(الصفحة 254)
وعليه : فمن نجى فليس ذلك بمستبعد .
بعبارة اُخرى ليس هناك من منافاة بين الخطاب العام في اللحاظ العام باستثناء فرد أو فردين .
إذن ، ففحوى رسالة الإمام: قافلتنا تتّجه إلى ميدان الحرب والقتال الذي سيخوضه الغيارى والأحرار من أجل الدفاع عن الحقّ ، هؤلاء الغيارى شهداء أدركوا الحقّ ، ومن لم يقم ويُدافع عن القرآن لا ينبغي أن يرجو أيّ نصر آخر .
الحديث الرابع :
قال ابن قولويه في كامل الزيارات أيضاً: حدّثني أبي (رضي الله عنه) وعلي بن الحسين جميعاً ، عن سعد بن عبدالله ، عن محمّد بن أبي الصهبان ، عن عبدالرحمن بن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد ، عن فضيل الرسان ، عن أبي سعيد عقيصا قال: سمعت الحسين بن علي (عليهما السلام) وخلا به عبدالله بن الزبير وناجاه طويلا ، قال: ثمّ اُقبل الحسين بوجهه إليهم وقال: «إنّ هذا يقول لي: كن حماماً من حمام الحرم ، ولأن اُقتل وبيني وبين الحرم باع أحبّ إلي من أن اُقتل وبيني وبينه شبر ، ولأن اُقتل بالطفّ أحبّ إليّ من أن اُقتل بالحرم»(1) .
تحقيق مختصر :
يرى ابن الزبير أنّ الخطر محدق بالإمام ، وهذا ما طرحه على الإمام ، غير أنّه يظنّ بأنّ الحرم من شأنه أن يدفع عنه هذا الخطر ، وهذا ما عبّر عنه بقوله: كن حماماً من حمام الحرم ، حيث يتمّع الحمام بالأمن في الحرم ، وابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أولى بهذا الأمان . إذن فالبقاء في ذلك الموضع المقدّس هو السبيل الأخير للأمان من المخاطر .
- (1) كامل الزيارات: 151 ح182 ، وعنه بحار الأنوار 45: 85 ح 16 .
(الصفحة 255)
أمّا الإمام (عليه السلام) فيرفض هذه النظرية ويطلع ابن الزبير على حتمية وقوع حادثة دون أن يُعرف للمكان من معنى في الحرم أم في موضع آخر . فقد اتّفقت كلمة الظلمة على قتلي وليس بإمكان حتى الحرم أن يمنحني الأمان ، وليس من الصواب أن أستجب لوقوع هذه الحادثة في الحرم الإلهي وأنتهك حرمته ، بل أنا حريص على عدم انتهاك حرمته ولو على بعد شبر ، وعليه : فسأغادر الحرم سريعاً لأدفع بهذه الحادثة الحتمية إلى كربلاء وأضرّج تربتها بدمي ، إنّي لأحب أن أستقبل هذه الحادثة التي لا مناص منها في الطفّ ، إنّي لأرغب بالشهادة في سبيل اعتلاء الحقّ وكلمة الإسلام على يد الجبابرة فَلِمَ لا أستشهد في كربلاء؟
هذه خلاصة من الحوار الذي دار بين الإمام (عليه السلام) وابن الزبير ، ونبذة عن نظرية الإمام بشأن الحركةوالحادثة الحتمية ،فهل يسعنا القول بأنّ الإمام كان يرجو النصر بفعل وجود الجيش الكوفي المقتدر والقوات الشعبية؟ لم اختار الإمام كربلاء من بين سائر مئات الأماكن والمواضع المحتملة؟ هناك مسافة شاسعة تمتدّ لمئات الأميال بين مكّةوكربلاء ،إمكانوقوع هذه الحادثة على بعد شبر من الحرم حتّى كربلاء قائم .
