(الصفحة 205)
الإمام (عليه السلام) من وجهة نظر الكاتب هو إنشاء الحكومة ، فلم يجد بدّاً من التنكّر لقضية علم الإمام (عليه السلام) بقتله في هذه النهضة ، ولا نريد أن نقول بأنّ هذا الفصل من الكتاب صرّح بنفي علم الإمام بشهادته ، بل حيث توصّل الكاتب إلى أنّ علم الإمام بشهادته في هذه الحركة يتنافى وهدف الكتاب في قيام الإمام من أجل الإطاحة بحكومة يزيد وإنشاء الحكومة الإسلامية ، فلم يكن أمامه من سبيل سوى إنكار علم الإمام بشهادته في هذه الحركة ، وهذا هو الأساس الذي ابتنى عليه الكتاب .
2 ـ لقد تنكّر الكتاب لكافّة الأدلّة التي تفيد ـ بغضّ النظر عن الأدلّة العامّة التي تصرّح بالعلم المطلق لكلّ إمام ـ علم الإمام (عليه السلام) بشهادته في هذه الحركة ، فهو إمّا كان يطعن فيها من حيث السند والاعتبار أو يناقشها من حيث الدلالة ، وهنا لايجب أن ننسى أنّ المؤلّف قال: لم يخرج الإمام من أجل الشهادة أبداً ، ففنّد كلّ ما يفيد هذا الأمر ، فمثلا علّق على عبارة الإمام (عليه السلام) : «من لحق بي استشهد» فقال: لا تعني هذه العبارة أنّ كلّ مَن يلحق بي يُقتل ، في حين لا يفهم العرف واللغة سوى ذلك ، بل يرى أنّ المعنى: مَن يلحق بي إنّما يتعرّض إلى الأخطار والشهادة ، أَوَ لا يعني بهذا أنّه ينكر علم الإمام بما سيقع في كربلاء؟
وبالطبع لا اُريد أن أقول بأنّ كافّة الأدلّة قطعية السند تأريخياً ، رغم القول بصحّتها من قبل كبار أرباب المقاتل ، بل أقول: إنّ كلّ ما بدر من المؤلّف كان اجتهاداً في التأريخ وليس من التأريخ في شيء ، ولم يهدف سوى إنكار علم الإمام (عليه السلام) بشهادته في هذه الحركة .
3 ـ كيف لنا أن نفترض عدم تنكّر المؤلّف لعلم الإمام بشهادته ، وهو الذي أورد عنواناً تساءل فيه عن قتل الإمام هل كان بنفع الإسلام أم بضرره ، ثمّ يذهب صريحاً ـ وسيأتي ذلك في مناقشة الخطأ الرئيسي الثاني ـ إلى أنّ قتل الإمام (عليه السلام) وحادثة كربلاء وسبي عيالات أهل البيت إنّما شكّلت ضرراً على الإسلام ، حيث
(الصفحة 206)
ذهب أيضاً إلى أنّ القول بالعلم يستلزم الاعتراف بإقدام الإمام (عليه السلام) على عمل لم يتضمّن سوى ضرر الإسلام والمسلمين ، لو كان الإمام عالماً بما ارتكب وما يتنافى والإسلام ، وعليه : فلا مفرّ للمؤلّف من الاعتقاد بعدم علم الإمام بشهادته في تلك النهضة .
وبعبارة أوضح: يعتقد المؤلّف بأنّ حادثة كربلاء قد أضرّت بالإسلام ـ سيأتي الردّ قريباً ـ وعلى هذا الأساس كان لابدّ له من التنكّر لعلم الإمام بما سيجري في تلك الحادثة ، وإلاّ لما ارتكب ذلك الفعل الذي أدّى إلى ضرر الإسلام ، وعليه : فلم يكن للإمام علم ، وإلاّ كان متعمّداً ـ والعياذ بالله ـ للإضرار بالإسلام .
4 ـ يفهم من الأدلّة التي ساقها المؤلّف في إطار حركة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة وإنشاء الحكومة الإسلامية ، أ نّ الإمام لم يكن ملتفتاً إلى الأحداث والوقائع التي ستنطوي عليها حادثة كربلاء . فقد صرّح في ص55 قائلا: «على ضوء المعادلات الطبيعية ـ والمقصود بالمعادلات الطبيعية هنا بقرينة العبارات السابقة واللاحقة: إعداد العدّة والعدد وشعبية الإمام ونصرة الكوفة له و . . . ـ فإنّ الإمام كان يأمل بتحقيق النصر في هذه المعركة والإطاحة بحكومة يزيد» .
