(الصفحة 282)
والتحرّر ، وكلّ ثائر في الإسلام إنّما يستصغر شأنه ودمه مقارنة بالحسين (عليه السلام) واستمداداً للعزم منه . المدرسة الحسينية مدرسة الشرف والشجاعة والمساواة والتضحية من أجل إنماء شجرة الإسلام ، لقد تعلّم شهداء المدرسة الإسلامية دروس الفداء والتضحية من هذا الرجل الربّاني أبي الأحرار والثورة ، والتأمّل في الحديث القائل بأنّ كلّ مسجد إنّما بني بفضل دم شهيد سفك لا يفيد سوى الإقرار والشهادة على صحّة هذا الحديث ، فما المساجد والمعابد التي تشكّل مراكز العبودية إلاّ قبسات من شعاع الحسين (عليه السلام) وتضحياته الحسام ، لقد استشهد الحسين (عليه السلام) ، أمّا الإسلام فقد التقط أنفاسه وتجدّدت حياته .
نعم ، إنّما أحرقت خيام الحسين (عليه السلام) لتُقام خيام الإسلام التي تنشر معارف الدين وأحكام القرآن إلى يوم القيامة ، لقد أصبح الحسين (عليه السلام) والإسلام اليوم بمثابة «الصورة والمادّة» وصار الحسين (عليه السلام) هو الفصل المميّز للإسلام .
الحسين (عليه السلام) والإسلام:
لا يسع الأحرار من محقّقي الأديان ومفكّريها في بحثهم لحقيقة الدين إلاّ من خلال الإمام الباذل لمهجته ، وقد تعرّفت الدنيا اليوم ومن خلال دراستها لحادثة كربلاء على منهج الإسلام ومفاهيم هذا الدين الحنيف ، فكانت بركة بطلها هذا التشيّع الذي ساد وما زال يسود كافّة بقاع الأرض ، فقد عاش المذهب الاثناعشري ردحاً من الزمن حياته خلف الحُجب ولم يستطع الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) من التعرّض علناً لمسألة من مسائله على أساس فقههم دون اللجوء إلى التقيّة والحذر من العدوّ ، بينما غدا ببركة الحسين (عليه السلام) مذهباً رسمياً يظهر ملايين البشر من خلاله تشيّعهم ليمارسوا حياتهم وتعاليمهم بالانضواء تحت لواء الإمام الصادق (عليه السلام) زعيم المذهب .
(الصفحة 283)
وبالطبع ، لا يمكن أن تورق ثمار هذه الشجرة التي نبتت عروقها من دم الحسين (عليه السلام) على مدى الزمن القريب ، ولا ينبغي الظنّ بأنّ صرخة الإمام كانت من أجل إنقاذ تلك الثلّة في ذلك الزمان المحدود ، أفلا تعلمون أنّ الإمام (عليه السلام) عظيم وعملاق وعلى سعة من الفكر بحيث يستوعب مليارات الأفراد على مدى تقادم الزمان ، وهذا سرّ تسطيره لتلك الحادثة .
وليت شعري أيّ منطق هذا الذي دعا المؤلّف للخوض في فوائد حادثة كربلاء في ذلك الزمان؟ ليخلص إلى أنّها أدّت إلى زيادة شوكة يزيد وحبس الأنفاس في الصدور وذلّة الاُمّة وهوانها تجاه السلطة الأمويّة الغاشمة!
فإذا كان الأمر كذلك ، فقل قتال أمير المؤمنين (عليه السلام) لمعاوية في صفّين قد أذلّ المسلمين وسبّب هوانهم ، وعلى ضوء استنتاجك فإنّ صفّين وجّهت صفعة أقوى للإسلام ، وجرّت عليه الضرر الأكبر إذا ما نظرت إلى عدد القتلى وفقدان الأولياء وظهور فتنة الخوارج ، وأخيراً تفاقم قدرة معاوية واستحكام خلافته دون منازع!!
وهنا يمكنك القول بأنّ علياً (عليه السلام) قد خاض قتال معاوية قسراً ، ولم يكن جهاده ابتدائياً بل كان دفاعاً عن النفس!
