مقتدر وحزب يعرف باسم حزب الله وستكون له الغلبة على الدوام .
(الصفحة 51)
بناءً على هذا فإنّ هناك طائفة تقرّ بهذه الولاية «ومن يتولّ الله . . .» وهناك طائفة يجب أن تكون هي المتولّية للأُمور ، وعليه : فعبارة «ومن يتولّ الله» إنّما تعيّن وظيفة المسلمين في الانقياد للجماعة ذات الولاية ، والعبارة «والذين آمنوا» تعيّن ولاة المسلمين «إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا» . وبناءً على ما ذكر فإنّ العبارة «والذين آمنوا» حصرت ولاة الإسلام في جماعة خاصّة وطبقة معيّنة محدودة ، إضافة إلى ما ذكرنا من أنّ الآية الكريمة
{وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ...} قد حثّت المؤمنين على الانضواء تحت ولاية تلك الجماعة المعيّنة وتشكيل حزب هو حزب الله الذي يتمتّع المسلمون في ظلّه بالقوّة والمنعة بحيث لن تنالهم الهزيمة أبداً .
فالذي نستفيده من الآيات الثلاث:ـ
1 ـ تحذير الأُمّة من التراجع والنكوص عن دينها وخسارتها للمقام الذي حباها الله تعالى به ، وتذكيرها بعناصر القوّة من جهة أُخرى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. . .} .
2 ـ أنّ الأُمّة الإسلاميّة محتاجة إلى مَن يقودها ، ووليّ الأمر والقيّم على أُمورها هو الله والنبي ثمّ طائفة من المؤمنين .
3 ـ الاستجابة لهذه الولاية ستؤدّي ـ قهراً ـ إلى ظهور حزب قوي يتكفّل بغلبة الأُمّة على أعدائها وعدم الفشل والهزيمة .
قضية مهمّة:
كان بحثنا السابق يدور حول ظاهر الآية الشريفة . أمّا إذا أردنا أن نخوض في سبب النزول فإنّ المُسلّم به هو أنّ الآية المُباركة قد نزلت بشأن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) . فقد ذكر أبو ذر الغفاري: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلّى الظهر بالمسلمين ، فدخل فقير المسجد وسأل فلم يجبه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللّهمّ اشهد
(الصفحة 52)
إنّي سألت في مسجد نبيّك فلم يعطيني أحد شيئاً ، وكان علي (عليه السلام) راكعاً ، فأشار إلى السائل بيده فانتزع خاتمه ، فلمّا رأى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفرغ من الصلاة قال: اللّهمّ إنّي أسألك ما سألك موسى (عليه السلام) في أخيه هارون فاستجبت له ، اللّهمّ اجعل عليّاً (عليه السلام) خليفتي ، اشدد به أزري وأشركه في أمري . قال أبو ذر: فوالله ما أتمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعاءه حتى نزل عليه جبرائيل بالآية
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ . . .}(1) .
هذه واحدة من عشرات الروايات التي أشارت صراحة إلى مصداق قوله .
{وَالَّذِينَ آمَنُوا} ولا نرى حاجة للخوض في الروايات التي وردت في سبب النزول ; لأنّها صرّحت على سبيل القطع بأنّها نزلت في علي (عليه السلام) ، علماً أنّ منهج الكتاب إنّما يستند إلى القرآن لا الروايات . أمّا الحديث ، فقد أكّد أ نّ «والذين آمنوا» إنّما هم عدّة خاصة ، وليس للجميع النهوض بهذه الوظيفة الخطيرة المتمثّلة بالزعامة ، ولا ينبغي التصدّي لها إلاّ من قِبل أولئك الذين لهم صلاحية وأهلية التصدّي ، وأفضل نموذج للتصدّي لها هو علي (عليه السلام) .
إذن فالقرآن الكريم في هذه الآية المُباركة قد عيّن أئمّة المسلمين ، كما أشار إلى زعامة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ولا يقتصر هذا الكلام على عُلماء الشيعة وكبار المحدّثين ، بل ذهب مفسّرو العامّة إلى أنّ هذه الآية قد نزلت في علي (عليه السلام) .
فقد شحن تفسير ابن كثير بعدّة روايات عن عتبة بن أبي حكيم ، وعن سلمة بن كهيل . وكذلك عن مجاهد وابن عباس بعدّة طرق ، وعن السدّي أنّ الآية قد وردت بحقّ علي (عليه السلام) (2)، ومن أراد المزيد فليراجع ما سطّرته العامّة من كتب بهذا الشأن .