ولنا هنا أن نسأله: هل يمكن الجمع بين الأمل ـ الذي يمثّل إحدى الصفات الإنسانية ـ والعلم بالشهادة في هذه النهضة؟ هل يمكن القول بأنّه كان يأمل بالإطاحة بحكومة يزيد والأخذ بزمام السلطة ، كما كان عالماً بأنّه سيُقتل قبل وصوله إلى الكوفة؟ كأن نقول مثلا بأنّ مسافراً انطلق من مدينة قم وهو يأمل بأنّه سيصل طهران في نفس ذلك اليوم ، كما أنّه موقن بأنّه سيموت في حادثة اصطدام خلال الطريق قبل أن يبلغ طهران .
أجل ، لا يمكن الجمع بين العلم بالشهادة في هذه الحركة ، والأمل التامّ بالنصر الذي يتمثّل بالإطاحة بحكومة يزيد .
(الصفحة 207)
ولعلّ هناك من يقول: إذن ، فأنتم تتّفقون مع مَن يقول: إنّ الإمام إنّما خرج من أجل القتل ، لا بقصد الاتّجاه إلى الكوفة والقضاء على زعامة الفاسق يزيد؟
وللإجابة على هذا الزعم نقول: لا ننوي فعلاً الدخول في ماهية قضية كربلاء ونبدي بعض وجهات النظر بهذا الخصوص ، بل إنّما نريد الإشارة إلى الأخطاء التي ارتكبها مؤلّف كتاب شهيد جاويد ، كما نريد أن نقول بأنّ أساس الكتاب إنّما وُضع على أساس إنكار علم الإمام (عليه السلام) بالشهادة في هذه الحركة ، ولكن لا بأس بالإجابة على ذلك الزعم الموهوم .
فقد استبطنت حكومة يزيد الزائفة عدّة خطط وبرامج خطيرة ، فلم يكد المسلمون يتنفّسون الصعداء إبّان عصر الاستبداد والطغيان الذي شهدته حكومة معاوية ، حتّى رأى المسلمون هذا الفاسق شارب الخمر وقد تربّع على عرش السلطة ، السلطة التي جعلت المسلمين يذوقون الأمرّين من هذا الفتى الطائش ـ يزيد ـ ، وقد أخذ الظلم مأخذه من الناس بالشكل الذي جعلهم يرفعون أصواتهم ويصرخون بوجه الظلم ويطلبون النجدة من الرجل الصالح الجدير بزعامة الاُمّة وإمامتها ويرون فيه أملهم المنشود . أمّا الإمام من جانبه فقد كان عالماً بحكومة يزيد التي لا تريد سوى زعزعة أركان الإسلام ومحو آثار القرآن ، وأنّها ستنشد يوماً:
- لعبت هاشم بالملك فلا
لعبت هاشم بالملك فلا
-
خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل(1)
خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل(1)
وستجدّد مفاخر الجاهلية وتقضّ مضاجع الدين ، الأمر الذي يجعل الإمام ينهض لممارسة وظيفته تلبية لدعوة الاُمّة ، وهي الوظيفة التي ينهض بها كلّ إمام حسب الظروف والشرائط ، فلم يكن ينبغي للإمام الحسين (عليه السلام) أن يصمّ آذانه عن
- (1) روضة الواعظين: 191، الاحتجاج 2: 122 رقم 173 ، الملهوف: 215.
(الصفحة 208)
سماع صراخ المظلومين ، ولذلك أعلن عن عزمه على خلاص الإسلام والاُمّة من مخالب يزيد ، حتّى لا يتفوّه أحد بأنّ الاُمّة استغاثت بالإمام ولم يجبها وتهرّب من ممارسة وظيفته ومسؤوليته!
كان هذا الأمر يتطلّب توفير بعض المقدّمات من قَبيل الحركة نحو الكوفة ليعلن للعالم بأنّي لن أخلد إلى السكون والراحة .