ولنا أن نسأل: أليس عليّ إماماً مفترض الطاعة ومصوناً عن الخطأ وعالماً بالأحداث؟ أفَلَم يتّجه لقتال معاوية عالماً عامداً؟
بلى ، يبدو أنّ الأمر لم يتمّ لصالح الإمام وقد تمكّن معاوية من اعتماد البدعة والخداع ، ولكن ما نتيجة الأمر؟ ألم يكن قتال معاوية ضرورياً؟ كيف نقيم الأحكام التي يصدرها التأريخ اليوم بشأن معاوية؟ ما عاقبة معاوية؟ كيف ينظر العالم لعلي (عليه السلام) ؟ كيف ترى قبر معاوية والمرقد المطهّر لعلي (عليه السلام) ، ماذا يقول القرآن بشأن عليّ (عليه السلام) ؟ هل حفظ عليّ الإسلام أم قضى عليه؟ لو هادن الإمام حكومة
(الصفحة 284)
معاوية أكانت تنشب معركة صفّين؟ ولو صغى الإمام لنصيحة المغيرة بن شعبة أكان يسع معاوية في تلك الفرصة المقتضبة أن يطالب بدم عثمان؟ ماذا دهى علي (عليه السلام) ليجيب المغيرة بهذه القوّة «لا أستعمل معاوية يومين»(1) ، كما ردّ على اقتراح ابن عباس بالإبقاء مؤقّتاً على معاوية في الشام: «والله لا أعطيه إلاّ السيف»(2) .
وأخيراً ماذا قال لشبث بن ربعي حين بعثه مع سعد بن قيس الهمداني وجماعة إلى معاوية وإقراره بطاعة الإمام (عليه السلام) ، فسأله ابن ربعي: وإن لم ينزل على طاعتك فهل أنت موليه؟ فقال (عليه السلام) :
{إنَّكَ لاَ تُسِمعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ . . . } الخ(3) (4) .
إذن ، فلم تكن معركة صفّين خارجة عن علم الإمام ، فالإمام يعلم أنّه لو أطلق العنان لمعاوية في الشام لما فكّر قط بالمطالبة بدم عثمان ، الذي كان معاوية حريصاً تماماً على سفكه ، ورغم هذا العلم والاطّلاع لم يكن علي (عليه السلام) مستعدّاً للإبقاء ولو ليومين على مهادنة ذلك الجبّار الغاشم المعادي للإسلام والمسلمين ، الذي شيّد قصره على جماجم الضُعفاء والمحرومين وهضمهم حقوقهم ونهب أموالهم واستباح بيت مالهم .
نعم ، الذنب ذنب معاوية الذي لم يذعن للحقّ وينقاد له . فلو قلنا بعدم علم الحسين (عليه السلام) بحادثة كربلاء وأنّها أضرّت بالإسلام وقد اضطرّ الإمام فيها للدفاع عن نفسه ، وجب علينا أن نرسم مثل هذه الصورة الزائفة لكافّة معارك أمير المؤمنين (عليه السلام) وبعض حروب وغزوات النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) !! ولا يسعنا هنا أن نقول إلاّ ما قاله الحسين (عليه السلام) : «فعلى الإسلام السلام»(5) .
- (1 ، 2) الكامل لابن الأثير 3: 197 .
- (3) سورة النمل: الآية: 80 ـ 81 .
- (4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 14 ـ 22 .
- (5) الملهوف: 99، وعنه بحار الأنوار 44: 326 .
(الصفحة 285)
إلاّ أنّ الضمائر الحيّة والأفكار الحرّة لا تتعاطف قطّ وهذه الصورة الفارغة ، فالدنيا برمّتها ترى اليوم أنّ حياة الإسلام وعزّة المسلمين مرهونة بتلك النهضة الكبرى وتضحية اُولئك الفتية وسبي تلك الصفوة . نعم ، كان الأسر من الأهداف المرسومة للنهضة ، والتضحية والفِداء منتهى طموحها ، وفي قتل أبي الفضل العباس دروس وعِبَر في تعليم الإخاء والفضل والإباء ، وما زالت وستبقى هذه الحادثة تدمع العيون وتبكي القلوب ، وإلى جانب هذه الدموع بحار من المحبّة والرحمة التي يسبح فيها المجتمع الشيعي ، والحسين (عليه السلام) بطل الحرية والعدالة هو الذي شقّ عباب هذا البحر وجعل أمواجه تفيض غيرة وحرصاً على بناء الدين وتماسك قواعده .
