(الصفحة 147)
وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالاِْنجِيلَ}(1) .
وقد ذكرنا سابقاً أنّ علم الأنبياء (عليهم السلام) يستند إلى الوحي ، بينما يستند الأوصياء في علمهم إلى الأنبياء . وعليه : فهم ليسوا فقط لا يطّلعون على الغيب تلقائياً ، بل حتّى علمهم بأسرار النبوّة إنّما هو من تعليم الله ، حتّى علمهم بقصص الاُمم الماضية والأنبياء لا يتأتّى من بذل الجهود والتعرّف عليها من خلال الطرق المتداولة . والوحي هو سبيلهم في الإحاطة بهذه الاُمور ، وقد أفصح القرآن الكريم كراراً عن هذه الحقيقة بشأن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، فعلى سبيل المثال يستعرض القرآن قصّة يوسف من أجل استنباط بعض الدروس والعبر التي لم يكن النبيّ (صلى الله عليه وآله) على علم بتلك الأحداث
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}(2) .
وبناءً على ما تقدّم فسبيل الأنبياء إلى العلم هو الوحي ، وبغضّ النظر عن الوحي فهم كسائر الناس في التعرّف على الحقائق وتشخيص الاُمور والتعامل مع الحوادث ، كما يبدون أحياناً دون الوحي أفراداً عاديين من حيث العلم ببعض الاُمور وكأنّهم لا يحسنون معرفة الأشياء المحيطة بهم . فنوح (عليه السلام) ـ وهو من أنبياء أولي العزم ، وطبق النظرة الابتدائية دون الاستناد إلى الوحي ـ يرى صلاح ولده ، فيستغيث بالله من أجل إنقاذه من بلاء الطوفان
{رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى}(3) ، فأتاه الخطاب الإلهي الحاسم الذي يتضمّن المنع عن مثل هذا الطلب
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}(4) .
- (1) سورة آل عمران : الآية 48 .
- (2) سورة يوسف : الآية 3 .
- (3) سورة هود : الآية 45 .
- (4) سورة هود : الآية 46 .
(الصفحة 148)
فلم يجد نوح بدّاً من الانصراف عن طلبه والاستعاذة بالله من تكرار مثل هذه الطلبات ،
{قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسئَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ}(1) .
إذن ، فليس هنالك من غبار يشوب هذه الحقيقة في أنّ سبيل الأنبياء إلى العلم هو الوحي ، وليس لهم من سبيل إلى الإحاطة بجميع الحقائق دون ذلك الوحي ، ولا يلزم على النبي كونه نبيّاً أن يلمّ تلقائياً بكافّة الاُمور الغيبية ويحيط خبراً بجميع الحوادث . وهذا هو الأمر الذي كشف القرآن عنه النقاب حين خاطب النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) قائلا:
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا}(2) .
إذن ، فليس صحيحاً القول بأنّ النبيّ لكونه يشغل هذا المنصب الإلهي الرفيع يكون عالماً بالغيب بالذات ، وأنّ مقام النبوّة سيزيل عنه كلّ حجب المجهول ، وبعبارة اُخرى: النبوّة ليست وسيلة لعلم الغيب ، بل النبيّ لا يستغني في كلّ آن عن الإفاضة الإلهية في إدراك المجاهيل ، وهذا من الاُمور التي لا نقاش فيها ، إلاّ أنّنا حين نتتبّع القرآن والآيات الواردة بشأن النبوّة نفهم أنّ البارئ سبحانه قد أفاض عناياته الخاصّة على صاحب هذا المقام ، بما يجعله يقف على جميع الاُمور المجهولة وماضي ومستقبل البشرية والحوادث التي تواجهها في مسيرتها ، حيث اختصّ سبحانه بعض عباده بهذه الإحاطة ، الأمر الذي يجعل صاحب مقام الزعامة الدينية عالماً بالغيب .
وإليك طائفة من الآيات الواردة في علم الغيب ، وهنا يمكننا أن نقسّم الآيات الكريمة إلى ثلاث طوائف:
1 ـ الآيات التي حصرت علم الغيب باللله .
- (1) سورة هود : الآية 47 .
- (2) سورة هود : الآية 49 .
(الصفحة 149)
2 ـ الآيات التي تنفي عن الأنبياء والنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) العلم بالغيب .
3 ـ الآيات الدّالة على إفاضة الله لعلم الغيب على أنبيائه .
نكتفي بذكر نموذجين من الآيات الواردة في القسم الأوّل:
1 ـ
{قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ الْغَيبَ إِلاَّ اللَّهُ}(1) .
2 ـ
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}(2) .
ومن نماذج القسم الثاني من الآيات:
1 ـ
{قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ}(3) .
2 ـ
{قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْم يُؤْمِنُونَ}(4) .
