(الصفحة 102)
انتخاب طالوت؟ نحن لا نراه لنا زعيماً ، ولا نرى له من مقام ، والزعامة والقيادة من حقوقنا المسلّمة ، فلدينا الثروة والأموال . هذه هي اللغة التي اعتمدها الأثرياء والأغنياء في اعتراضهم على الأمر .
فأجابهم نبيّهم قائلا: أنا رسول الله ولا أنطق إلاّ عن الوحي ، وقد اختار الله القادر الحكيم طالوتَ لإخلاصه ملكاً عليكم ، فكيف ترون أنفسكم أحقّ بالإمامة والزعامة من أجل خلاص وطنكم وإنقاذه من أيدي الظلمة ، والحال ليس لكم سوى مزيّة فارغة لا تقوى أن تمنحكم ما تريدون! كيف ترون لباس الزعامة يسعكم وليس لكم من أفضلية على الآخرين سوى هذه الثروة المزيّفة؟! وهل للثراء من سبيل إلى الزعامة؟! فما العلاقة بين المال والثروة وزعامة المجتمع!
أمّا طالوت فهو جدير بمقام الإمامة والزعامة ، لاشتماله على شرائطها ومقوّماتها ، فهو عالم مقتدر ذو بسطة وقدرة بدنية تؤهّله للصمود أمام العدوّ ، بل هو أشجع المقاتلين . إنّ إمامة الأُمّة وزعامة الجيش في الحرب من أجل إحقاق حقوق الضُعفاء إنّما تتطلّب فرداً عالماً ، ملمّاً بفنون القتال ، شجاعاً ومقداماً ومتماسكاً أمام العدو ، قادراً على السيطرة على الجيش وتحقيق النصر ، وقد جُمعت كلّ هذه الصفات في طالوت .
طالوت الذي يمكنه أن يكون إماماً ، بفضل اشتماله على مقوّمات الإمامة ، ينبغي أن يكون له الملك حتّى يحقّق الاستقلال ، ويستعيد الأراضي السليبة ، ويعيد النساء والأطفال إلى أحضان آبائهم ، ويستردّ الأموال والثروات التي نهبها الأعداء ، وهذا هو الغرض من الزعامة والإمامة ، وإذا لم تكن هذه الأُمور متوفّرة في الإمام فأنّى له حفظ استقلال البلاد وسيادتها ووحدة أراضيها ودحر العدوّ الطامع؟! فالملك لله ، يؤتي ملكه من يشاء ، وليس لكلّ فرد التصرّف في هذا الملك ، وهو العالم بمَن يسعه القيام بمهمّة الإمامة ومن هو أولى بها من غيره ، وليس بينكم
(الصفحة 103)
من هو أولى بها من طالوت .
نعم ، إنّ الله يؤتى ملكه من تعلقّت به مشيئته ، وتعلّق المشيئة ليس أمراً اعتباطياً ، فلم تتعلّق مشيئة الله بطالوت عبثاً ، وما ذلك إلاّ لإخلاصه وعلمه الذي جعل الله يختاره ملكاً واِماماً على الناس .
خلاصة هذا البحث:
يمكن خلاصة ما مرّ من الدراسة المفصَّلة في الآية القرآنية الشريفة: ـ
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
لم يستجب قوم بني إسرائيل وخاصّة الملأ منهم لهذا النبيّ كعدم استجابة الغالبية من الناس لدعوات الأنبياء (عليهم السلام) ، فاضطرّ ذلك النبي للإتيان بشاهد حيّ لتأييد صحّة قوله ، وليفهم الجميع بأنّ لطالوت صلاحية الملك والإمامة ، ولنفهم نحن أيضاً ماهو الشرط الآخر الذي ينبغي توفّره من أجل الإمامة والشاهد الحيّ هو «التابوت» .
التابوت:
وردت كلمة «التابوت» في هذه القصّة القرآنية ، والألف واللام في الكلمة تفيد كون ذلك التابوت معرفة ، أي كان معروفاً من قِبل بني إسرائيل . والذي نفهمه من القرآن أنّ ذلك التابوت كان يضمّ بعض الودائع ـ التي من شأنها إشعار بني إسرائيل بالسكينة ـ وآثاراً تركها موسى وهارون (عليهما السلام) ، ويعبّر القرآن عن هذه الصورة بقوله:
{يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى
(الصفحة 104)
وَآلُ هَارُونَ} . وقبل الخوض في التفاصيل لابدّ من القول بأنّ التابوت يعني الوعاء والصندوق . فقد ورد في اللغة أنّ التبوت ، كصبور : لغة في التابوت(1) . وقيل : هو صندوق التوراة من خشب(2) . وأمّا الأُمور التي تستفاد من الآية فهي:
1 ـ أنّ ذلك الصندوق كان يضمّ ودائع وأمانات توجب سكينة الإنسان .
2 ـ كانت تلك الودائع تحمل السكينة بعناية الله ولطفه .
3 ـ نفهم من مناسبة الحكم والموضوع ـ أي الشيء الذي يؤدّي إلى سكينة بني إسرائيل ـ أنّ ذلك الصندوق كان يضمّ بلا شكّ التوراة أو بعض آياته ، لأنّ التوراة التي من شأنها سكن وهدوء بني إسرائيل .
