(الصفحة 232)
نفسه أن يراه ، هذا الحوار بين الحسين وعمر بن سعد ، فقد كان (عليه السلام) عالماً بتفاصيل واقعة كربلاء ، فالاُمّة كانت تعلم بأنّ الحسين (عليه السلام) يقتل في المعركة وقاتله عمر بن سعد ، أمّا الحسين (عليه السلام) فقد كان يعلم دافع عمر بن سعد من قتله ، كما كان يعلم بأنّ ابن سعد سوف لن يظفر ببغيته ، فهل يمكن بعد هذا أن تزعم بأنّ الإمام لم يكن يعلم بتلك الحادثة؟ أو أنّه يعلم بشهادته ولكن ليس في هذه النهضة؟ فكلّ هذه الأسرار عرضها الحسين لعمر بن سعد ثمّ قال بأنّه لم يكن يعلم ، حتّى حين اقترب من كربلاء بحيث لو سُئل: أين نذهب ، وماذا سيحصل ، وأين سننزل وما العاقبة؟ لأجاب : «لاندري على ما تتصرّف بنا وبهم الاُمور؟!» أو نقول: احتمل الأصحاب أخيراً حين وردوا كربلاء أنّ المعنيّ بقول أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ المقتول من أهل البيت بكربلاء هو الحسين (عليه السلام) » .
5 ـ خطبة «خُطّ الموت . . .»
«خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى اشتياق أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخُيِّر لي مصرع أنا لاقيه ، كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء ، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم ، رضا الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفّينا اُجور الصابرين ، لن تشذّ عن رسول الله لحمته ، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس ، تقرّبهم عينه وينجز بهم وعده ، من كان باذلا فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسه ، فليرحل معنا ، فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله»(1) .
أفلا تفيد هذه العبارة «كأنّي بأوصالي . . .» التي أوردها الإمام في
- (1) الملهوف لابن طاووس: 126، مثير الأحزان: 41، كشف الغمّة 2: 29، وعنها بحار الأنوار 44: 366 ـ 367 .
(الصفحة 233)
مكّة ـ حسب ما نقل في اللهوف ـ علم الإمام بمصيره؟ وإضافة إلى ذلك ، ألا تكشف عن مكان مصرعه وشهادته؟ قد يُقال بأنّ الإمام إنّما أورد هذه الخطبة في يوم عاشوراء حين أصبحت شهادته حتمية ، لا أنّه أوردها في مكّة فنقول: لعلّ الإمام (عليه السلام) أورد خطبتين : أحدهما حسب نقل اللهوف في مكة ، والاُخرى حسب مقتل الخوارزمي(1) في كربلاء ، ولعلّ الاختلاف في المضمون يؤيّد ما ذهبنا إليه ، وكما ترد نفس المضامين والألفاظ مع قليل من التغيير في القرآن ونهج البلاغة ; فإنّ هذا الأمر يفيد مقصوداً آخر يختلف عن السابق ، ولعلّ خطبة الإمام (عليه السلام) تكرّرت من أجل إفادة مقصد خاصّ ، كما يمكننا القول بأنّ الخطبة واحدة وقد أوردت في مكّة ، وهنالك عدّة اُمور للترجيح منها:ـ
1 ) تصريح صاحب اللهوف بإيراد الخطبة في مكّة ، بينما لا يصرّح الخوارزمي بإيرادها في عاشوراء ، بل أوردها ضمن أحداث عاشوراء .
2 ) ما المرجّح لنقل الخوارزمي على نقل اللهوف ، بحيث يميل المؤلّف إلى صدورها في عاشوراء؟ بل الترجيح للّهوف حيث نقل المحقّق الجليل والفقيه الكبير والمحدّث الشامخ المرحوم الحاج الميرزا محمّد أرباب الإشراقي في كتابه القيّم «الأربعين الحسينية» أنّ هذه الخطبة قد رُويت عن عدد كثير من عُلماء الإمامية ومنهم السيد بن طاووس في كتاب اللهوف والشيخ جعفر بن محمّد المعروف بابن نما والشيخ علي بن عيسى في كتاب كشف الغمّة ، وقد صرّح الجميع بأنّ الإمام (عليه السلام) ألقى هذه الخطبة حين عزم على الخروج من مكّة إلى العراق .
