(الصفحة 162)
علم النبي (صلى الله عليه وآله) بالغيب لإبعاد التصوّر الذي قد يسود الأذهان بأنّه فوق البشر ، ولا يغفلوا عن كونه عبداً من عبيد الله ليبلغ الوحي والرسالة .
ومن هنا لابدّ من القول بأنّ الآيات النافية لعلم الغيب إنّما تجرّده من العلم الذاتي للغيب ، فهو ليس بذاته محيط بالأسرار والخفايا ، ليتصوّر بأنّه إله في الأرض ، وأنّ الله سبحانه بعنايته ولطفه وفيضه إنّما يرفع عنه حجب الغيب ويطلعه على المكنونات ، فالنبيّ (صلى الله عليه وآله) كالمرآة التي تعكس نور الله سبحانه .
ولذلك تطالعنا أيضاً ـ وفي إطار الهدف المذكور ـ بعض الآيات التي تسلبه القدرة الذاتيّة على هداية الاُمّة ، بل أبعد من ذلك أنّ بعض الآيات سلبته بعض الأفعال الاختيارية
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}(1) ، كما سلبته الهداية إلى الصراط المُستقيم تحقيقاً لذلك الهدف
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ}(2) .
نعم ، لقد تنوّعت الأساليب والخطابات القرآنية التي تروم تفادي الانحراف الفكري والغلوّفي شخص النبي (صلى الله عليه وآله) بفعل الكمالات العالية التي اشتملت عليها شخصيته ، وأحياناً ترد بعض الآيات القرآنية على لسانه
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ}(3) ، وكلّ ذلك بالطبع يهدف إلى عدم ضلالة القوم وتورّطهم كتورّط النصرانية في نسبتها المسيح للربوبية ، وإلاّ فمحمد (صلى الله عليه وآله) لم يسلك وادياً ولم يهد إلى سبيل إلاّ من خلال الغيب ، أو هناك تفسير سوى الغيب لهذه الفصاحة القرآنية والمعارف العلمية والحقائق الاجتماعيّة والسياسية والمدنية والبلاغية التي أتى بها بشر اُمّي؟
- (1) سورة الأنفال : الآية 17 .
- (2) سورة القصص : الآية 56 .
- (3) سورة الكهف: الآية 110 .
(الصفحة 163)
إذن ، فحديثه عن الغيب وكشفه الحجب إنّما يستند فيها إلى الحقّ سبحانه نور السموات والأرض ، وأمّا الآيات التي نفت علم الغيب عنه
{وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ}(1) إنّما تنفي الغيب الذاتي للنبي (صلى الله عليه وآله) ، وكأنّه يريد أن يقول بأنّي لا أعلم شيئاً إلاّ ما أفاض عليّ الحكيم المطلق .
آيات أُخرى :
نذكر هنا طائفة من الآيات التي تؤيّد ما ذهبنا إليه سابقاً:
1 ـ
{قُلْ إِنِّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً}(2) .
2 ـ
{إِلاَّ بَلاَغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهِ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أبَداً}(3) .
3 ـ
{قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّى أَمَداً}(4) .
4 ـ
{عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَسُول فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}(5) .
فالآيات تكشف عن عدم قدرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) على النهوض بالإنسان وإيصاله إلى مراحل الكمال بالاستناد إلى نفسه دون الاستمداد من الغيب الإلهي .
إذن ، لاشكّ في أنّه ليس له من وسيلة إلى تربية الأُمّة وإرشادها وإبلاغها رسالات السماء وقيمها سوى الاستناد إلى الغيب ، وكلّ ما يأتي به إنّما هو الغيب ،
- (1) سورة الأعراف : الآية 188 .
- (2) سورة الجنّ : الآية 21 .
- (3) سورة الجنّ : الآية 23 .
- (4) سورة الجنّ : الآية 25 .
- (5) سورة الجنّ : الآيتان 26 ـ 27 .
(الصفحة 164)
وليس هنالك إلاّ بعض النوادر التي لم يطّلع عليها النبيّ (صلى الله عليه وآله) من قبيل الساعة ، ولعلّ مثل هذا الأمر خارج عن طاقة العقل البشري مهما كانت قوّته ، وليس ذلك إلاّ إلى علاّم الغيوب .
نعم ، إنّ هذه الآيات هي الأُخرى واضحة في نفي علم الغيب عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، في الوقت الذي تصرّح فيه بأنّه إنّما يستند إلى الغيب الإلهي في مسيرته الدينية التربوية .