4 ـ يفهم من العبارة «وبقية . . .» أنّ ذلك الصندوق لم يضمّ التوراة لوحدها ، بل كانت هناك الأشياء التي تناقلتها أيدي أهل موسى وهارون من قبيل عصا موسى وما شابه ذلك .
5 ـ أنّ الصندوق قد نهب ، وهو الأمر الذي جعل بني إسرائيل يشعرون بالتذمّر ; لأنّه كان يرمز لعظمتهم إبّان عصر موسى وهارون (عليهما السلام) ، وواضح أنّ الصندوق قد سلب منهم بسبب عدم كفاءتهم ، كما ليس لهم القدرة على إعادته .
6 ـ كان بنو إسرائيل مطّلعين على أهمّية ما يحمل من أسرار .
7 ـ أنّ لكلِّ مَن يسعه الإتيان به جدارة زعامة الأُمّة وقيادتها .
ولذلك اعتبر ذلك النبي أنّ أفضل دليل على كفاءة طالوت وأهليته للملك تكمن في إتيانه بذلك الصندوق ، كما أنّ بني إسرائيل سيقرّون بصلاحية طالوت والإذعان بعجزهم وعدم صلاحيتهم إذا ما قام طالوت بتلك الوظيفة الخطيرة ، وخلاصة ما أوردناه قد ورد في هذه الآية الشريفة:
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ
- (1) تاج العروس 3: 25 .
- (2) مجمع البحرين 1: 233.
(الصفحة 105)
أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ} . ثمّ إنّا وقد استفدنا من الآية الكريمة ماذكرناه وقلنا: إنّ ظاهر الآية الشريفة تدلّ على المطلوب، لكن مع غضّ النظر عن ذلك نشير إلى رواية واردة حول تفسير الآية الشريفة .
حديث أبي بصير:
علي بن إبراهيم قال: حدّثني أبي ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى الحلبي ، عن هارون بن خارجة ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ بني إسرائيل بعد موت موسى عملوا بالمعاصي وغيّروا دين الله وعتوا عن أمر ربّهم ، وكان فيهم نبي يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه ، فسلّط الله عليهم جالوت ; وهو من القبط ، فأذلّهم وقتل رجالهم وأخرجهم من ديارهم وأموالهم واستعبد نساءهم ـ إلى أن قال ـ فقال لهم نبيّهم: «إنّ آية ملكه . . .» وكان التابوت الذي أنزل الله على موسى فوضعته فيه اُمّه وألقته في اليمّ ، فكان في بني إسرائيل معظّماً يتبرّكون به ، فلمّا حضرت موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوّة وأودعه يوشع وصيّه ، فلم يزل التابوت بينهم حتّى استخفّوا به ، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات ، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ وشرف ما دام التابوت عندهم ، فلمّا عملوا بالمعاصي واستخفّوا بالتابوت رفعه الله عنهم ، فلمّا سألوا النبيّ بعث الله تعالى طالوت عليهم ملكاً يُقاتل معهم ردّ الله عليهم التابوت»(1) .
ونفهم من هذا الحديث ما يلي:
1 ـ اهتمّ القرآن الكريم اهتماماً كثيراً بقضية الإمرة والزعامة ، وليس لأيّ فرد النهوض بهذه المهمّة .
- (1) تفسير القمّي 1: 81ـ 82 ، وعنه بحار الأنوار 13: 438 ح 4 .
(الصفحة 106)
2 ـ ينبغي أن يكون الزعيم الديني عالماً ومقتدراً ، أي يمتلك العلم والقدرة .
3 ـ لابدّ أن يكون بصيراً ملمّاً حتّى بفنون القتال .
4 ـ يجب أن يتمتّع بقدرة بدنية مرموقة .
5 ـ لابدّ أن يتحلّى بحنكة الزعامة .
6 ـ يجب أن يرد ميدان الحرب بنفسه إذا اقتضت ذلك مصالح الأُمّة .
7 ـ لابدّ أن يكون شجاعاً باسلا في الحروب .
8 ـ يجب أن يحفظ استقلال البلاد ويستأصل جذور الاستعمار .
9 ـ لابدّ أن يعيد إلى الأذهان أمجاد الماضي التي اعتراها النسيان .
وعليه : فخلاصة الشروط التي يراها القرآن الكريم في منصب الزعامة تتمثّل بالجدارة ، العلم ، القدرة ، الخبرة بأوضاع المجتمع ، سلامة الجسم ، الإحاطة بفنون القتال ، الشجاعة والإقدام والتدبير ، كما يفهم من الآيات أنّ الزعامة منصب إلهي ، والله هو الذي ينصّب الزعيم .
قولنا أم قول المفسّرين؟
نحن نقول بأنّ التابوت كان بيد جيش جالوت ، وكان باستطاعة طالوت أن يستعيده ، وهذه العملية المعقّدة كانت دليلا على صلاحيّته لإمرة الجيش والزعامة ، إلاّ أنّ القرآن الكريم يقول: يأتيكم التابوت . أوليست هذه العبارة تؤيّد تلك الطائفة من المفسّرين التي قالت بأنّ التابوت قد رفع إلى السماء وإنّ رجوعه من السماء معجزة تبيّن صحّة قول النبي بشأن إمرة طالوت؟ فقد جاء التابوت ورآه بنو إسرائيل فأذعنوا لزعامة طالوت وتأهّبوا للقتال ، وهلاّ كانت عبارة «وتحمله الملائكة» تؤيّد أقوال المفسّرين؟