(الصفحة 111)
وعلى كلّ حال ، في القرآن الكريم آيات ناسخة لآيات أُخرى ، والآية المنسوخة باقية على حالها مدوّنة في القرآن ، والنسخ لا يعني إزالة صورتها من كونها آية ، فهي باقية ومحفوظة من حيث النزول ، ولكن لم يعدّ لها من أثر ، وفقدان الشيء لأثره يعني في الواقع زواله وتساوي وجوده وعدمه . . .
إذن ، فالنسخ لا يعني شيئاً أكثر من زوال الأثر . وبعبارة أوضح: فإنّ نسخ الآية هو عبارة عن إزالة حكمها واستبداله بحكم الآية الثانية «الناسخة» . ونخلص من هذا إلى أنّ نسخ الآيات إنّما يقتصر على الآيات المتعلّقة بالأحكام ، ولا يسري هذا النسخ أبداً إلى الآيات التي تتعرّض إلى الحقائق المسلّمة التي لا يعتريها التغيير . أفيمكن تصوّر النسخ بحقّ الآية الشريفة
{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ}؟ أو يمكن زوال الحقائق الثابتة والدائمة؟
ولمّا كانت الأديان واحدة في العقائد ، وقد نهض جميع الأنبياء بمهمّة هداية الاُمم لهذه العقائد ، فإنّه يمكننا القول بأنّه ليس هنالك من دين ينسخ آخر من حيث الاُصول العقائدية ، فالاعتقاد بالله والثواب والعقاب والحساب وصفات الجمال والكمال إنّما هي من الحقائق المسلّمة التي تأبى التغيير والزوال ، ولذلك فإنّ النسخ إنّما يكون في الشرائع .
وبعبارة أُخرى : لابدّ من الإذعان بأنّ الدين الإسلامي ليس بناسخ لنبوّة ورسالة من كان قبله من الأنبياء ، بل القرآن ناسخ لشرائع سائر الأنبياء ، فهذا القرآن لا ينفكّ يؤكّد أنّ الكتاب السماوي الإسلامي
{مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}(1)
{مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ}(2) .
{مُصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ}(3) .
{مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ}(4)
- (1) سورة البقرة : الآية 89 ، 101 .
- (2) سورة آل عمران : الآية 81 .
- (3) سورة الأنعام: الآية 92 .
- (4) سورة البقرة : الآية 41 ; سورة النساء : الآية 47 .
(الصفحة 112)
{مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} (1) ، و
{مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ . . .}(2) .
ولكن لا ينبغي أن نغفل عن قضية ، وهي أنّ كلّ ما يقوله موسى وعيسى (عليهما السلام) بالنسبة لله ، يقوله خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) ، فالجميع يصفون الله بأنّه حكيم وقدير وعليم وسميع ، غير أنّ أُسلوب الأنبياء يختلف في معرفة حقيقة كون الله حكيماً وسميعاً وعليماً و . . . لأنّ أتباع الرسل يختلفون في درجة الفهم والإدراك ، بل حتّى الأنبياء يختلفون في مدى إدراكهم لجميع المغيّبات
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض}(3) .
فالأُمّة الإسلامية قد بلغت آخر مراحل الفهم والإدراك ، ومن الطبيعي أن تكون الحقائق التي تطرح على هذه الأُمّة متعذّرة الفهم والإدراك على الاُمم الماضية ، وأنّ الحقائق والإدراكات والأنوار التي أفاضها الله على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لايسع سائر الأنبياء تحمّلها واستيعابها .
فالحقائق في كافّة الأديان واحدة ، غير أنّ طرق التعرّف عليها متشعّبة ، وكلّما تطوّرت العلوم والمعارف تعمّق هذا الفهم والإدراك بالنسبة للحقائق ، ولذلك يمكن القول بأنّ محمّد (صلى الله عليه وآله) قد سلك آخر مراحل التوحيد ، وللاُمّة الإسلامية فقط وبفضل التطوّر العلمي الذي تشهده أن تبلغ ما تشاء من الدرجات ، فقد فتح الإسلام الباب على مصراعيه أمام أتباعه ، ولا يسعنا هُنا أن نخوض أكثر في هذا المجال .
وعلى كلّ حال تتفق كافّة الأديان في أُصولها العقائدية ، وليس هناك من نسخ بهذا الخصوص .
والإمامة والزعامة جزء من أُصول الأديان ، حتّى أنّنا قلنا بأنّ الأنبياء إنّما
- (1) سورة البقرة : الآية 91 .
- (2) سورة المائدة : الآية 46 .
- (3) سورة البقرة : الآية 253 .
(الصفحة 113)
يحرزون مقام الإمامة بعد اجتيازهم لعدد من الاختبارات والتمحيصات .
وعليه : فالشرائط التي ينبغي توفّرها في الإمام إن كانت معتبرة في زعامة بني إسرائيل فهي بطريق أولى واجبة التطبيق في الإسلام .
بعبارة اُخرى: إذا كان طالوت ينبغي أن ينصّب من قِبل الله قائداً للجيش فقط ، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) الحاكم المطلق لعالم الإسلام يجب أن ينصّب أيضاً من جانب الله ويقوم بوظيفة الإمامة ، وإن كان شرط إمرة طالوت يتمثّل بالقدرة العلمية ، والخبرة بفنون الحرب والقتال والكفاءة والجدارة ، وحفظ استقلال بعض المناطق ، فلابدّ أن تتوفّر قمّة هذه الشرائط في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، ولا يمكن القول بأنّ الإسلام لا يلتفت لهذه الأُمور بدون اقتضاء ولا شرط ، وأنّ إمام المسلمين سواءً كان عالماً أم لم يكن ، كفوءاً أم ليس بكفوء وما إلى ذلك ليست قضية مهمّة من وجهة نظر الإسلام الذي يمثّل آخر مراحل السير التكاملي للبشرية .
