(الصفحة 207)
ولعلّ هناك من يقول: إذن ، فأنتم تتّفقون مع مَن يقول: إنّ الإمام إنّما خرج من أجل القتل ، لا بقصد الاتّجاه إلى الكوفة والقضاء على زعامة الفاسق يزيد؟
وللإجابة على هذا الزعم نقول: لا ننوي فعلاً الدخول في ماهية قضية كربلاء ونبدي بعض وجهات النظر بهذا الخصوص ، بل إنّما نريد الإشارة إلى الأخطاء التي ارتكبها مؤلّف كتاب شهيد جاويد ، كما نريد أن نقول بأنّ أساس الكتاب إنّما وُضع على أساس إنكار علم الإمام (عليه السلام) بالشهادة في هذه الحركة ، ولكن لا بأس بالإجابة على ذلك الزعم الموهوم .
فقد استبطنت حكومة يزيد الزائفة عدّة خطط وبرامج خطيرة ، فلم يكد المسلمون يتنفّسون الصعداء إبّان عصر الاستبداد والطغيان الذي شهدته حكومة معاوية ، حتّى رأى المسلمون هذا الفاسق شارب الخمر وقد تربّع على عرش السلطة ، السلطة التي جعلت المسلمين يذوقون الأمرّين من هذا الفتى الطائش ـ يزيد ـ ، وقد أخذ الظلم مأخذه من الناس بالشكل الذي جعلهم يرفعون أصواتهم ويصرخون بوجه الظلم ويطلبون النجدة من الرجل الصالح الجدير بزعامة الاُمّة وإمامتها ويرون فيه أملهم المنشود . أمّا الإمام من جانبه فقد كان عالماً بحكومة يزيد التي لا تريد سوى زعزعة أركان الإسلام ومحو آثار القرآن ، وأنّها ستنشد يوماً:
- لعبت هاشم بالملك فلا
لعبت هاشم بالملك فلا
-
خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل(1)
خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل(1)
وستجدّد مفاخر الجاهلية وتقضّ مضاجع الدين ، الأمر الذي يجعل الإمام ينهض لممارسة وظيفته تلبية لدعوة الاُمّة ، وهي الوظيفة التي ينهض بها كلّ إمام حسب الظروف والشرائط ، فلم يكن ينبغي للإمام الحسين (عليه السلام) أن يصمّ آذانه عن
- (1) روضة الواعظين: 191، الاحتجاج 2: 122 رقم 173 ، الملهوف: 215.
(الصفحة 208)
سماع صراخ المظلومين ، ولذلك أعلن عن عزمه على خلاص الإسلام والاُمّة من مخالب يزيد ، حتّى لا يتفوّه أحد بأنّ الاُمّة استغاثت بالإمام ولم يجبها وتهرّب من ممارسة وظيفته ومسؤوليته!
كان هذا الأمر يتطلّب توفير بعض المقدّمات من قَبيل الحركة نحو الكوفة ليعلن للعالم بأنّي لن أخلد إلى السكون والراحة .
نعم ، فالسبيل الذي سلكه يزيد والعلم الذي يعلمه الإمام لم يجعل أمامه من سبيل سوى القيام والثورة ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر فقد كان عالماً عارفاً أنّه لن يحقّق هدفه ويُنهي حكومة يزيد ويقيم الحكومة الإسلامية ، بل إنّ سبيل التضحية والفداء هو الذي سيسقي شجرة الدين التي جفّت عروقها خلال سنوات حكم معاوية ، وأنّ تضحيته ستنفخ الروح من جديد في جسد الإسلام الذي أصبح جثّة هامدة بلا حركة ، وكان يعلم جيداً بأنّه سيتمكّن بهذه التضحية من أداء دينه للإسلام ،وستتحقّق مقولة جدّه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) «حسينٌ منّيوأنامن حسين»(1) .
إذن ، فالانطلاق نحو الكوفة لزعامة الأُمّة كان من أجل كَمّ الأفواه التي فتحت آنذاك وستفتح اليوم وغد ، على أنّ السبيل كان ممهّداً والظروف مناسبة فَلِمَ لَمْ ينهض الإمام الحسين (عليه السلام) غير أنّ العلم بالشهادة والذي يجعل الهدف يكمن في كربلاء لم يكن يصدّ الإمام عن القيام والثورة ، فالإمام كان يعلم بأنّه سيُقتل في هذه الحادثة ـ وهذا ما سنشير إليه لاحقاً ـ ولكن لابدّ من الانطلاق نحو الكوفة وتمهيد المقدّمات لكي لا تخرج النهضة عن دائرة العقلائية والحسابات التقليدية ، رغم علمه بأنّه سوف لن يصل الكوفة .