هدف الأئمّة من نفي العلم بالغيب:
هذا هو الأمر الذي واجه الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) أيضاً ، فقد كانوا يحدّثون بالأخبار الغيبيّة; ممّا حدا بالبعض إلى المغالاة ، ولذلك نراهُم أحياناً ينفون وقوفهم على مثل هذا العلم . ونرى من الأفضل أن نورد بعض النماذج التي ذكرها النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أو الأئـمّة (عليهم السلام) والتي تكشف عن مدى كمالهم وعلمهم ، ثمّ نتطرّق بعدها إلى تلك الأخبار التي تضمّنت نفيهم الانطواء على ذلك العلم ، ولا نرى من حاجة للخوض في المزيد من الأخبار التي وردت عنهم ، فنوكل هذا الأمر إلى الكتب الروائية والتأريخية التي شحنت بهذه الأخبار ، ونكتفي بذكر بعض الأخبار التي وردت عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ثمّ نورد عباراته بهذا الشأن بصفته متتبّعاً لا غرض له ، إذ ليس هو من علي (عليه السلام) .
إخبار أمير المؤمنين (عليه السلام) :
«أيُّها الناس فإنّي فقأتُ عين الفتنة . . . فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحطّ رحالها ،
(الصفحة 165)
ومَن يُقتل من أهلها قتلا ومن يموت منهم موتاً»(1) .
يقول ابن أبي الحديد: «روى أبو عمر محمّد بن عبدالبرّ في كتابه الاستيعاب عن جماعة من الرواة المحدّثين قالوا: لم يقل أحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) : سلوني قبل أن تفقدوني إلاّ عليّ بن أبي طالب.
وقال: «روى شيخنا أبو جعفر الإسكافي في كتابه نقض العثمانية ، عن علي بن الجعد ، عن ابن شبرمة قال: ليس لأحد من الناس أن يقول على المنبر: «سلوني إلاّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) » .
ثمّ خاض ابن أبي الحديد في الاُمور الغيبية التي أوردها أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: «لقد أقسم علي بالله الذي نفسه بيده أنّهم لا يسألونه عن أمر يحدث بينهم وبين القيامة إلاّ أخبرهم به ، وأنّه ما صحّ من طائفة من الناس يهتدي بها مائة ، وتضلّ بها مائة إلاّ وهو مخبر لهم ـ إن سألوه ـ برعاتها وقائدها وسائقها ، ومواضع نزول ركّابها وخيولها ، ومَن يقتل منها قتلاً ، ومَن يموت منها موتاً ، وهذه الدعوى ليست منه (عليه السلام) ادّعاء الربوبيّة ، ولا ادّعاء النبوّة ، ولكنّه كان يقول: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبره بذلك» .
ثمّ أراد أن يؤكّد أ نّ ما قاله عليّ في ادّعائه علم الغيب إنّما هو عين الصواب فقال: «ولقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقاً ، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة»(2) .
ثمّ قال: لقد حدث كلّ ما أُخبر عنه ، فقد قال قبل موته بسنوات: كأنّي بالشقي وقد خضّب هذه بهذه ، أي ضربة ابن ملجم ، ثمّ أخبر عن قتل ابنه الحسين في
- (1) نهج البلاغة لمحمد عبده: 233 ـ 234 .
- (2) طبعاً لا نحتاج إلى اختبار ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) ويشاركنا في ذلك السنّة ونفس ابن أبي الحديد ، ولكن ليس هنالك من سبيل لمن لا يعتقد بمقام علي سوى وقوع الحوادث طبقاً لما أخبر عنها .
(الصفحة 166)
كربلاء واستشهاد تلك العصابة معه(1) ، وما أحرانا أن نورد بعض الأخبار الغيبية كما ذكرها ابن أبي الحديد ، والأفضل في ذكر وصف المحبوب أن يأتي على لسان الآخرين لا على لسان المحبّ .
الأخبار الغيبية لعلي (عليه السلام) :
1 ـ الإخبار عن حكومة معاوية .
2 ـ حكومة الحجّاج بن يوسف الثقفي .
3 ـ قصّة الخوارج ومعركة النهروان .
4 ـ إخبار بعض أصحابه بالقتل والصلب .
5 ـ قتاله للناكثين والقاسطين والمارقين .
6 ـ عدد أصحابه الذين يهبّون لنصرته من الكوفة في قتال أهل البصرة .
7 ـ إخباره عن صلب عبدالله بن الزبير ووصفه بأنّه رجل مخادع لا يظفر بما يريد ويتشبّث بالدين من أجل الدنيا .
8 ـ الإخبار عن خروج الرايات السود من خراسان ، والتصريح بأسماء بني زريق من خراسان الذين يوالون حكومة بني العباس .
9 ـ إخباره عن بعض الزعماء من ذرّيته في طبرستان ، مثل الناصر والداعي وغيرهما .
10 ـ إخباره عن قتل النفس الزكيّة في المدينة قرب موضع أحجار الزيت والإخبار عن قتل أخيه عند باب حمزة بعد أن يظهر ثمّ يفشل .
11 ـ قصّة إسماعيل بن جعفربن محمّد (عليهم السلام) ووصفه بذي البداء والمسجّى بالرداء .
وتوضيح ذلك: أنّ بعض الروايات صرّحت بالبداء في إمامة إسماعيل حيث
- (1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7: 46 ـ 48 .