(الصفحة 264)الكتاب والخطأ الرئيسي الثاني :
الخطأ الرئيسي الثاني الذي ارتكبه مؤلّف كتاب «شهيد جاويد» هو الضرر الذي ألحقته حادثة كربلاء بالإسلام ، ونورد هنا بعض نماذج الكتاب التي تفيد هذا المعنى:
1 ـ قال في جوابه لما قاله محبّ الدين الخطيب من أنّ حركة الحسين بن علي (عليهما السلام) قد حاقت خسارة بالحسين والإسلام والمسلمين إلى يوم القيامة: «حكومة يزيد لا الحسين بن علي (عليهما السلام) هي التي وجّهت تلك الضربة للإسلام» . وعليه : فهو يقرّ بموضوع الخسارة ، إلاّ أنّه ينسبها فقط إلى يزيد .
2 ـ لوّح في النقاط 1 ، 2 ، 3 ـ في عنوان «هل كان قتل الإمام (عليه السلام) بنفع الإسلام أم لا ـ إلى أنّ قتل الحسين (عليه السلام) لم يكن له أثر مطلوب على الإسلام ، وقال: لقد قويت شوكة بني أُميّة وظنّوا أنّ النفع الوحيد الذي جناه الإسلام هو أنّ حكومة يزيد أصبحت ضعيفة لبضعة أيّام إثر قتل الإمام الحسين (عليه السلام) .
3 ـ قال في ص378 «وإذا كان المراد هو أ نّ الشيعة قد انتظمت بقتل الإمام فلابدّ من القول بأنّ الشيعة قد قويت شوكتهم من جانب بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) ، وضعفت من جانب آخر . . . إلى آخره ، ثمّ تابع هذا الموضوع في ص379 .
4 ـ ثمّ قال في ص382 ـ في بحث بعنوان زبدة الكلام ـ : «لا يمكن قبول الفكرة القائلة بأنّ الإسلام قد انتعش بقتل الحسين (عليه السلام) » ولا يمكنه أن يقول: مرادي أنّ قتل الحسين (عليه السلام) أدّى إلى الإضرار بالإسلام ، من حيث إنّ الجريمة قد ارتكبت من قِبل قاتلي الحسين (عليه السلام) ; لأنّنا لا نرى عاقلا ينكر أنّ قتل الحسين (عليه السلام) ضرر جسيم وجريمة لا تُغتفر ، بل مرادك أنّ حادثة كربلاء وقتل الحسين (عليه السلام) كانت ضرراً على الإسلام ، وهذا ما أوردته في ردّك على محبّ الدين في الدفاع عن هذا الضرر بأنّ
(الصفحة 265)
يزيد قد وجّه هذه الضربة للإسلام ، فهل يمكن نسبة قتل الإمام لنفسه؟ حتّى نتّهم يزيد في مقام تبرئتنا للإمام ، وعليه : فقصدك من قتل الإمام شهادته وأنّ تلك الشهادة كانت بضرر الإسلام ، حيث قلت: يزيد هو الذي أضرّ بالإسلام .
والشاهد الآخر ما ذكرته في قولك: «لا نفهم ما يُقال من أنّ الإسلام قد استعاد حياته بقتل الحسين (عليه السلام) »; لأنّك لم تفترض الضرر من أجل نفس القتل ، بل من أجل القتل وحادثة كربلاء ، وهذا ما صرّحت به في ص383 حين قلت: «لا يسعنا أن ندرك هذا الأمر ،فكيف للإسلام بالاستقرار والتماسك في فقدانه لزعيمه وناصره» .
فالتعبير كان بالفقدان ، والفقدان غير القتل ، وعلى هذا الضوء فقد ألغيت فريضة الجهاد بالكامل ; لأنّ المعركة لا تستتبع دسومة ، وغالباً ما يؤدّي الجهاد إلى إزهاق أرواح القادة الصلحاء ، أو ليس فقدان مثل هؤلاء القادة يضرّ بالإسلام؟ فَلِمَ الجهاد؟ ولعلّ هناك من يقول في الجواب: إنّ فقدان مثل هؤلاء القادة هو دفاع عن الإسلام وهذا الدفاع مفيد .
