(الصفحة 243)
بكافّة الصفات والشرائط اللازمة لإمامة الاُمّة ، وفي مقدّمة هذه الشرائط العلم والإحاطة التامّة بكافّة الموضوعات والحوادث والوقائع ذات الصلة بحياة الاُمّة الإسلامية وسبل سعادتها وفلاحها .
ومن هنا يتبيّن أنّ هؤلاء الزعماء ـ المتمثّلين بالأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) ـ لابدّ أن يكونوا عالمين بجميع خفايا الحوادث والاُمور المتعلّقة بمصير الإسلام والمسلمين ، والله سبحانه هو الذي يفيض عليهم ـ برحمته ـ هذه العلوم .
4 ـ لم تكن نهضة أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام) نهضة قائمة على أساس الجبر والاضطرار ، ولم يخوضوا المعارك مرغمين ، بل كلّ ذلك يجري وفق خطّة مدروسة معلومة سلفاً ، وقد قلّدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه المسؤولية ، إلى جانب اطّلاعهم على التفاصيل . وعليه : فالقيام وظيفة لبعضهم ، قد حمّلهم إيّاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن البارئ سبحانه وتعالى ، وذلك لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
{مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى}(1) فمن قام من الأئمّة (عليهم السلام) كان عالماً بعواقب الأمر غير متفاجئ بها ، وقد كلّف بهذه الوظيفة رغم علمه بما ستجرّه عليه من مصائب وويلات ، ولم يتحمّلوا هذه الحوادث المريرة إكراهاً ، بل كانوا مُختارين في أصل نهضتهم وتحمّل تبعاتها ، وهم يرون الشهادة كمالا لهم تجعلهم يقتفون أثر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في السموّ والتكامل وبلوغ ذروة الإنسانية .
والآن نطرح هذا السؤال: أوليس الإمام الحسين (عليه السلام) هو أحد هؤلاء الزعماء؟ فقد عدّه الحديث السابق في مصافّ أمير المؤمنين وسائر الأئـمّة (عليهم السلام) ، أولم تكن كربلاء من الحوادث المرتبطة بمصير الإسلام والمسلمين؟ إذن ، فبنصّ الحديث لابدّ أن يكون الإمام عالماً بكافّة تفاصيل حادثة كربلاء ، وبنصّ الحديث فإنّ قيام الإمام يستند إلى علم سابق ، ذكره رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكلّف به الإمام (عليه السلام) . وهذا غير ما
- (1) سورة النجم: الآيتان 3 ـ 4 .
(الصفحة 244)
ذكرنا من أنّ الإمام يقتصر في علمه بالشهادة على ما أخبره به رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
وبناءً على هذا فلو ناقشنا الرؤيا التي نقلت عن ابن الأعثم(1) ، فإنّ مضمون هذا الحديث إزاء وظيفة الإمام هو نفس المضمون «يا حسين اخرج إلى العراق» مع الفارق في الإجمال والتفصيل ، بل يمكن القول بأنّ قيام الإمام (عليه السلام) كان بوحي من الله بفعل إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) ، كما فهمنا من الحديث أنّ قيام الحسين (عليه السلام) لم يكن اضطراراً بل جرى وفق خطّة مدروسة وعلم سابق ، كما فهمنا أنّ سكوت بعض الأئـمّة (عليهم السلام) كان يستند لهذه الرسالة والوظيفة .
فمن اعتقد بغير هذا لا يسعه أن يعقل مضمون الحديث بلزوم طاعة أئـمّة الدين ، وهذا ما تطرّقنا إليه سابقاً ، فكيف نعتقد بأنّ الإمام مفترض الطاعة في حين نعترف بخطأه في التشخيص أو وقوع الحوادث على عكس ما كان يتصوّر؟ كيف يجب اتّباع الإمام على مثل عبيدالله الحر الجعفي بينما كان يعتقد بأنّ مسلم كان ينتظر هزيمة منكرة . نعم الإمام (عليه السلام) لا يخطأ في تشخيصه أبداً وهو عالم بكلّ خفايا الأحداث .
