(الصفحة 120)
الإسلام أيضاً ، إضافة إلى أنّ هذه الشروط من الحقائق المسلّمة التي لن تفقد أصالتها قط طيلة التأريخ البشري ، كما أنّها تأبى الزوال ولا يعتريها التغيير والتبدّل.
ونخلص من هذا إلى أنّ الشروط التي تضمّنتها قصّة طالوت بشأن الإمامة والزعامة ، يعتبرها القرآن من الصفات التي ينبغي أن يتّصف بها الزعيم ، وبخلافه لايعدّ زعيماً إسلامياً .
العنوان الثاني لقصة طالوت:
لقد سبقت قصة طالوت بآيتين ، حيث إنّ مفاد الآيات الثلاث لفت انتباه المسلمين وحثّهم على القتال في سبيل الله والتعرّض للعناصر التي تجسد النصر والغلبة في هذا القتال ، ولمّا كان البحث بالتفصيل لهذه الآيات الثلاث ينطوي على نوع من الإطالة والملل ، فقد آلينا على أنفسنا التعرض بصورة مقتضية لما تضمّنته هذه الآيات من محاور رئيسيّة ، ثمّ نعرج بعدها على ذكر الآيات .
فقد أكّدت هذه الآيات ثلاثة شروط أساسية تقود إلى النصر في خوض غمار الجهاد:
الشرط الأوّل:
هو الإذعان والإيمان بأنّ الموت والحياة بيد القدير سبحانه ، فالموت يدركنا والله يقبض أرواحنا ، سواء كنّا على الفراش أو في ساحات الوغى إن كانت هنالك من مصلحة . وإذا شاء لنا البقاء فليس هنالك من موت ، فقد تكون ساحة الحرب وادعة أمينة بينما يكون الفراش مميتاً; وبناءً على ما تقدّم فإنّ الفرار من الجهاد حرصاً على الحياة يعني إيكال الفرار إلى أمر خارج عن الإرادة والاختيار ، وعلى هذا الضوء فإنّ المؤمن سوف لن يفر ألبتة من ميدان الحرب ويخوض القتال بعزم راسخ وإرادة فولاذية بعد التوكّل على الله والقتال في سبيله .
الشرط الثاني:
أنّ الجهاد قائم على أساس الإنفاق وبذل الأموال والأنفس ،
(الصفحة 121)
ولا تتيسّر مجابهة العدو دون توفير العدة والاستعداد للمنازلة ، ويتمثّل هذا الاستعداد والتجهيز من خلال إعداد الجنود المضحّين والمسلّحين وتفعيل هذا الاستعداد حيال العدو .
الشرط الثالث:
ويعدّ أساس الشروط ، بل لا معنى للشرطين المذكورين دونه ، ويتمثّل بالقائد المقتدر والآمر الكفوء الذي يقود القتال بكلّ بسالة مستنداً إلى العلم والبصيرة والمعرفة التامّة بأساليب القتال ، بغية تحقيق النصر الخاطف على العدو بأقلّ التضحيات .
الآيات الثلاث:
أمّا الآيات الثلاث فقد وردت في سورة البقرة ، وهي:ـ
1ـ
{أَلَمْ تَرَ ِلَى الَّذِينَ خَرَجُوامِن دِيَارِهِمْوَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَالْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْل عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَالنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}(1) .
فالآية تضمّنت ثلاثة أُمور مهمّة ، وهي:
الأوّل: إنّ الفرار خشية من الموت لا يمنع من حلول الأجل .
الثاني: إنّ الحياة والموت بيد الله لا بيد أيّ أحد سواه .
الثالث: إنّه لاينبغي أن يضعف الإنسان مخافة الموت ; لأنّ الحياة والموت بيد الله ، وليس للفكر من دور إزاء التقدير ، وفضل الله وإحسانه هو الفاعل في حياة الإنسان وموته ، فان كان الموت إحساناً فلا مناص منه والعكس صحيح .
وعليه : ففي الآية الكريمة براعة استهلالية تهدف إلى إعداد المسلمين للجهاد والقتال في سبيل الله ، ومن هنا أردفت هذه الآية بقوله سبحانه:
{وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(2) .
- (1) سورة البقرة: الآية 243 .
- (2) سورة البقرة: الآية 244 .
(الصفحة 122)
2ـ
{مَنْ ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(1) .
فالآية تتابع الحثّ على القتال «في سبيل الله» وقد تصدّرت بـ «مَن» الاستفهامية ، وكأنّها تتحرّى الرجل الذي ينهض بهذه المسؤوليّة الخطيرة ليمارسها بنجاح بعد أن يعدّ متطلّباتها . وعليه : فالآية ليست في مقام الحثّ على الإقراض فحسب ، فهي تهدف أمراً آخر إلى جانب ذلك ، وهو أنّ المقرض هو الإنسان والمقترض هو الله سبحانه ، وكأنّ الله مدّ يده إلى الإنسان سائله شيئاً .
ومن هنا فالذي يخلص من ذكر هذا الأمر في آية القتال أنّ الغرض الأصلي من هذا القرض هو أنّ بذل المال والنفس ينشد تحقيق هدف التوحيد ، ولذلك كان المقترض الله ، لأنّ بذل المال والنفس كان في سبيل الله ، ونتيجة ذلك كلمة التوحيد ، فلو جعل الإنسان كلّ ما يملك وقفاً في سبيل الله فإنّ ثواب ذلك سيكون عوضاً مطلقاً لا متناهياً .
