(الصفحة 81)
الأخلاقي والتعليم والتزكية عامّة للجميع ، فهي الآية الثانية من سورة الجمعة والآية 151 من سورة البقرة والآية 164 من سورة آل عمران التي ذكرناها سابقاً .
فالذي تفيده الآيات الواردة في هذا الباب هي:
1 ـ أنّ الأنبياء تلامذة مدرسة الوحي .
2 ـ الأنبياء أساتذة المجتمعات البشرية .
3 ـ تلامذة الأنبياء على قسمين: تلامذة متفوّقون يتعلّمون ويتزكّون مباشرة من قبل النبي وتعليمه الخاصّ ، وتلامذة اعتياديون يتلّقون تعليم النبي وهدايته وإرشاده العام .
4 ـ المهمّ في جميع هذه المدارس هو تعليم كتاب الله والحكمة ، فالله يعلّم أنبياءه كتابه من خلال الوحي كما يعلّمهم أسرار الخلقة والدين ، فيقوم الأنبياء بتعليم هذه الأُمور بصورة خاصّة إلى التلامذة المتفوّقين الذين يضاهون الأنبياء بلطف الله في إخلاصهم وطاعتهم وتسليمهم لله ، كما يقومون بأنفسهم أو بواسطة هؤلاء التلامذة الأكفّاء بتعليم هذه المواد العلمية إلى عامّة التلامذة .
إشكال مهمّ:
كان البحث في أن تستنبط قضية الإمامة من الكتاب ، وقد استشهدنا بالآيات المرتبطة بدعوة إبراهيم (عليه السلام) على أنّ مبدأ الإمامة قد طرح منذ زمان إبراهيم (عليه السلام) ، والشرائط التي ينبغي أن تتوفّر وتكتمل في الإمام هي الوقوف التام على كتاب الله وأسرار الدين ، واشتماله على النفس الزكية والروح السامية ، التي لا يشوبها أدنى دنس أو سابقة من شرك وظلم ورجس أخلاقي وعبادة للهوى والهوس والخرافات . وقد تمسّكنا ـ لإثبات هذا الأمر ـ بذيل الآية التي قالت:
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ . . .} والحال أنّ هذه الآية وردت بشأن تعليم وتزكية
(الصفحة 82)
عامّة المسلمين ، وقد ورد في القرآن قوله:
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْعَلَيْهِمْ آيَاتِهِوَيُزَكِّيهِمْوَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(1) .
وبناءً على هذا فكما يتمتّع الإمام بتعليم وتزكية النبي ، فإنّ هذا التعليم والتزكية يشملان عامّة المسلمين ، فأيّ امتياز للأئمة ورد في هذه الآيات؟ فكما أنّ النبي معلّمهم ومواده الدراسية هي الكتاب والحكمة والتزكية ، فهو معلّم الجميع ويعلّمهم ذات المواد ، فليس هنالك أيّ مزيّة للأئمّة على غيرهم ، في أنّهم تلامذة مدرسة الوحي ، وأنّ لهم اطّلاعاً وإحاطة بجميع كتاب الله وأسرار الشريعة ويشتملون على كافّة الكمالات الإنسانية ، فلو كانوا كذلك ، لكان كلّ تلميذ في هذه المدرسة كذلك أيضاً ; لأنّ الآيات لم تثبت سوى كون النبي (صلى الله عليه وآله) معلّماً لهم بصورة خاصّة ولعامّة الناس بصورة عامّة وكون المواد الدراسيّة نفسها .
هذه خلاصة الإشكال الذي قد يقتدح في ذهن مَن ليس له معرفة بالقرآن الكريم ، وهنا لابدّ من الالتفات إلى أصل القضية ليتّضح الأمر .
فقد سأل إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) أمرين مهمّين هما:
1 ـ بعث نبيٍّ من ذريّتهما من طائفة بني هاشم .
2 ـ قيام النبي المبعوث من هذه الطائفة بتعليم وتزكية طائفة من أهل بيت النبوّة ، بحيث ينهض رسول الله بهذه الوظيفة مُباشرة دون واسطة .
وبناءً على هذا فإنّ مثل هذا التعليم الخاص كان غاية ودعوة إبراهيم وولده إسماعيل (عليهما السلام) ، وقد أُجيبت دعوتهما ، أي قد بعث نبي من هذه الطائفة ، كما قام الرسول بوظيفته التعليمية مُباشرة ، ولا تعني استجابة الدعاء أنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) يريدان فيقوم النبي ويمارس وظيفته التعليميّة دون أن يكون للأئمّة من دور في هذا الأمر ، بل معنى استجابة الدعاء هو ظهور أفراد أشدّاء وأزكياء
- (1) سورة آل عمران: الآية 164 .
(الصفحة 83)
وعُلماءبكتاب اللهوآيات الرحمن ،ومن ذوي البصائر بفلسفة الدين وأسرار الخليقة .
ودليل هذا الظهور أنّهم في الوقت الذي يعيشون الإخلاص والتسليم ، وتنبض قلوبهم بالتوحيد وعشق الحق ، فقد كانوا يتضرّعون لأن يظهر مثل هؤلاء الأفراد في هذه الطائفة يتّصفون بالإخلاص في العبودية لله ، ويعيشون الانقطاع والتسليم لله والطهارة من كلّ رجس ودنس ، وعليه : فهذه الطائفة المخلصة كانت تمتلك الاستعداد الروحي ، وقد تعلّمت وتزكّت بفضل هذا الإستعداد في مدرسة الرسالة تحت إشراف النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وتعليمه الخاصّ .
