(الصفحة 24)
والإمام هو الشخص الذي ليس لزخارف الدنيا وزينتها من سبيل إلى روحه الآمنة ونفسه المطمئنّة .
والإمام هو الشخص المُستقيم والصامد المضحّي الذي ليس لأفكار العامّة وخرافاتها وانصياعها للأراجيف والأوهام أن تبعده عن الدفاع عن العقيدة ، ويعيش الاستقامة والصلابة تجاه العواطف الطائشة البعيدة عن التعقّل والمنطق .
وأخيراً فالإمام هو الشخص الذي يمتلك الشجاعة والإقدام الذي لا يدعه يصمت مقابل القوّة الجبّارة التي تناهض الله والحقّ ، بل تدفعه شجاعته لإحقاق الحقّ والإفصاح عن حقائق الدين .
ما مرّ معنا كان قبسات مقتضبة من شرائط الإمامة ، وسنخوض بصورة أكثر تفصيل في هذا الموضوع من خلال دراسة الآيات الأُخرى الواردة بهذا الشأن .
(الصفحة 25)
الدليل الثاني من القرآن
قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الْرَّسُولَ وَأُولِى الاَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالْرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً}(1) .
كلمة «أمر» لفظ عامّ يشمل جميع الأقوال والأفعال ، ويمكن اعتباره هنا بمعنى أعمال المجتمع وشؤوناته .
ولا يُستبعد هنا أن يكون المُراد بالأمر المعنى الاصطلاحي ، فيكون المُراد بأولي الأمر في هذه الحالة الأفراد الذين لهم صلاحية الآمرية أو إصدار الأوامر ، وكأنّ أوامرهم على درجة من الاعتبارية ووجوب الاتّباع بحيث عرفوا في القرآن بهذه الصفة «اُولي الأمر» أي الأفراد المطاعون في كلّ ما يأمرون به ، فالصفة المذكورة ملازمة لهم ، وهي من قبيل الصفة التي ينعت بها بعض الناس الذين ينشطون في مجال الصناعة والاستثمار ، حتّى صارت صفتهم التي يعرفون بها فيطلق
- (1) سورة النساء: الآية 59 .
(الصفحة 26)
عليهم أصحاب الصناعة .
وبناءً على ما تقدّم فإنّ هناك جماعة من الناس تميّزت في إسلاميتها بحيث وجبت طاعتهم فيما يأمرون وينهون ، ومنصبهم هو منصب إلهي يتميّز بالإمرة حتّى عرفوا بأنّهم «اُولي الأمر» .
وبالطبع فإنّ هنالك مسألة لم يلتفت إليها البعض من أولئك الذين خاضوا في مِصداق اُولي الأمر أو استغرقوا في مفهومه ، فذهبوا إلى أنّ الأمر بمعنى شأن من الأفعال والأقوال ، ففسّروا اُولي الأمر على أنّهم الأفراد الذين تكون كافّة الشؤون والاُمور تحت تصرّفهم وولايتهم .
بحث في الآية المباركة:
الطاعة هي اتّباع الأمر ، إذن فمفهومها يفيد صدور الحكم والأمر من المطاع ، طبعاً الأصل الأوّلي هو عدم وجود حكومة وإمرة لفرد على فرد آخر . فالإنسان كائن خُلِق حرّاً ، وينبغي أن يعيش الحرية في الفكر والعمل ، فالحرية جزء من فطرة الإنسان والأصل الابتدائي لخلقته الإنسانية ، وذلك لأنّه مجهّز بالفكر والعقل والإرادة ، ولا معنى لسلبه حرية التفكير والإرادة ، فهو إنّما يستطيع اتّخاذ القرار في تقرير مصيره وأعماله وأفعاله على ضوء العقل ، الفصل المميّز للإنسان ، فهو يشخص الأمور بقوّة العقل ثمّ تأتي إرادته في تحقيق الصالح من الطالح من الأعمال .
وبناءً على هذا فهو حرٌ ومختار في تقرير مصيره وأعماله وأفعاله على ضوء إدراكه وعقله ، وليس للآخرين من سبيل لأن يجرّدوه من حريته في الفكر والعمل واتخاذ القرار وأن يفرضوا قوّتهم على إرادته . أضف إلى ذلك أنّ الفرد الذي يرى نفسه خاضعاً لتشخيص الآخرين وامتثال أوامرهم ونواهيهم إنّما هو فرد ذليل ; لأنّه ليس هنالك من امتياز لأحد على آخر في الخلقة الاُولى حتّى يستسلم فرد
(الصفحة 27)
لآخر، ولذلك نقول بأنّ الأصل الأوّلي هوعدم حكومة فرد لفردآخر أو عدّة أفراد.