إذن ، فهناك مئات الأماكن التي يحتمل فيها وقوع مثل هذه الحادثة ، لم اختار الإمام (عليه السلام) من بينها ذلك المكان الذي لا يخالج ذهن أيّ فرد؟ لم تكن كربلاء آنذاك أكثر من أرض عادية ، وكان لابدّ أن تقع ـ على ضوء الأوضاع الطبيعية ـ تلك الحادثة في الكوفة التي تمثّل آنذاك مركز الخلافة ، فلِمَ أحبّ الحسين (عليه السلام) أن يدفن جسده الطاهر في كربلاء؟ لقد أشار (عليه السلام) إلى موضع بعيد عن الأذهان ، الأمر الذي يكشف أنّ الإمام كان مطّلعاً على تفاصيل الحادثة وما سيواجهه فيها من مصير . فوا أسفاه ، ينبري أحدهم ليصرّح أو يحتمل بأنّ الإمام لم يكن عالماً بتلك الأحداث . اللهمّ اجعل في قلوبنا نوراً وبصراً وفهماً وعلماً .
(الصفحة 256)زبدة الكلام :
شاهدنا أنّ أغلب التواريخ المعتبرة والأحاديث الموثّقة كانت أدلّة قطعية وشواهد حيّة على علم الإمام (عليه السلام) بشهادته في حركته إلى الكوفة ، الكوفة التي لم يكن من المقدّر لها أن تشهد انهيار حكومة يزيد وسقوطها بيد الإمام ، إلاّ أنّنا نريد أن نختصر الكلام ، وإلاّ فهناك التواريخ المعتبرة والأحاديث المستفيضة من الفريقين بشأن علم الإمام (عليه السلام) بحادثة كربلاء ، الحادثة الشديدة الصلة والحاسمة في مصير الإسلام وحياة المسلمين . والحق أنّنا نشعر بالخجل بالتحدّث عن علم الإمام (عليه السلام) والدفاع عن حريم الإمامة في عش آل محمّد (قم المقدّسة) المدينة التي شيّدت قبل ألف عام على دعائم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) حتّى وصفها أئـمّة الهدى بالمركز الذي يفيض بعلومهم على العالم ، بل نعتوها بأنّها حرم أهل البيت .
يعتريناالخجل أن نهدروقتنافي التحدّث عن أمر بمثابة الشمس في رابعة النهار . نعم ، نشعر بالخجل من أنّ الإمام (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة النجاة وخليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ممّن أمر بطاعته وولايته ، في حين يطالعنا من يتفوّه بأنّ الإمام زجّ بلا علم في حادثة مثّلت جوهرالإسلام وارتبطت مباشرة باستقامة الدين ، الخجل الذي يدعونا إلى الصمت الذي لا يفرزه سوى الحيرة والذهول والدهشة! إلاّ أنّه الصمت والسكوت الذي يتضمّن الإشارة إلى بعض الأدلّة الواردة بشأن علم الإمام (عليه السلام) :
1 ) جاء في الكامل لابن الأثير أنّ عمر بن عبدالرحمن نصح الإمام وحذّره من الحركة إلى الكوفة ، فجزاه الإمام خيراً وقال: «ومهما يُقضَ من أمر يكن أخذتُ برأيك أو تركته»(1) .
2) قصّة ورود أبي بكر الحارث بن هشام على الإمام ، فقال له الإمام (عليه السلام) : «جزاك الله خيراً ياابن عمّ فقد أجهدك رأيك ، ومهما يقضِ الله يكن» فقال : إنّا لله
- (1) الكامل لابن الأثير 4: 37 .
(الصفحة 257)
وعند الله نحتسب ياأبا عبدالله(1) .
3) على ما نقل أرباب المقاتل أنّ عبدالله بن عمر جاء لوداع الإمام في مكّة فقال «استودعك الله من قتيل»(2) .
4) قال صاحب مجمع البحرين: «روي أ نّه (عليه السلام) اشترى النواحي التي فيها قبره من أهل نينوى والغاضرية بستّين ألف درهم ، وتصدّق بها عليهم ، وشرط عليهم أن يُرشدوا إلى قبره ويضيّفوا مَن زاره ثلاثة أيّام»(3) ، فهل اشترى الإمام تلك الأرض بعد القتل؟ وهل كان عالماً بمرقده أم لا؟
5) كتب العلاّمة المرحوم السيد محسن الأمين العاملي صاحب أعيان الشيعة في مقتله لواعج الأشجان: «وجاءه عبدالله بن عباس وعبدالله بن الزبير ، فأشارا عليه بالإمساك عن المسير إلى الكوفة ، فقال لهما: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أمرني بأمر وأنا ماض فيه ، فخرج ابن عبّاس وهو يقول: واحسيناه»(4) .
