(الصفحة 129)
{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (سورة آل عمران، الآيتان 33 ـ 34)
(الصفحة 130)
(الصفحة 131)
عود إلى شرائط الإمامة المستفادة من القرآن
آية الاصطفاء
نتابع دراسة الآيات القرآنية في إطار التعرّف على شرائط الإمامة:
فقد ورد في سورة آل عمران قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
يقوم الاستدلال بهاتين الآيتين على اُمور هي:
الأمر الأوّل :
لقد استعملت كلمة «الاصطفاء» على أربعة أنحاء ، حيث يختلف معناها في كلّ قسم من هذه الأقسام ، فأحياناً تستعمل دون حرف ، واُخرى مع «من ، على واللام» والاصطفاء كما ذكرنا سابقاً على وزن الافتعال ، وأصلها من «صفو» بمعنى الخالص ، فالاصطفاء هو الانتخاب والاختيار الخالص .
فإن استعملت بدون حرف كان معناها الخالص ، وهكذا وردت في سورة
(الصفحة 132)
آل عمران:
{يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَيكِ وَطَهَّرَكِ}(1) والدليل هو وحدة السياق في الآية الشريفة ، وإذا جاء معها الحرف «من» فهي تعني الانتخاب من بين جماعة ، وهذا ما نلمسه في سورة فاطر:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(2) . أمّا إذا استعملت مع «على» فإنّها تفيد ترجيح المنتخب . فهي وإن اشتركت مع المعنى المُراد في القسم الثاني ; أي الانتخاب الخالص ، إلاّ أنّها تفرق عنه بأنّها تتضمن ترجيح المنتخب ، وهذا ما ورد في قصّة طالوت التي أشرنا إليها آنفاً
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَيهُ عَلَيْكُمْ} (3). ولذلك وردت استفهامية في سورة الصافّات
{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}(4) أي ليس هنالك من ترجيح وانتخاب في هذا الأمر .
رفع إشكال :
لقد تضمّن معنى «الاصطفاء» رفع إشكال من شأنه تشويش أذهان العوامّ ، فقد صرّح القرآن بشأن مريم قائلا:
{وَاصْطَفَيكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}(5) . يعتقد البعض أ نّ مريم مصطفاة على كافّة نساء العالم ، والحال أنّ الآية لا تفيد أيّ اصطفاء بالنسبة لعامّة نساء العالم ولا امتياز عليهنّ «أنت مصطفاة وممتازة من بين نساء العالم» . فهي ليست منتخبة على جميع النساء وليس لها من امتياز على الجميع ، بل هي مصطفاة من بين نخبة النساء ، ونعلم أنّ مريم من المصاديق العُليا للنساء الجليلات: مريم عابدة ومطهّرة ، وهذا لا يتنافى ووجود سائر النساء الجليلات الاُخريات في هذا الجنس البشري ، والكلام يختصّ بكونها
- (1) سورة آل عمران: الآية 42 .
- (2) سورة فاطر: الآية 32 .
- (3) سورة البقرة: الآية 247.
- (4) سورة الصافّات: الآية 153.
- (5) سورة آل عمران: الآية 42 .
(الصفحة 133)
منتخبة ، ولاسيّما أنّ هذا الانتخاب والترجيح يتعلّق بأمر غير طبيعي ، وهو الحمل دون وجود الزوج ، فقد خلق الله مريم على درجة من الطهر والعفاف بحيث إنّ الأذهان لا تتصوّر أيّ طعن في طهرها وعفافها من جرّاء هذا النوع من الحمل ، وهناك رواية تؤيّد ما ذهبنا إليه(1) .
الأمر الثاني :
هل أنّ اصطفاء آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين إلى الأبد على ضوء الآية
{إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}؟
الجواب :
ذكرنا سابقاً أنّ كلمة «الاصطفاء» إذا استعملت مع حرف الجرّ «على» أفادت معنى الترجيح في انتخاب فرد أو أكثر على الآخرين ، فمعنى الآية أنّ الله انتخب آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران ـ الذين يمثّلون الصفوة ـ من بين سائر أفراد العالم .
إذن ، فالانتخاب من بين العالمين ، وأنّ المنتخبين من أصفياء العالم ، لا أنّ الانتخاب على جميع العالم وأنّ للمنتخبين امتياز على العالم ، والله أعلم .
ويؤيّد ذلك المعنى الآيات من سورة الأنعام:
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}(2) .
- (1) راجع مجمع البيان 2: 289 ذيل الآية الشريفة «وَاصْطَفَيكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ» .
- (2) سورة الأنعام الآيات 84 ـ 86 .