وعلى ضوء ما تقدّم فإن كان هنالك بعض الأفراد الذين يتمتّعون ببعض السمات والامتيازات فهم يتمتّعون ببُعد الآمرية قطعاً .
كالأفراد الذين يضاعفون من قواهم العقلية إثر كثرة الدراسات والتحقيقات العلمية والتجارب في الحياة ، فتكون لهم قدرة تميِّزهم عن الآخرين في تشخيص الأمور وتحديد العناصر الأساسية التي تلعب دوراً في تحقيق سعادة الإنسان وفلاحه ، فمثل هؤلاء الأفراد وبفضل كونهم أكثر دراية وبصيرة وأعظم قوّة واقتداراً وملكة عقلية في إدراك الأمور بما لا يسع الآخرين دركه أن يكون لهم حقّ الإمرة والحكومة على الأفراد الذين يفتقرون لتلك المواصفات .
ولذلك نرى الفطرة تقود إلى هذا النهج والأُسلوب ، فالطفل الذي يقصّر عن تشخيص الأشياء أو يفتقر لهذا التشخيص يطيع والديه ويمتثل ما تقتضيه مشيئتهما ، وهذا ما عليه الحال بالنسبة للجاهل تجاه العالم ، والفرد الخام إزاء الناضج ، والقلق الخاوي حيال المستقرّ المحكم ، فهو يطيعه ويقتفي أثره في طريقة حياته .
إذن فالأصل الأوّلي يفيد عدم تميّز الأفراد على بعضهم البعض ، والحرّية في العمل ، وعدم حكومة فرد لآخر ، إلاّ أنّ هذا الأصل قد يخرق في بعض الحالات ولا يمكن تطبيقه ، فإذا كان هناك شخص أو أشخاص يتمتّعون بقدرات فكريّة وعقليّة تفوق الآخرين ، فإنّ الفطرة تقتضي في هذه الحالة بضرورة تبعيّة الجاهل للعالم والناقص للكامل والضعيف للقوي .
أمّا الأمر المهمّ الذي لا ينبغي أن يغيب عنّا هنا هو أنّ طاعة الجاهل للعالم لاتقتصر على علمه فقط ، وانقياد الفرد البسيط للناضج الحكيم إنّما يختص بما له فيه الحكمة وهكذا دواليك .
ولكن إذا فرضنا فرداً كان نموذجاً للآخرين في تجاربه ، ويفوق جميع الناس
(الصفحة 28)
علماً وعملا وقدرة وبصيرة وفكراً وإحاطة بدقائق الأُمور ، وكان وجوده علماً وإدراكاً ودراية وحكمة ، ولم يقصر ببصره على الدنيا ، بل امتدّ نظره إلى الآخرة بما يجعله قادراً على إرشاد الناس وهدايتهم إلى الفلاح والسعادة والفوز بالحياة الأبديّة ، بل إذا كان علمه خارقاً محيطاً بجميع الكمالات والسعادات الأبديّة ، وكان له عقل نوراني ليس معه ظلمة ، بل كان كائناً ملائكياً ومنبعاً للفضائل والخصال الحميدة ، فهل ترى الفطرة في هذه الحالة أن تكون طاعته محصورة في حدود معينة ، كأن يُطاع في مورد ويعصى في آخر؟ أم أنّ الفطرة تقتضي التسليم له واتّباعه حيثما حلّ والاستسلام إلى حكومته وتفويضه كافّة مقدّرات حياته ، ليتسنى له أن يبلغ الكمال الإنساني ، وبالتالي يكون المجتمع مجتمعاً مقتدراً فاضلا يسوده العدل والقسط حتّى تصبح البلاد في ظلّ طاعته بمثابة المدينة الفاضلة؟
لاشكّ أنّ حكم العقل واقتضاء الفطرة يرى أنّ طاعة مثل هؤلاء الرِجال العِظام لابدّ أن تكون طاعة مطلقة عمياء ، وسوف لن تعدّ هذه الطاعة مذمومة ، ولا تتعارض مع الوجدان والعقل ولا تتضارب والطبيعة الأُولى في عدم أحقيّة حكومة فرد لآخر ، بل هي طاعة سليمة كما يراها العقل ويدعو إليها .
فالذي نخلص إليه ممّا سبق أنّ الأصل الأوّلي وإن أفاد عدم حكومة وإمرة فرد على آخر ، إلاّ أنّ هذا الأصل لا يصدق في بعض الأحوال; لأنّ العقل يحكم بلزوم طاعة الأُمّة لأفرادها من ذوي الفضل والكمال ، لكن إذا كان فضله وامتيازه محدوداً كانت طاعته محدودة أيضاً ، وإن كانت امتيازاته مطلقة كانت طاعته مطلقة في كلّ شيء .
لمن الطاعة ؟
سؤال : إنّ ما قيل على سبيل الفرض هو عين الصواب; لأنّ العقل يقضي