وعليه : فقد اتّضحت النقطة الأُولى من الإجابة على السؤال الأوّل ، مع ذلك نواصل طرح النقطة الثانية ليتّضح الأمر أكثر .
النقطة الثانية :
يمكن تناول النقطة الثانية من زاويتين:
زاوية عمومية وتحقيقية بشأن قصص الأُمم المذكورة في القرآن الكريم ، والهدف من هذا البحث هو التحقيق بشأن علّة سرد قصص الأُمم السالفة في القرآن الكريم ، والوقوف على الهدف العقلائي والمراد الأساسي الذي أراده الكتاب السماوي من طرح هذه القصص .
والزاوية الثانية في دراسة القصّة التي نحن بصددها وقصة طالوت وبني
(الصفحة 114)
إسرائيل . وبالطبع فإنّ النتائج التي توصّلنا إليها في الزواية الأُولى تعتبر مفيدة للحصول على النتائج من الزاوية الثانية ، وكذلك في الإجابة على السؤال الأوّل . أمّا إذا أردنا أن نخوض بالتفصيل في العنوان الأوّل فإنّ ذلك سيبعدنا عن البحث الأصلي «شرائط الإمامة من وجهة نظر القرآن» ولذلك سنمرّ سريعاً على العنوان الأوّل .
العنوان الأوّل: قصص الأنبياء والاُمم الماضية:
لقد وردت قصص الأنبياء كثيراً في القرآن الكريم ، وقد تكرّر بعضها ، ولكن أصل القصّة لم يتكرّر في الحقيقة ، بل كان الاستنتاج متنوّع في نقل الحوادث في مختلف الموارد . ولابدّ من القول بأنّ تعليم الأُمّة الإسلامية كان من الأهداف الأصيلة البارزة في التعرّض لتأريخ الماضين ، تعليمهم السبل التي تؤدّي إلى السعادة والشقاء ، وإلفات النظر إلى ردود الفعل التي أبدتها الأُمم السالفة إزاء دعوة الأنبياء والنتائج التي ترتبت على كلّ ردّ فعل ، إلى جانب تنبيه الأُمّة الإسلامية إلى الاُصول الروحية وأُسلوب تفكير سائر الاُمم ، ولا سيّما أهل الكتاب وأوضاعهم الأخلاقية . فمثلا تعرّضت عدّة آيات من سورة البقرة إلى أوضاع أهل الكتاب ولاسيّما اليهود ، ليقف المسلمون على طبيعة أخلاقهم واُسلوب تفكيرهم ومدى العداء الذي يكنّونه للإسلام والقرآن ، فلا يتّخذونهم أولياء ويظهرون لهم المودّة أبداً ، بل يكونوا على حذر من هذه الأُمّة العنيدة والخطرة .
وعلى هذا فإنّ هناك تعليمات تجاه نوع من الأُصول المسلّمة التي تأبى التبدّل والتغيّر ، وإلاّ لو كانت مرنة يمكن أن تعتريها حالة التغيير ، لما كانت من قبيل الأُصول الكلّية التي ينبغي تعليمها الأُمّة الإسلامية; فهناك حقائق ذات دروس وعبر في هذه القصص التي من شأنها خلق الإنسان الفاضل ، فمثلا إذا واجهتنا
(الصفحة 115)
بعض المباني المصيرية للإنسان في قصّة موسى فإنّه لا يمكننا أن نقول بأنّها مختصّة ببني إسرائيل والأُمّة الإسلامية مستثناة من هذا الأمر ، ولا يسعنا هنا إلاّ أن نشير إلى بعض هذه المباني بصورة مختصرة ونترك الخوض في تفاصيلها إلى أهل التفسير .
1 ـ يزعم أحبار اليهود أنّ لهم الجنّة خالصة دون أن ينازعهم أحد فيها ، وإن كان ولابدّ من عذاب النار فهي لن تطالهم سوى أيّام معدودة
{وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً}(1) .
أمّا القرآن فقد ردّ بمنطق رصين على هذا الزعم ـ الذي كان يبديه المضلّون من أحبار اليهود بهدف التملّص من الإقرار بنبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله) والإسلام ـ فرفضه رفضاً قاطعاً وأثبت أنّهم من أصحاب النار والشقاء الخالد يوم القيامة ، وقد أوجز دليله وبرهانه الرصين في هذه الآية من سورة البقرة:
{بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(2) . فهم يغرون الناس ويغلقون عليهم كلّ المنافذ ليفعلوا ما شاءوا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
وبناءً على ما تقدّم فإنّ هؤلاء الناس سيملأون حياتهم بالأعمال الشائنة والأفعال التي تسوّد القلب وتنتهي بالإنسان إلى أدنى المراتب الحيوانية ، فهل لمثل هؤلاء الأفراد أن يبلغوا بعد ذلك السموّ الإنساني؟ وهل لهم أن يتخلّصوا من طبائعهم العدوانية؟ وهل لمثل هؤلاء الأفراد من حظّ يجعلهم يعيشون الحياة الأُخروية الهانئة؟ أم أنّهم سيذوقون وبال أمرهم ليكبّوا على وجوههم في النار من جرّاء أعمالهم القبيحة ، وهل لهم إلاّ الخلود في النار؟ حقّاً لا يرى العقل والإنصاف لهؤلاء سوى عذاب النار خالدين فيها وبئس المصير .
- (1) سورة البقرة : الآية 80 .
- (2) سورة البقرة: الآية 81.