وبناءً على ما سبق فإنّ الآية
{وَالَّذِينَ آمَنُوا} قد أشارت إلى موقع بعض
- (1) مجمع البيان 3: 346 ـ 347 .
- (2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2: 71.
(الصفحة 53)
المسلمين الذين لهم كفاءة التصدّي لاُمور المسلمين ، وهذا ما عليه عُلماء الشيعة والسُنّة في أنّ الآية نزلت بشأن علي (عليه السلام) وزعامته .
وحيث لا يعقل نهوض جميع المسلمين بمنصب الزعامة والإمامة ، وكان من القطع أن تكون آية
{وَالَّذِينَ آمَنُوا} محصورة في بعض الأفراد الأكفّاء ، وترى الشيعة بأنّ علي (عليه السلام) من هؤلاء الأفراد ، كما ترى العامّة أنّ المُراد بالآية هو مولى المتّقين علي (عليه السلام) ، كان لابدّ من القول على ضوء اعتراف الفريقين وبالاستناد إلى عدم معقولية كون المُراد بالآية
{وَالَّذِينَ آمَنُوا} عموم المسلمين ، أنّ القرآن الكريم قد صرّح في هذه الآية بإمامة المسلمين وقلّدها ربيب النبوّة علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
إشارة إجمالية إلى بعض الروايات الواردة
في تفسير الآيات الدالّة على الإمامة
يسرّنا هنا أن نتناول بالبحث بعض الروايات لنستمع من خلالها إلى ما صرّح به نفس الأئمّة (عليهم السلام) بشأن ما أوردناه سابقاً من زعامتهم وإمامتهم:
1 ) وردت في كتاب وسائل الشيعة رواية عن الصدوق بسند معتبر عن المعلّى ابن خنيس ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: قول الله عزّوجل:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الاَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}(1) فقال: «عدل الإمام أن يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده ، واُمرت الأئمّة أن يحكموا بالعدل ، واُمر الناس أن يتّبعوهم»(2) .
2 ) كما وردت رواية عن الكليني:
محمّد بن يعقوب عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن عيسى ، عن أبي عبدالله المؤمن ، عن ابن مسكان ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي
- (1) سورة النساء: الآية 58.
- (2) الفقيه 3: 2 ح 2، وعنه وسائل الشيعة 27: 14، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 1 ح33084 .
(الصفحة 54)
عبدالله (عليه السلام) قال: «اِتّقوا الحكومة; فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ»(1) .
3 ) وروى العياشي أنّ سعد قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الآية الشريفة:
{لَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن أَبْوَابِهَا}(2) فقال: «آل محمّد (صلى الله عليه وآله) أبواب الله وسبيله والدعاة إلى الجنّة والقادة إليها والأدلاّء عليها إلى يوم القيامة»(3) .
4 ) نقل حمزة بن الطيّار أنّه عرض على أبي عبدالله (عليه السلام) بعض خطب أبيه حتّى إذا بلغ موضعاً منها قال له: «كفّ واسكت ، ثمّ قال أبو عبدالله (عليه السلام) : إنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لاتعلمون إلاّ الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ، ويعرّفوكم فيه الحقّ . قال الله تعالى:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(4)»(5) .
5 ) ونورد هنا بعض ما أوصى به أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لكميل: «يا كُميل لا تأخذ إلاّ عنّا تكن منّا... يا كُميل هي نبوّة ورسالة وإمامة ، وليس بعد ذلك إلاّ موالين متّبعين أو عامِهين مبتدعين ، إنّما يتقبّل الله من المتّقين»(6) .
6 ) الحديث المتواتر والمتّفق عليه من العامّة والخاصّة والمعروف بحديث الثقلين الذي لم ينكره أحد ، وأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قاله على سبيل اليقين ، فقد عيّن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا الحديث وظيفة المُسلمين إلى يوم القيامة ، معتبراً فيه القرآن
- (1) الكافي 7: 406 باب أنّ الحكومة إنّما هي للإمام ح1 .
- (2) سورة البقرة: الآية 189.
- (3) تفسير العيّاشي 1: 86 ح 210، وعنه بحار الأنوار 2: 104 .
- (4) سورة النحل: الآية 43 وسورة الأنبياء: الآية 7.
- (5) الكافي 1: 50 باب النوادر ح10 .
- (6) تحف العقول: 171 و 175.