إذن ، فالإمام رام بهذه الحركة إفهام العالم بأنّه قام من أجل إحياء الإسلام وإنقاذ الاُمّة المظلومة من قبضة حكومة يزيد ، وأنّه سيُقتل إثر هذا القيام ، ولم يكن
- (1) كامل الزيارات: 116 ح 126 ، وعنه بحار الأنوار 43: 270 .
(الصفحة 209)
للاُمّة أن تدرك مغزى هذا القيام ما لم ينطلق صوب الكوفة ، أمّا الإمام فقد كان على علم بأنّه لن يصل الكوفة .
وهنا يبرز هذا السؤال: إذا كان الإمام يعلم بأنّه سيُقتل قبل الوصول إلى الكوفة والظفر بإنشاء الحكومة الإسلامية ـ الحسينية ـ فلماذا قام ونهض بالأمر؟ وَلِمَ سلّم أهل بيته للقتل طواعية حيث لم يكن هنالك من احتمال ولو واحد بالمائة بالغلبة والنصر؟
والجواب : لم يكن الأخذ بزمام الأُمور والسيطرة على الحكومة هو الهدف الواقعي للإمام ; لأنّ الإمام كان يعلم بعدم إمكانية تحقّق هذا الأمر ، وأنّه سوف لن يبقى حيّاً قبل أن يصل الكوفة ، بل كان هدفه الأصلي إحياء الإسلام ، وتطبيق القرآن ، وإبقاء عزّة المسلمين وشريعة خاتم النبيّين (صلى الله عليه وآله) ، وإزالة البدعة وإحياء السنّة ، وليس هنالك من سبيل سوى الشهادة لتحقيق هذا الهدف العظيم ـ وهذا ما سنتعرّض له في مناقشة الخطأ الرئيسي الثاني ـ وهذه المهمّة كانت تشكّل وظيفة من وظائف الإمامة التي كان على الإمام السعي للقيام بها ، وأن يُحمل رأسه على الرماح من أجل رفعة الإسلام العزيز .
وعلى العموم ليست هنالك من منافاة بين الحركة نحو الكوفة وتلبية دعوة الاُمّة وإعداد مقدّمات النهضة ، وبين علم الإمام بالشهادة ، وذلك لأنّ الغرض الأصلي هو إفشال مخطّطات يزيد وإحياء الإسلام ، ولم يكن من سبيل لذلك سوى القتال المستميت في كربلاء حتّى الشهادة ، ولم يكن يعلم بهذا الأمر سوى الإمام (عليه السلام) ، وأنّ هذا الهدف العظيم إنّما يتحقّق في ظلّ الشهادة لا الحكومة .
أمّا حركة الإمام باتّجاه الكوفة إنّما كان يهدف منها توضيح أسباب قتل الإمام ، وليعلم العالم بأسره أنّ الإمام ثار من أجل إنقاذ الاُمّة الإسلامية والحيلولة دون اضمحلال ومحو الدين من قبل حكومة يزيد وأنّه قُتل في هذا السبيل .
(الصفحة 210)
ولعلّ الإدراك الحقيقي لفلسفة حركة الإمام والوظيفة التي قام بها قد يتعذّر على الناس لو كان الإمام قال منذ بداية حركته: إنّما انطلق إلى الأرض التي سأُقتل فيها ، كما سيتعذّر عليهم إدراك كيفية قيام الإمام بهدف إحياء الإسلام ، أمّا الإمام فكان يعلم شخصياً بأنّ السبيل الوحيد للانتصار وزعزعة سلطة يزيد وإحياء الإسلام إنّما يكمن بالشهادة والتضحية بالغالي والنفيس .