- (1) «أيُّها الناس خطّ الموت على بني آدم كمخطّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولعني بالشوق إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف; وإنّ لي مصرعاً أنا لاقيه كأنّي أنظر إلى أوصالي تقطّعها وحوش الفلوات غبراً وعفراً ، قد ملأت منّي أكراشها ، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ليوفّينا أجور الصابرين ، لن تشذّ عن رسول الله لحمته وعترته، ولن تفارقه أعضاءه، وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بها عينه، وتنجز له فيه عدته . (مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي 2: 8).
(الصفحة 234)
3 ـ يحكم الذوق السليم والمعرفة بالفصاحة العربية بأنّ عبارة اللهوف أفصح وأقدم من عبارة الخوارزمي ، فإسنادها إلى الإمام أنسب ، كما أنّ ابن طاووس صرّح بأنّ الخطبة قد وردت في مكّة ، ولا يسع المؤلّف إلاّ أن يقول بأنّ العبارة التي وردت في اللهوف «فإنّي راحل مصبحاً» دليل على أنّ الخطبة أو البعض منها «مَن كان باذلا مهجته» ـ التي وردت في اللهوف ولم ترد في الخوارزمي ـ لم ترد في مكّة ، وذلك لأنّ حركة الإمام (عليه السلام) كانت عند زوال يوم التروية لا صباحاً ، إضافة إلى أنّ الحركة لم تقرّر قبل ليلة ، بل بحكم الجبر والاضطرار فإنّ الإمام عزم على الحركة فجأة ، ولم تكن هناك من وقفة بين العزم والحركة .
ونقول في الجواب: ليس هناك من منافاة بين الحركة عند الزوال وكلمة «مصبحاً» ; لأنّ هذه الكلمة كثيرة الاستعمال بمعنى «غداً» ومن أين يعلم أنّ الإمام (عليه السلام) لم يعزم على الحركة عندما رأى نفسه مضطرّاً؟ بل كان الإمام مستعدّاً للإتيان بمناسك الحجّ والتوجّه إلى عرفة ، ولم يكن هنالك أيّ قرار مسبق بالحركة إلى العراق قبل زوال يوم التروية ، لقد نقلت أنت هذا الموضوع من إرشاد المفيد والطبري ، والحال أنّه:
أوّلا:
في قبال المفيد (قدس سره) والطبري هناك عدد كبير من العلماء والفضلاء ـ ممّن ذكرناهم سابقاً ـ صرّحوا بأنّ العزم على الحركة كان منذ الليلة التي سبقتها ، وليس هنالك ما يدعونا لاعتماد نقل المفيد وإهمال نقل اللهوف وسائر المشاهير .
ثانياً:
ما يفيده الإرشاد وتأريخ الطبري أنّ حركة الإمام كانت عند زوال يوم التروية بعد الخروج من الإحرام ، وليس هنالك من تعرّض إلى وقت العزم على الحركة وزمان الخروج من مكّة ، بل نقل الطبري عن أبي مخنف أ نّ حسيناً لمّا أجمع المسير إلى الكوفة أتاه عبدالله بن عباس فقال: ياابن عمّ ، أُشيع بين الناس أنّك ذاهب إلى العراق؟ فأجابه (عليه السلام) : لقد عزمت على المسير منذ اليوم أو يومين إن شاء
(الصفحة 235)
الله . فتكلّم ابن عباس عن هذا الأمر وانصرف ، ثمّ عاد إليه عند الليل أو الغد وأبدى له نصائحه بالانصراف عن هذا السفر(1) . أوَلا تصرّح هذه القصّة ـ التي نقلها الطبري عن أبي مخنف ـ بأنّ العزم على الحركة كان قبل يوم أو يومين؟ فلماذا نقول: كانت الحركة مفاجأة وقد دفعه الاضطرار إلى ذلك ، حيث كان قصده الأساسي الإتيان بمناسك الحجّ ، وعليه : يمكن الجمع بين إيراد الخطبة في الليل مع الحركة صباحاً والعزم عليها ، وهذا ما حصل في الواقع ، وذلك لأنّه عزم على الحركة في الليل وأورد الخطبة .