وأمّا نماذج القسم الثالث ، فهي:
1 ـ
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ}(5) .
2 ـ
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}(6) .
- (1) سورة النمل : الآية 65 .
- (2) سورة الأنعام : الآية 59 .
- (3) سورة الأنعام: الآية 50 .
- (4) سورة الأعراف : الآية 188 .
- (5) سورة الجن : الآية 26 ـ 28 .
- (6) سورة آل عمران : الآية 179 .
(الصفحة 150)مفاد الطوائف الثلاث من الآيات :
1 ـ علم الغيب بصورة تلقائية مختصّ بالله ، والله وحده العالم بالغيب بالذات وأنّ جميع الاُمور حاضرة لديه .
2 ـ أنّ الأنبياء لا تتكشّف لهم حجب الغيب بمجرّد بلوغهم النبوّة .
3 ـ توضّح الطائفة الثالثة من الآيات حصر هذه القدرة في الله ونفي علم الغيب عن الأنبياء ، كما تشير إلى ماهية هذا الانحصار وماهية عدم اطّلاع النبي على الغيب ، فهي تشير إلى أنّ الله إنّما يفيض هذه القدرة على رسله فقط ، وأنّه قد حباهم بهذه الكرامة من بين الخلق فأطلعهم على المغيَّبات ، وعليه: فليس للنبيّ تلقائياً من علم بالغيب ، وأنّ الله يفيض هذه الكرامة على أنبيائه بما يكشف لهم الحوادث الخفيّة والحقائق المكنونة ، ويُنير لهم الظلمات من خلال الوحي ، بل يمكن الجزم ـ على ضوء الآية 179 من سورة آل عمران ـ أنّ مقام الرسالة معناه العلم التامّ بالغيب ، وأنّ عمل الرسول هو الاستخبار بعلم المغيَّبات ، حيث يتمكّن بواسطة هذا العلم من قيادة الأُمّة والأخذ بيدها إلى شاطئ الأمان والسعادة في الدارين .
ونخلص ممّا سبق إلى أنّ الفصل المميّز للرسالة هو بلوغ الرسول منزلة تجعله عالماً بالغيب ، فهل ينطق الرسول عمّا سوى الغيب؟ وهل كشف الحقائق المجهولة وإبانة أسرار الوجود ، وإماطة اللثام عن مستقبل البشرية ومصيرها ، وإزالة الحيرة والاضطراب عن الأُمّة ، وتعريفها بالحوادث إلى يوم القيامة ، وما ينتظرها في ذلك اليوم ، هي أشياء اُخرى خارج ذلك العلم؟ وهل له ممارسة مثل هذه الأُمور بعيداً عن العلم بالغيب؟
نعم ، إنّ بعض الرسل قد لا يبلغون كافّة مراحل كمال العلم الغيبي ، فهم يتفاوتون في تلقّي الإفاضات الإلهية
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض}(1) ،
- (1) سورة البقرة : الآية 253 .
(الصفحة 151)
لكن ليس منهم من شذّ عن تلك الإفاضات وحرم منها ، ولم تتح هذه الإفاضات بأكملها إلاّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن كان (صلى الله عليه وآله) ـ على ضوء بعض النصوص القرآنية ـ ليس مطّلعاً على بعض الحوادث
{يَسْئَلُكَ الْنَّاسُ عَنِ الْسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ}(1) .
فالنتيجة التي نخلص إليها من مجموع الطوائف الثلاث هي أنّ الغيب الذاتي مختصّ بالحقّ تبارك وتعالى ، وأنّ الوحي هو وسيلة الأنبياء للتوصّل إلى هذا العلم ، ولكي يتّضح الموضوع أكثر لابدّ من تسليط الضوء على هاتين الآيتين:
1 ـ الآية:
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}(2) ، أولا يفهم من هذه الآية انحصار العلم بالغيب بذات الله تعالى؟ ونقول: لو كان المراد أنّه ليس هنالك أحد سوى الله له علم بكيفية أسرار الخلق وعلم الغيب لكان من المناسب أن يحصر هذا العلم به سبحانه لا مفاتحه .
2 ـ لقد وصف سبحانه في بعض الآيات ذاته المقدّسة بعلاّم الغيوب ، أي عبّر بصيغة المبالغة ، كما ورد ذلك في الآية
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}(3) .
وهكذا عبّر بهذه الصيغة في سائر الآيات ، أفلا يشعر هذا بأنّ العلم المقتصر على الحقّ تعالى هو العلم بمعنى المبالغة؟
علم الأئمّة (عليهم السلام) :
لقد اتّضح لدينا لحدّ الآن أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) مَن يستمدّ علمه بالأشياء من
- (1) سورة الأحزاب : الآية 63 .
- (2) سورة الأنعام: الآية 59 .
- (3) سورة التوبة: الآية 78 .