نعم ، جرت عادة الأئـمّة المعصومين (عليهم السلام) باعتماد بعض الأُمور من أجل إفهام الناس بعض الحقائق والوقائع ، فقد رقد الإمام علي (عليه السلام) في الفِراش بعد أن ضُرب في محراب عبادته ، فهو كان يعلم بأنّ ضربة ابن ملجم قاتلة ، وقد كشف النقاب عن جميع تفاصيلها قُبيل وقوعها ، ولكن كيف له أن يفهم الآخرين بأنّ تلك الضربة قاتلة؟ لاشكّ في أنّه ليس هنالك من سبيل سوى استدعاء الطبيب لفحصه وإبداء وجهة نظره بهذا الشأن ، فلولا فحص الطبيب وتشخيصه بأنّ الضربة قاتلة ولا أمل في الحياة ، فلعلّ هناك من يتساءل لو كان عليّ (عليه السلام) راجع الأطباء وقدّموا له العلاج والدواء فلربما تماثل للشِفاء ونجى من الموت ، وهذا هو جواب أولئك الذين يلتبس عليهم الأمر فيقولون: إذا كان علي يعلم بأنّه سيفارق الدنيا إثر ضربة ابن ملجم وأنّه ميّت لا محالة ، فَلِمَ أخضع نفسه لإشراف وفحص الطبيب؟ ولمَ استعدّ لتلقّي العلاج؟ أوليس هذا دليلا على عدم علمه (عليه السلام) بأنّه سيموت إثر هذه الضربة ، فعلي (عليه السلام) كان يعلم أن لا جدوى من العلاج وأنّه سيُفارق الحياة ، ولكن كيف له أن يفهم الآخرين هذا الأمر ولاسيّما عوام الناس؟ فهل هناك سوى السبيل الذي سلكه الإمام (عليه السلام) ؟ وهذا ما يصدق على واقعة كربلاء وحركة الإمام نحو الكوفة ، الأمر الذي سنتعرّض له لاحقاً .
5 ـ يتّضح من الإجابة التي أوردناها على السؤال في النقطة الرابعة أن ليس هناك أيّة منافاة عقلية وعقلائية بين أساس النهضة من أجل الإطاحة بحكومة
(الصفحة 211)
يزيد والعلم بالشهادة في هذه النهضة من أجل تحقيق هذا الهدف .
أمّا المؤلّف ـ وبغضّ النظر عن العلم بالشهادة في هذه الحركة ـ فلم يجد من سبيل للجمع بين تحقيق الهدف وأساس النهضة ، فظنّ أ نّ فرض صحّة هذه الحركة إنّما تتأتّى إذا غضضنا الطرف عن علم الإمام (عليه السلام) بحادثة كربلاء ، ثمّ يستنتج على هذا الأساس أنّ الإمام لا يستطيع أن يطيح بحكومة يزيد من خلال هذا الطريق ، فكيف تأهّب لمثل هذه الحركة ، فالقيام والنهضة لم تعدّ عملية عُقلائية!
وعليه : فيرى المؤلّف أنّنا إذا أردنا أن نسند الثورة لهذا الأساس وجب علينا أن نغضّ النظر عن علم الإمام ، ولمـّا أجبنا على هذا السؤال الوارد بهذا الشأن ، فإنّنا نرى أنّ المؤلّف لم يستطع أو لم يرد أن يشخّص الطريق الصحيح ، فان استند إلى مبناه في أنّ الهدف هو إسقاط حكومة يزيد والأمل بالنصر وإنشاء الحكومة الإسلامية ، وجب عليه القول بعدم علم الإمام بما ستؤول إليه الأحداث ، أو أن يتراجع عن قوله : من أنّ الهدف هو إسقاط حكومة يزيد .
ونخلص من هذا إلى أنّ الإذعان بالعلم يستلزم نسف كلّ ما ورد في الكتاب ، إلاّ أنّنا نعتقد أنّ الهدف كان يتمثّل بالإطاحة بحكومة الظلم والجور إلى جانب تلبيته لدعوة الاُمّة المتعطّشة إلى الحرية وحكومة العدل ، كما كان عالماً بالأحداث ، وفي ظلّ هذا الأمر يتحقّق الهدف ، لكن ليس في ظِلّ إنشاء الحكومة ، بل بواسطة التضحية ، وهذه حقيقة معنوية ووظيفة إلهيّة كانت معلومة منذ البداية ، وقد قلّد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) حسيناً (عليه السلام) هذه المسؤولية التأريخية وقَبلها بكلّ رحابة صدر .
وبناءً على هذا ينبغي على المؤلّف الذي ظنّ بأنّ السبيل العقلائي لهذه النهضة يقوم على أساس غضّ النظر عن علم الإمام ، وبالنظر إلى الكلمات والخطب التي أوردها الإمام بشأن علمه بشهادته ; فإنّ الكتاب يكون قد نقض أو نسف تماماً ،