كان الإمام (عليه السلام) ينهض بمسؤولية خطيرة كلّفه بهارسول الله (صلى الله عليه وآله) ،إذن فحقيقة الأمر شيء آخر ، ولم تكن دعوة أهل الكوفة وآراء خبرائها تشكّل الدوافع الحقيقية لهذه الحركة ، ولذلك فهم ابن عباس أنّ السبيل الذي ينتهجه الإمام لا رجعة فيه!
6) قال الأميني ـ في نفس الصفحة من الكتاب المذكور ـ: «ثمّ جاءه عبدالله بن عمر فأشار عليه بصلح أهل الضلال وحذّره من القتل والقتال ، فقال له: يا أباعبدالرحمن أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل ـ إلى أن قال: ـ وأيم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتّى يقتلوني ، والله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في
- (1) مروج الذهب 3 : 56 .
- (2) انظر لواعج الأشجان: 74 ، بحار الأنوار 44: 313 .
- (3) مجمع البحرين 3: 1560 ، مادّة «كربل» .
- (4) لواعج الأشجان: 72 .
(الصفحة 258)
السبت ، والله لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلّط عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلّ من فرام(1) المرأة»(2) .
فعبدالله يتوقّع حادثةويقرّالإمام توقّعهويفشي له الأسرار . نعم ، كلّ من تحدّث عن الشهادة فإنّ الإمام (عليه السلام) كان يؤيّدحديثهويبيّن المأساة التي ستقع من خلال التصريح أوالتلويح ، فهل نقول هنا أيضاً بأنّ الإمام قد انطلق راجياً للسفر من مكّة ولم يتبدّل هذا الرجاء يأساً حتّى أواخر حياته الشريفة ، اللهمّ إلاّ للحظات قبل شهادته؟ هل هذه هي نتيجة التحقيقات؟ وهل مثل هذا الحكم حصيلة للتأمّل والتمعّن في الأدلّة والأخبار؟هل هذه الصورةوليدة التفكيرالصحيح؟وهل هذه الأفكارنابعة من إدراك للحقائق؟ هل هذه الاُمور من شأنها رفع مقام الإمام (عليه السلام) ؟ هل مثل هذا الكتاب يعدّ خدمة للعلم والمعرفة؟ وهل هذه الأفكار ستقضي على الشبهات؟ وهل وهل . . . نترك الإحابة إلى الضمائر الحيّة والعقول البعيدة عن التقوقع والتعصّب .
شهادة الإمام في كربلاء على لسان أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم:
لقد ابتلّت تربة كربلاء بدموع علي بن أبي طالب (عليهم السلام) لخمس وعشرين سنة قبل وقوع الحادثة ، ولم ينس مسجد الكوفة حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) لسعد بن أبي وقّاص في أنّ ولده المشؤوم سيقتل ابنه الحسين (عليه السلام) (3). أمّا النبي (صلى الله عليه وآله) فقد صدع قبل ولادة يزيد قائلا: «مالي وليزيد لا بارك الله فيه ، اللهمّ العن يزيد»(4) .
وابن عبّاس هوالذي نقل حديث النبي (صلى الله عليه وآله) ، فكان يعلم على سبيل الجزم بحادثة
- (1) الفرام ـ بالفاء المفتوحة ـ : خرقة الحيض .
- (2) لواعج الأشجان: 72 ـ 73 .
- (3) كامل الزيارات: 155 ح 191، الأمالي للصدوق: 196 مجلس 28 ح 207، وعنهما بحار الأنوار 42: 146 ح 6 و ج 44: 256 ح 5.
- (4) مثير الأحزان لابن نما الحلّي: 22، وعنه بحار الأنوار 44: 266 ح 24 .