الحديث الثاني :
وهو الحديث الذي نقله الشيخ جعفر بن محمّد بن قولويه المتوفّى عام 368هـ .ق ـ اُستاذ الشيخ المفيد (رضي الله عنه) ـ في كتابه «كامل الزيارات» ، والكتاب المذكور أحد كتب الإماميّة المهمّة الذي يحظى باعتماد علماء الحديث والمتخصّصين بعلم
- (1) لا يخفى أنّ المحور الأصلي هو بحث أسس ومباني كتاب «شهيد جاويد» ولذلك لم نبحث الاُمور الجزئية من قَبيل هل أنّ ابن الأعثم موثوق في نقله أم لا ، ولذلك فإنّ فرض المناقشة في نقل رؤياه لا يعني أنّنا نؤيّد المناقشة ، بل أنّ هذا الفرض ليس بدليل على الانسجام مع الكتاب ; لأنّه خارج عن الحدود الأصلية في الكتاب المذكور .
(الصفحة 245)
الرواية ، وهو يصرّح في مقدّمة الكتاب بأنّه لا يورد إلاّ الموثوق من الأفراد ، ولذلك استدلّ كبار فقهاؤنا بهذه الروايات . وإليك نصّ الحديث:
قال : حدّثني أبي (رحمه الله) ومحمّد بن الحسين ، عن سعد بن عبدالله ، عن أحمد بن محمّد ، عن علي بن الحكم ، عن أبيه ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ الحسين (عليه السلام) خرج من مكّة قبل التروية بيوم ، فشيّعه عبدالله بن الزبير فقال: يا أبا عبدالله لقد حضر الحج وتدعه وتأتي العراق ، فقال: ياابن الزبير لأن اُدفن بشاطئ الفرات أحبّ إليّ من أن اُدفن بفناء الكعبة»(1) .
وقفة مع الحديث :
لقد شعر عبدالله بن الزبير بالذهول والدهشة من حركة الإمام إبّان الحجّ فسأله: هذه مناسك الحجّ التي حضرها المسلمون من أكناف الدنيا وأطرافها ، فما الذي حدث ليترك الإمام ـ وهو الأعرف أكثر من غيره بمنزلة الحجّ وعظمة تلك المواقف ـ الحجاز ويتحرّك صوب العراق؟! ولاسيّما أنّ الإمام (عليه السلام) قد توقّف قبل عدّة شهور في مكّة ولا تستغرق مناسك الحجّ وقتاً طويلا .
طبعاً ، عبدالله بن الزبير يعلم أفضل من غيره أنّ الإمام لا يتخلّى عبثاً عن ذلك الأمر ، ولابدّ أن يكون هنالك دافع أشدّ قوّة جعله يحثّ الخطى لإدراك ما خفي كنهه ، ولعلّه أعتقد بل جزم أن ليس هنالك ما يدعو لحركة الإمام سوى الشعور بالخطر المحدق به ، إلاّ أنّه كان يرغب بسماع القضية من الإمام وهل أنّ الخطر واقع عن قريب لا محالة؟ وأنّ الإمام يمكن أن يتعرّض إلى الاغتيال في جوف الكعبة؟ لقد شعر الإمام بما يجول في فكر ابن الزبير فأجابه على الفور: أنّ مصرعي في كربلاء «شاطئ الفرات» لا حرم الكعبة الأمن .
- (1) كامل الزيارات: 151 ح184 ، وعنه بحار الأنوار 45: 86 ح 18 .
(الصفحة 246)
سؤال :
لعلّ هناك من يسأل : من أين فهمتم أنّ الحديث يتضمّن الإخبار بشهادة الإمام في كربلاء؟ فلم يقل الإمام سوى أنّه سيستشهد وأنّ الشهادة في كربلاء أحبّ إليه من اللجوء إلى الكعبة؟ فهل هناك من منافاة بين هذا الأمر وعدم حدوث واقعة كربلاء أو وقوعها بعد سنوات؟
الجواب :
لقد لفت الإمام انتباه ابن الزبير في جوابه إلى وقوع حادثة ، وكأنّه أراد أن يقول (عليه السلام) : هناك حادثة لا مفرّ منها ، ولا أرغب أن تقع هذه الحادثة في بيت الله ، بل سأتّجه لمواجهتها هناك .