نعم ، قد نقول في الجواب: إنّ الهدف هو الدفاع ، ولكنّه يتطلّب التضحية فلا يتحقّق إلاّ في فقدان الزعماء الصلحاء ، الدفاع هو الذي يروي شجرة الإسلام ويبقي على حياتها ، وعليه : فالإسلام يمكن أن يستعيد حياته بقتل الإمام الحسين (عليه السلام) ، وهذا ليس بممتنع ، لنتساءل لاحقاً هل تحقّق هذا الإمكان ؟ نعم لقد تحقّق هذا الأمر ، شريطة أن لا يقتصر بالنظر على عصر حكومة بني أُميّة وبني العباس ، فالحادثة ـ وكما سنتطرّق إليها لاحقاً ـ قد انطوت منذ يومها الأوّل على آثار قيّمة وفوائد جمّة .
5 ـ قال في ص 393 ـ 394 تحت عنوان ذلّة الاُمّة: «وهنا لابدّ من القول بأنّ الاُمّة الإسلامية بعد قتل الحسين (عليه السلام) أصبحت أكثر ذلّة و خنوعاً تجاه
(الصفحة 266)
حكومة يزيد» .
وواضح أنّ هذه العبارة تُفيد أنّ نهضة الحسين وشهادته قد أذلّت الإسلام ، غير أنّ الإمام (عليه السلام) لا ذنب له . نعم ، الواقع أنّه لا يمكن إنكار تجبّر يزيد وتنامي شوكته عدّة أيّام بُعيد الحادثة ، إلاّ أنّها لم تجلب الذلّ والهوان على الناس ، بل كانت الاُمّة تعيش حالة من الذلّ والهوان التي تبددت بفضل تضحية الحسين (عليه السلام) ودمه الشريف .
هذه بعض النماذج من عبارات الكتاب الذي يعتقد مؤلّفه كالآخرين بأنّ حادثة كربلاء كانت خسارة .
حادثة كربلاء نفخت الروح في جسد الإسلام:
من المُسلّم به أنّ الإسلام أو أيّ قانون يهدف إلى إشاعة الحرّيات والمساواة وإيصال الإنسان إلى الكمال إنّما يرتطم ببعض العوائق والعراقيل المؤلمة ، التي لا يمكن تفاديها ألبتّة في هذه المسيرة الشاقّة . فالقوانين الإلهية القائمة على أساس العدل والعلم ومساواة الضعيف بالقوي وكون الجميع سواسية في الحقوق والواجبات ، لا مناص لها من الاصطدام بمصالح الطغاة من أصحاب الطمع والشهوة والعناد والجهل . فهذه القوانين السماوية لا تنسجم والشهوات الطائشة والقدرة الزائفة والعاتية التي تسحق الضعفاء والتي تستند إلى هضم حقوق الاُمّة والتلاعب بمقدّراتها ، وعليه : فالمعركة بين الطرفين قائمة على قدم وساق .
الجهاد في الإسلام :
يسعى الإسلام بادئ الأمر ـ وعلى هامش الحرية الفكرية والإرادة في العمل ـ في التزام منهج الوعظ والنصح للأعداء أملا في إعادتهم إلى جادّة الصواب ،
(الصفحة 267)
إلاّ أنّ البعض لا يستجيب لمثل هذا الاُسلوب ويوغل في الغيّ والعدوان ، وهذا ما تلمسه بوضوح في القرآن الكريم في سرده لقصص الأنبياء مع اُممهم ، ثمّ يندفع هؤلاء الأفراد أبعد من ذلك ليخطّطوا لتفنيد تعاليم الأنبياء ونظمهم الاجتماعيّة ، وبالتالي إرعاب الاُمّة وزعزعة دعائم الأديان والشرائع . فإذا ما أغلقت جميع الأبواب بوجه الدين وغاب الأمل في هدايتهم ، كان لا مناص له من اللجوء إلى القوّة وبروز فلسفة الجهاد بالأموال والأنفس .