نعم ، فالسبيل الذي سلكه يزيد والعلم الذي يعلمه الإمام لم يجعل أمامه من سبيل سوى القيام والثورة ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر فقد كان عالماً عارفاً أنّه لن يحقّق هدفه ويُنهي حكومة يزيد ويقيم الحكومة الإسلامية ، بل إنّ سبيل التضحية والفداء هو الذي سيسقي شجرة الدين التي جفّت عروقها خلال سنوات حكم معاوية ، وأنّ تضحيته ستنفخ الروح من جديد في جسد الإسلام الذي أصبح جثّة هامدة بلا حركة ، وكان يعلم جيداً بأنّه سيتمكّن بهذه التضحية من أداء دينه للإسلام ،وستتحقّق مقولة جدّه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) «حسينٌ منّيوأنامن حسين»(1) .
إذن ، فالانطلاق نحو الكوفة لزعامة الأُمّة كان من أجل كَمّ الأفواه التي فتحت آنذاك وستفتح اليوم وغد ، على أنّ السبيل كان ممهّداً والظروف مناسبة فَلِمَ لَمْ ينهض الإمام الحسين (عليه السلام) غير أنّ العلم بالشهادة والذي يجعل الهدف يكمن في كربلاء لم يكن يصدّ الإمام عن القيام والثورة ، فالإمام كان يعلم بأنّه سيُقتل في هذه الحادثة ـ وهذا ما سنشير إليه لاحقاً ـ ولكن لابدّ من الانطلاق نحو الكوفة وتمهيد المقدّمات لكي لا تخرج النهضة عن دائرة العقلائية والحسابات التقليدية ، رغم علمه بأنّه سوف لن يصل الكوفة .
إذن ، فالإمام رام بهذه الحركة إفهام العالم بأنّه قام من أجل إحياء الإسلام وإنقاذ الاُمّة المظلومة من قبضة حكومة يزيد ، وأنّه سيُقتل إثر هذا القيام ، ولم يكن
- (1) كامل الزيارات: 116 ح 126 ، وعنه بحار الأنوار 43: 270 .
(الصفحة 209)
للاُمّة أن تدرك مغزى هذا القيام ما لم ينطلق صوب الكوفة ، أمّا الإمام فقد كان على علم بأنّه لن يصل الكوفة .
وهنا يبرز هذا السؤال: إذا كان الإمام يعلم بأنّه سيُقتل قبل الوصول إلى الكوفة والظفر بإنشاء الحكومة الإسلامية ـ الحسينية ـ فلماذا قام ونهض بالأمر؟ وَلِمَ سلّم أهل بيته للقتل طواعية حيث لم يكن هنالك من احتمال ولو واحد بالمائة بالغلبة والنصر؟
والجواب : لم يكن الأخذ بزمام الأُمور والسيطرة على الحكومة هو الهدف الواقعي للإمام ; لأنّ الإمام كان يعلم بعدم إمكانية تحقّق هذا الأمر ، وأنّه سوف لن يبقى حيّاً قبل أن يصل الكوفة ، بل كان هدفه الأصلي إحياء الإسلام ، وتطبيق القرآن ، وإبقاء عزّة المسلمين وشريعة خاتم النبيّين (صلى الله عليه وآله) ، وإزالة البدعة وإحياء السنّة ، وليس هنالك من سبيل سوى الشهادة لتحقيق هذا الهدف العظيم ـ وهذا ما سنتعرّض له في مناقشة الخطأ الرئيسي الثاني ـ وهذه المهمّة كانت تشكّل وظيفة من وظائف الإمامة التي كان على الإمام السعي للقيام بها ، وأن يُحمل رأسه على الرماح من أجل رفعة الإسلام العزيز .
وعلى العموم ليست هنالك من منافاة بين الحركة نحو الكوفة وتلبية دعوة الاُمّة وإعداد مقدّمات النهضة ، وبين علم الإمام بالشهادة ، وذلك لأنّ الغرض الأصلي هو إفشال مخطّطات يزيد وإحياء الإسلام ، ولم يكن من سبيل لذلك سوى القتال المستميت في كربلاء حتّى الشهادة ، ولم يكن يعلم بهذا الأمر سوى الإمام (عليه السلام) ، وأنّ هذا الهدف العظيم إنّما يتحقّق في ظلّ الشهادة لا الحكومة .
أمّا حركة الإمام باتّجاه الكوفة إنّما كان يهدف منها توضيح أسباب قتل الإمام ، وليعلم العالم بأسره أنّ الإمام ثار من أجل إنقاذ الاُمّة الإسلامية والحيلولة دون اضمحلال ومحو الدين من قبل حكومة يزيد وأنّه قُتل في هذا السبيل .