سؤال آخر :
لم يتّضح ممّا قلت سوى أنّ هناك حادثة لا مفرّ منها ، إلاّ أنّ إمكان وقوعها في مكّة لم يزل ، وهذا ما يفهم تلويحاً من جواب الإمام ، ولنا أن نسأل هنا: هل الإمام (عليه السلام) موقن من قتله في كربلاء رغم احتمالية وقوع الحادثة في مكّة؟
الجواب :
لا يريد الإمام أن يقول: إنّي أحتمل أن تقع هذه الحادثة في مكّة ، بل أراد أن يفهم ابن الزبير بأنّ جلاوزة يزيد يترصّدونه وهم عازمون على قتله ، وهو ليس بغافل عن دسائسهم ، ولذلك فهو يختار كربلاء من أجل الفوز بالشهادة وإحباط مخطّطاتهم ، وإلاّ لو كان الإمام يحتمل وقوعها في مكّة أو مئات المناطق الاُخرى ، لم ينتخب شاطئ الفرات من بين جميع هذه الاحتمالات ، أضف إلى ذلك أنّه قد أعلن بأنّي أحبّ أن اُدفن في الفرات رغم بعده مئات الأميال ، وماذا يعني بإخباره عن هذا المكان غير المتوقّع؟ إذن ، فذكر اسم شاطئ الفرات والرغبة الشديدة للاستشهاد فيه لا يفيد إلاّ وقوع حادثة مأساوية حتميّة هناك ، ثمّ تصبح تلك المنطقة موضع مرقده الشريف .
الحديث الثالث :
الحديث الذي نقله الشيخ الثقة جعفر بن محمّد بن قولويه أيضاً في كتاب
(الصفحة 247)
«كامل الزيارات» ، وقد ذكرنا سابقاً أنّ أحاديث هذا الكتاب معتبرة وموثوقة لا يمكن الطعن في سندها . قال: حدّثني أبي (رحمه الله) وجماعة مشايخي عن سعد بن عبدالله ، عن علي بن إسماعيل بن عيسى ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطاب عن محمّد بن عمرو بن سعيد الزيّات ، عن عبدالله بن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كتب الحسين بن علي من مكّة إلى محمّد بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى محمّد بن علي ومَن قِبله من بني هاشم ، أمّا بعد فإنّ من لحق بي استشهد ، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح والسلام»(1) .
وقد نقل صاحب كتاب «بصائر الدرجات» عن الإمام الصادق (عليه السلام) نظير هذه الرواية ، حدّثنا أيّوب بن نوح ، عن صفوان بن يحيى ، عن مروان بن إسماعيل ، عن حمزة بن حمران ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: ذكرنا خروج الحسين وتخلف ابن الحنفية عنه ، قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : «يا حمزة إنّي ساُحدّثك في هذا بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسين لمـّا فصل متوجّهاً دعا بقرطاس وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم ، أمّا بعد فإنّه من لحق بي منكم استشهد معي ، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح والسلام»(2) .
ما ينبغي الالتفات إليه في الحديثين:
1 ـ ماذا يفهم من كلمة «استشهد»؟
2 ـ الرسالة إلى محمّد بن الحنفية وسائر بني هاشم هل تتضمّن الإخبار
- (1) كامل الزيارات: 157 ح195 ، وعنه بحار الأنوار 45: 87 ح 23 .
- (2) بصائر الدرجات: 502 ، وعنه إثبات الهداة 2: 577 ح 18 وعن كامل الزيارات والملهوف: 28 ومختصر بصائر الدرجات: 42 ح 25، وفي بحار الأنوار 42: 81 ح 12 عنه وعن مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) لابن شهر آشوب 4: 76.