نعم ، لقد بني الدين على العفو والرحمة والتساهل والمرونة ، إلاّ أنّ هذه المفردة مؤطّرة بأطر لا ينبغي أن تتجاوز حدودها ، وهذا ما عبّرت عنه الآية الشريفة:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِم مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ}(1) .
إذن ، فالجهاد في الإسلام وسيلة من أجل الدفاع عن حياض الدين وتحرير الاُمّة من براثن القوى السلطوية الغاشمة ، بل الجهاد من الفرائض الواجبة التي يتوقّف عليها وجود الإسلام والمسلمين .
أمّا الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه هو أنّ الدفاع يشمل كافّة الوسائل ولا يقتصر على القتل ، لابدّ من القيام مهما كانت النتائج ، ومن الخطأ الاعتقاد بأنّ الإسلام أكّد على قتل الكفّار ، ففي قتلهم نفع الإسلام وأنّ فقدان الأولياء ضرر والقتل فيهم ليس بمطلوب .
فهذا القرآن يتبنّى مواقف الشهداء ويشيد بهم ويصرّح بدرجاتهم ، فالشهيد قيمة حيّة ، والشهيد من يقتل دفاعاً عن الدين . إذن فالقتل من أجل الدفاع
- (1) سورة البقرة : الآية 109 .
(الصفحة 268)
مطلوب ،
{وَلاَتَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً . . .}(1) فهل الآية الكريمة تأمر بالقتل أم تحضّ على الشهادة في سبيل الله وإشاعة التوحيد والعبودية؟
نعم ، الشهادة محبوبة لدى الله والقرآن ، ليس هنالك من سبيل للظفر بشيء دون ضريبة ، فالبذرة تدفن نفسها في التراب لتصبح شجرة ، وذلك يقتل لتحيا اُمّة وتنعم بالحرّية والسعادة ، ولذلك ترى أولياء الله توّاقون للشهادة ، فعدمهم يمنحهم ويمنح الآخرين الوجود ، فأملهم الدائم «وقتلا في سبيلك»(2) ، كما تراهم يتسابقون إلى الموت في المعارك وقد مشى إليه بعضهم عن علم بالشهادة . أجل ، أولياء الله يعشقون الشهادة ، فشجرة الإسلام قد تتطلّب أحياناً سقيها بالدماء ، وهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) يُصرّح في عهده الذي عهده إلى مالك الأشتر: «وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة» (3).
لا يسع البعض أن يستوعبوا حياة الإسلام وتنامي شوكته بسبب فقدان زعمائه وحماته ، فهذا القول لا ينطوي سوى على إنكار فلسفة الحروب والمعارك ، وهل الحرب لعبة أو نزهة فلمَ الأمر بالجهاد؟ لِمَ كان الرسول يشترك بنفسه في المعارك؟ لِمَ برز علي بن أبي طالب (عليه السلام) لعمرو بن عبد ودّ؟ ولِمَ ضُرّج أولياء الله كعمّار بن ياسر بدمائهم في معركة صفّين؟ ولِمَ كان الشهداء في مصاف الأنبياء؟ لِمَ كان الحسين (عليه السلام) يأذن لفتيته في القتال؟ لِمَ كلّف أخيراً ذلك الصبي الذي لم يكن له سوى ثلاث عشرة سنة بالقتال؟ يُقال: دفاعاً عن الإسلام ، فنقول: إذا كانت هذه عاقبة الدفاع عن الإسلام بحيث يؤدّي إلى فقدان الإمام فهذه هي وظيفته ، والإسلام عزيز منيع بهذه الوظيفة . أو لم يُقتل أنبياء بني إسرائيل
{وَقَتْلِهِمُ اْلأَنْبِيَاءَ
- (1) سورة آل عمران: الآية 169 .
- (2) إقبال الأعمال 1: 143 ، قطعة من دعاء ليالي شهر رمضان .
- (3) نهج البلاغة لمحمد عبده: 625 .