نعم ، هذا غيض من فيض من معطيات نهضة الحسين (عليه السلام) وحادثة كربلاء الملحمية ، التي تتضاءل لديها الأفكار وتجفّ الأقلام .
سؤال :
لو كانت لحادثة كربلاء مثل هذه المعطيات ، وقد أدّت إلى قوّة شوكة الإسلام وانهيار دعائم الظلم والجور ، لم اصطلح الأئـمّة (عليهم السلام) عليها بالمصيبة ؟ فقد ورد في زيارة عاشوراء «يالها من مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيّتها في الإسلام»(1) .
جواب :
طبعاً مصيبتها في أنّها لِمَ حدثت وأَوْدت بحياة هؤلاء الفتية وبتلك الطريقة البشعة التي تدمي القلوب ، أمّا ثمرتها فلولا وقوعها لما بقي للإسلام اليوم من أثر ، وبتعبير أوضح: مرض عضال مميت ، وقد شخّص الطبيب علاجه بقطع الساق اليسرى للمريض وبخلافه يموت ، فما عسى أن يشعر به والد المريض ووالدته؟
- (1) كامل الزيارات: 330 ح 556 .
(الصفحة 286)
ليس سوى الحزن والسرور ، فالحزن لقطع ساق ولدهم والسرور لعدم موته ، فشجرة الإسلام كانت تشهد الذيول والتآكل بسبب حكومات الجور والفساد ، وقد اجتهد يزيد وعبيدالله على اقتلاع شجرة الإسلام المباركة ، وليس هناك من وسيلة لحفظها سوى دم الحسين (عليه السلام) ، كانت هذه الأفكار لا تفارق ذهن الإمام التي جعلته يتّجه لعدّة ليال إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ليس هنالك من سبيل سوى «لا أرى الموت إلاّ سعادة»(1) وإلاّ مات الإسلام ، آنذاك ستقطع تلك الأيادي الأثيمة التي تنوي العبث بعروق شجرة الإسلام ، وهنا تبلورت حادثة كربلاء ، وعلى الإمام أن يُمارس دوره في هذه التربة .
ولم تكن هذه الفكرة مقتصرة على الإمام (عليه السلام) ، فقد تكهّن بها مسبقاً ، لابدّ أن تشهد هذه التربة سفك الدماء المقدّسة لاُولئك الفتية ، ليستعيد الإسلام حيويّته ، فلتسفك الدماء ، وليقف يزيد عند حدّه . ويشاهد اُمناء الإسلام وحماة العقيدة ـ الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) ـ هذه الصورة ، فهم مسرورون لبقاء القرآن وديمومة الإسلام ، وفي ذات الوقت محزونون لهذه الحادثة والمصاب الجلل .
لِمَ بلغت الاُمور بالإسلام في ظلّ هذه الحكومات الفاسدة هذا المأزق ، ولم تعد هنالك من وسيلة لعلاجه وبعث الحياة فيه سوى سفك دم الحسين (عليه السلام) ؟ لم كان الثمن دم هؤلاء الصبية وبتلك الطريقة المروّعة؟ لِمَ كربلاء؟ فالحادثة مصيبة وأعظم مصيبة ، وهل من مصيبة أعظم من تلقّي الإسلام للضربات تلو الضربات أو الحيلولة دونها بإراقة دماء الطهر والعفّة والفضيلة بأيدي السفّاحين المتعطّشين للدماء؟
إذن ، فكربلاء إذا نظر إليها من تلك الزاوية فهي مصيبة جلل ، إلاّ أنّها بالنظر إلى هذه الزاوية فتح وانتصار ، يوم سرور الإسلام الذي التقط أنفاسه إثر هذه
- (1) حلية الأولياء 2: 39، وعنه مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 4: 68 .