وبناءً على ماتقدّم فإنّ الآية الشريفة بسياق الطلب تمثّل أعظم حثّ لإثرة المال والنفس في سبيل الله ، وهو الحثّ والترغيب الذي يغلق على الإنسان كافّة طرق التعذير من قبيل المرض والتمارض والخوف وما شابه ذلك .
والذي يؤيّد هذا الاستنباط بل دليله هو أنّ أغلب الآيات التي تحدّثت عن القرضة الحسنة في السور القرآنية كالمائدة والتغابن والحديد والمزمّل وغيرها من السور إنّما وردت كامتداد لآيات القتال في سبيل الله .
3ـ آيات قصة طالوت التي شرعت بالآية:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلاَِ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ . . .}(2) ومرّ علينا تفصيلها ، ولاحظنا الشرائط التي تضمّنتها الآيات بشأن زعامة طالوت .
- (1).(2) سورة البقرة: الآيتان 245 ـ 246 .
(الصفحة 123)هذه الآيات الثلاث وهدفها:
قلنا: إنّ هذه الآيات تلفت انتباه المسلمين للقتال «في سبيل الله» ، وقلنا: إنّ هذه الآيات التي تختزن النصر في هذا القتال ، وترشد المسلمين إلى أنّ النصر يتقوّم بثلاثة عناصر:
1ـ ضرورة عدم خشية الموت ووجوب الإيمان بأنّ الحياة والموت بيد الله ، وعليه : فينبغي القتال وعدم الخوف .
2ـ يتطلّب القتال في سبيل الله إعداد القوى والتجهّز والتعاون على مستوى المال والنفس .
3ـ أنّ الشرط الأساسي للنصر هو وجود القائد الكفوء ، الذي يستطيع توظيف القوى الإنسانية وتعبئتها على الوجه الحسن ، وعليه : فقصّة طالوت تكشف النقاب للمسلمين عن حقيقة وواقع ، وترى ضرورة وجود القائد الجدير الذي يحقّق النصر للمسلمين ، الأمر الذي أفادته قصة طالوت في إنشاد الإسلام لهذا الزعيم الرشيد ، القادر ، العالم والماهر ليستبسل المسلمين تحت رايته ويحقّقوا العزّة والافتخار ، ولا تفيد الآية كون الزعيم الإسرائيلي لابدّ أن يكون زعيماً كفوءاً قط ، بل رسمّت هذه القصة صورة هذا القائد الكفوء لتلفت نظر المسلمين إلى الشرائط التي تكهّن بها القرآن في القيادة ، ولا نرى أنفسنا بعد هذا الإيضاح بحاجة للقول: إنّ الدين الإسلامي لاينسخ الأُصول المسلَّمة لسائر الأديان ، وحيث لم يكن ناسخاً فإنّ شرائط القيادة والإمامة وإمرة الجيش في سائر الأديان قد روعيت في الإسلام .
وأمّا الإجابة على السؤال الثاني: أنّ إمرة الجيش سنخ من الشرائط . . .
فلابدّ أن نرى هل المراد بالملك في الآية الشريفة إمارة الجيش فقط ، أم أُريد بها معنى أوسع ولابدّ من التعبير عنه بالزعيم؟ فسّرنا ذلك في المباحث السابقة
(الصفحة 124)
بأمير الجيش أحياناً والزعيم أحياناً اُخرى ، وذلك أنّهم سألوا ملكاً ، وكان هدفهم في ذلك السؤال زعامة الجيش والقتال في سبيل الله ، ومن هنا عبّرنا أحياناً بأمير الجيش ، وبناءً على ما تقدّم فإنّ هذا الملك هو الزعيم .
ولذلك سوف لن يعود هنالك من مجال للسؤال في أنّ آمر الجيش طبق الموازين الطبيعية يجب أن يكون مقتدراً عالماً بفنون الحرب والقتال ، فهل هذه الشرائط معتبرة في الإمام؟ لأنّ الفرض كان يقوم على أساس أنّ الملك هو الزعيم والإمام ، فالآية الكريمة قد بيّنت شرط الزعامة والإمامة بصورة شاملة مطلقة وبمعنى أوسع من إمارة الجيش .
دليلنا:
دليلنا على أنّ المُراد بكلمة «الملك» ذلك المعنى الواسع ـ أي الإمام ـ هو اعتقاد الطبقة الاقطاعية من بني إسرائيل والنُبلاء ، بأنّهم أحقّ بالملك من غيرهم ، وذلك لأنّهم كانوا يرون أنّ الزعامة قضية وراثية ، ولا ينبغي أن ينهض طالوت بهذه الزعامة ; لأنّه ينتمي إلى طبقة فقيرة معدمة في المجتمع لم تكن ذات سابقة في الزعامة . ولذلك أوردنا برهانين أقامهما هؤلاء المعترضون على نبيّهم:
1 ـ الملك حقّ من حقوقنا ومنحصر في سلالتنا .
2 ـ طالوت لا ينتمي إلى طبقة ثرية ليصبح زعيماً .
القرآن بدوره فنّد هذه النظرية ليعلن أنّ الزعامة ليست قضية وراثية ولا ترتبط من قريب أو بعيد بالغنى والثراء ، بل هي منصب إلهي ، ينهض به من تتوفّر فيه شرائطه من قبيل القدرة والعلم والبسطة في الجسم والبصيرة بأوضاع المجتمع .
أضف إلى ما تقدّم أنّ الإسلام لا يرى الزعامة منصباً شكليّاً ، بل هو مقام رسمي مهمّ تكون بموجبه كافّة مقدّرات المسلمين بيد الزعيم ، أي لابدّ أن يكون