سؤال:
إذا كان الإمام (عليه السلام) عازماً على الحركة قبل يوم أو يومين وكان يعلم أنّه لا يتوقّف في مكّة حتّى إتمام مناسك الحجّ ، فلِمَ أحرم للحجّ واتّجه إلى عرفة؟
جوابه:
أنّ عمل الإمام (عليه السلام) هذا يستند إلى مصلحة ، ورغم أنّه قرّر الحركة وكان يعلم بعدم أدائه لكافّة أعمال الحجّ ، كان من الضروري أن يحرم للحجّ وينضمّ إلى الجماعة الإسلاميّة في تلك المراسم ، ثمّ يبدّل إحرام الحجّ عمرة ليعلم الناس أن ليس هنالك من حصانة له في ظلّ هذه الحكومة الغاشمة ، وليس له أمن في الحرم الآمن الذي تؤمن فيه الحيوانات ، وهكذا يكشف الإمام (عليه السلام) عن بعض خطط هذه الحكومة ومؤامراتها والتي تهدف إلى إحياء العهد الجاهلي ، ولتعلم الأجيال الإسلامية القادمة بسلب أمن الحرم من قبل هذه الحكومة ، وأنّها لم تمهله حتّى لأداء مناسك الحجّ . أضف إلى ذلك أنّه ليس من المعلوم أنّ الإمام (عليه السلام) أحرم للحجّ ،
- (1) تاريخ الطبري 4: 287 .
(الصفحة 236)
بل يستفاد من رواياتنا وكذلك تأريخ الطبري(1) أنّه أحرم للعمرة ، ولم يكن قد عزم على الحجّ منذ البداية .
أجل ، فإنّ هذا الكلام يفيد عدم الترديد في خطبة «خطّ الموت . . .» حسب نقل اللهوف .
المؤلّف والإقرار بالعلم :
نفترض ـ مماشاة للمؤلّف ـ أنّ هناك تقطيعاً في الخطبة وأنّ الإمام (عليه السلام) لم يورد «من كان باذلا فينا مهجته» في مكّة ، إلاّ أنّه يتّفق معنا في أنّ هذه العبارة «وكأنّي بأوصالي . . .» قد أوردها في مكّة ، وهنا نسأل المؤلّف: أو لا تدلّ هذه العبارة على شهادة الإمام في هذه الحركة؟ أو لا تكشف أيضاً عن موضع الشهادة؟ هل هناك
- (1) 1 ـ جاء في كتاب وسائل الشيعة ج14 ص 310 عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمّد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حمّاد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّه سُئل عن رجل خرج في أشهر الحجّ معتمراً ثمّ خرج إلى بلاده ، قال: لا بأس ، وإن حجّ من عامه ذلك وأفرد الحجّ فليس عليه دم ، وإنّ الحسين بن عليّ (عليهما السلام) خرج يوم التروية إلى العراق وكان معتمراً .
- 2 ـ وعنه، عن أبيه ، عن إسماعيل بن مرار ، عن يونس ، عن معاوية بن عمّار ، قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : من أين افترق المتمتّع والمعتمر؟ فقال: إنّ المتمتّع مرتبط بالحجّ ، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء وقد اعتمر الحسين (عليه السلام) في ذي الحجّة ثمّ راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى ، ولابأس بالعمرة في ذي الحجّة لمن لا يريد الحجّ .
- 3 ـ في تاريخ الطبري 4: 289 أنّه وروى أبو مخنف أنّ الحسين (عليه السلام) طاف عند الظهر بالبيت وبين الصفا والمروة وقصّ من شعره وحلّ من عمرته، ثم توجّه نحو الكوفة .
- نعم ، يشمّ من عبارة المفيد في الإرشاد 2: 67 ، أنّ الحسين (عليه السلام) أحرم للحجّ ثمّ أبدلها للعمرة ، ولكن لا اعتبار لهذه الرواية أمام الروايات المذكورة ، فإحرام الإمام (عليه السلام) كان للعمرة ولم يبدأ بمناسك الحجّ ، وقد حصل مراد الإمام (عليه السلام) ، لأنّ عدم الاشتراك في مراسم الحجّ لمن أقام أشهراً في مكّة ولا تستغرق المناسك سوى بضعة أيّام يفيد إبرازه لموقفه حيال الجهاز الحاكم وفضح سياسة يزيد القائمة على أساس انتهاك الحرمات وسلب الحرم الإلهي أمنه ، فأفهم (عليه السلام) الاُمّة أنّ يزيد وبدلاً من إحياء شعائر الله وتعظيمها يهدف ترويع ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مركز التوحيد لا لذنب سوى اتّباعه للحقّ والقرآن .