ولعلّ كلمات أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهج البلاغة بشأن كيفيّة ترعرعه في حضن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والسموّ والكمال الذي بلغه في ظلّ العناية التي أولاها إيّاه النبي (صلى الله عليه وآله) ومنزلته الخاصّة لديه إشارة إلى هذا المعنى ، فقد قال (عليه السلام) : «وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره ، ويكنفني إلى فراشه ، ويمسّني جسده ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل . ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره . ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر اُمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً يأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحر فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوّة ، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته ، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلاّ أنّك لست بنبيّ ، ولكنّك وزير وإنّك لعلى خير»(1) .
- (1) نهج البلاغة لمحمد عبده: 436 ـ 437 .
(الصفحة 84)
فكلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) تجيب عن كلّ دعوات إبراهيم (عليه السلام) وتوضّح استجابة دعائه .
فقد سأل إبراهيم (عليه السلام) الله أن يتصدّى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لتعليم وتزكية طائفة من ذريّته ،فيقول أميرالمؤمنين (عليه السلام) :وضعني في حجرهوأناولديضمّني إلى صدره ، ويكنفني إلى فراشهويُمسّني جسده ، ويُشمّني عَرفه ، وكان . . . يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ،ويأمرني بالاقتداء به ، وقد جهد نفسه في تربيتي وتزكيتي حتّى أصبحت أرى مايرى وأسمع مايسمع ،ولم يعدهناك من فارق بيننا سوى في النبوّة وحقيقة الرسالة ، فلما رأى ذلك منّي قال (صلى الله عليه وآله) : إنّك لست بنبيّ ، ولكنّك وزير وإنّك لعلى خير .
فهؤلاء ـ أي بني هاشم ـ هم مفاد الآية
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ . . .} . أمّا سائر الآيات فليست لها من دلالة على قيام النبي بمثل هذه الوظيفة تجاه سائر الناس ، وذلك لأنّ سائر الآيات لا تفيد أنّ كافّة الناس يملكون استعداداً لتقبّل هذه التعليمات ، أو أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان مجبراً على أساس وظيفته الشخصيّة على إيصال كافّة الناس إلى تمام مراحل الكمال وتهذيب النفس وأسرار الدين ، بل كانت الوظيفة في أن يلقي النبي (صلى الله عليه وآله) دروسه العلمية التربوية ، ويحيط الآخرين علماً بالآيات القرآنية والأحكام والتعاليم الإسلامية والأسرار الدينية ، ولكن هل تبلغ الأُمّة تمام هذه المراحل وتحيط بكافّة أسرار القرآن وتسلّم لتعليمات محمّد (صلى الله عليه وآله) وآيات القرآن؟
لم تبحث مثل هذه الأُمور في الآيات القرآنية ، كلّ ما هنالك هو أنّ القرآن الكريم قد أكّد في أكثر من آية أنّ وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله) تجاه الناس ليست بإيصالهم إلى آفاق العلم والتهذيب والكمال ، بل وظيفته إضاءة الطريق والتعريف بمعالم الدين والطرق التربوية العلمية ، فمن أراد أن يبلغ هذه الحقائق وجب عليه أن يبذل جهده ويستفرغ وسعه في اتّباع المبادئ الإسلامية ، ومن لم يرد فعلى نفسه
{لاَ إِكْرَاهَ فِى
(الصفحة 85)
الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1) .
بل القرآن يؤكّد أنّ وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله) هي بيان الحقائق ، والأُمّة مكلّفة بالتفكير في هذه الحقائق واتّباعها:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(2) .
وأخيراً فإنّ القرآن لم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بحمل الناس بالقوّة على التعليم والتهذيب ، بل وظيفته الإبلاغ والإنذار ، ووظيفة الأُمّة التدبّر في التعاليم ، فقد صرّحت الآية قائلة:
{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ} (3)، بل سلب القرآن عن النبي (صلى الله عليه وآله) القيام بهذا الأمر:
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر}(4) .
وعليه : فالآيات لا تصرّح بأكثر من وظيفة عامّة للنبي (صلى الله عليه وآله) في إبلاغ القرآن والأحكام وسبل التعليم والتربية والتزكية ، والأُمّة مخيّرة بين الاتّباع وعدمه .
أمّا الآيات التي نحن بصددها وبقرينة أنّ طائفة بني هاشم بدعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) أنّها تمثّل العبودية والتسليم المحض لله ، وبقرينة وظيفة النبي بتعليمهم وتزكيتهم مُباشرة دون واسطة ، إلى جانب تصريح أمير المؤمنين (عليه السلام) بقيام النبي بهذه الوظيفة المهمّة ، وبقرينة ماهو أهم من دعاء الأجداد وهو إرساء مقام الإمامة ، فإنّ هؤلاء عُرفاء بفنون القرآن، وخبراء بفلسفة الأحكام ، وبُصراء بأسرار الكتاب ، وعلماء بحكمة الخليقة والكون ، وعليه فإنّنا نستطيع أن نقول بأنّ
- (1) سورة البقرة: الآية 256 .
- (2) سورة النحل: الآية 44 .
- (3) سورة ص: الآية 29.
- (4) سورة الغاشية الآيتان 21 ـ 22 .