(الصفحة 260)
لوحده يكفي في العلم بجميع الحادثة بالنسبة لأيّ فرد عاديّ فضلا عن الإمام (عليه السلام) .
كلاّ ، ليس الأمر كذلك ، فقد تحدّث علي (عليه السلام) في معركة صفّين بهذا الشأن وقد ذكر حسيناً صراحة والعطش الذي يصيبه حين يستشهد في أرض كربلاء حتّى لاينبرى لاحقاً مَن يقول: فهل ينطبق حديث الوالد على الولد أم لا؟
وقد مرّت(1) علينا رواية العلاّمة المجلسي في البحار التي أشارت إلى بُكاء علي (عليه السلام) علىولده الحسين (عليه السلام) ، الذي سيموت في كربلاء عطشاناً . فهل قول علي (عليه السلام) في ميدان المعركة في تلك اللحظة الحسّاسة كان همساً في اُذن الراوي ولم يسمعه إلاّ عبدالله بن قيس ، أم أنّها أخبار قالها علي (عليه السلام) وسط الميدان عن تلك الحادثة؟ أو لا نفهم من هذه الرواية وأمثالها أنّ حادثة كربلاء كانت حديث الساعة ولم يكن من يتردّد على أهل البيت بعيداً عن تلك الأخبار فضلا عن أهل الدار .
فهل من المعقول أن نعترف أوّلاً ـ على ضوء الروايات القطعيّة ـ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أخبر بشهادة الحسين (عليه السلام) ، وكان الحسين قد سمع الخبر منذ طفوليّته . ثمّ نثبت بعد ذلك من خلال مباحث الكتاب أنّه (عليه السلام) لم يكن عالماً باستشهاده؟
أمّا الروايات الموثوقة التي وردت في كتاب بحار الأنوار فقد صرّحت بأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد صرّح باسم الحسين (عليه السلام) في معركة صفّين ، حتّى روى ابن عباس أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) حين مرّ بكربلاء بكى بكاءً شديداً وقال: «ما لي ولآل أبي سفيان! مالي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر! ـ ثمّ التفت إلى ولده الحسين (عليه السلام) وقال: ـ صبراً يا أبا عبدالله ، فقد لقي أبوك منهم مثل الذي تلقى منهم»(2)فهل لأحد أن يقول بعد ذلك: إنّ الحسين (عليه السلام) احتمل حين وصل كربلاء أنّه المقصود بقول أبيه (عليه السلام) ؟ ولا يسعنا هنا إلاّ أن نخوض في بعض التواريخ:
- (1) في ص 219.
- (2) بحار الأنوار 44: 252 ح 2 عن أمالي الصدوق: 694، مجلس 87 ح 951، وكمال الدين: 532 ب48 ح1.
(الصفحة 261)
فقد نقل مؤلّف كتاب القاموس ـ من الكتب الرجالية الموثّقة الذي طبع أخيراً قصّة عند ذكر إسم حبيب ، وقد ذكرت هذه القصّة في سائر كتب التأريخ والرجال ـ أنّه «روى الكشّي عن جبرئيل بن أحمد ، عن محمّد بن عبدالله بن مهران ، عن أحمد بن النصر عن عبدالله بن يزيد الأسدي ، عن فضيل بن الزبير ، قال: مرّ ميثم التمار وحبيب بن مظاهربمجلس بني أسد وهما فارسان ، فجعلا يتحدّثان حتّى قال حبيب: لكأنّي بشيخ أصلع قد صلب في حبّ أهل بيت نبيّه (عليهم السلام) . . . فقال ميثم : وإنّي لأعرف رجلاًأحمرله ظفيرتان يخرج لينصرابن بنت نبيّه (صلى الله عليه وآله) ،فيقتلويجال برأسه بالكوفة» (1).
لقد أصيب مجلس بني أسد بالذهول لما سمعوا من حوار هذين الوليّين حتّى أجمعت كلمتهم على أنّهم لم يروا أكذب منهما! وهنا وصل رشيد الهجري فسأل عن ميثم وحبيب ، فقال له بنو أسد: كانا هنا ، ثمّ أخبروه بما سمعوه منهما ، فقال رشيد: لقد قالا حقّاً ، إلاّ أنّ ميثم نسي أن يقول ويُزيد: من يأتي برأس حبيب مائة درهم! فما كان من أهل المجلس إلاّ أن قالوا: إنّ رشيد أكذبهما!(2)
بُكاء محمّد بن الحنفية :
نقل الطبري عن أبي مخنف: أنّ الحسين بن علي أقبل بأهله ومحمد بن الحنفية بالمدينة، قال: فبلغه خبر وهو يتوضّأ في طست قال : فبكى حتى سمعت وَكَفَ دموعه في الطست(3) . ولنا أن نسأل: مِمَ بُكاء ابن الحنفية؟ لو كان يأمل النصر كالإمام! لم يكن لذلك الخبر أن يبكيه ، فالقضية قضية فتح ونصر والتحاق بالقوى الشعبية الموالية في الكوفة ، وليس في الأمر ما يدعو إلى البُكاء!
- (1) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ«رجال الكشي»: 78 رقم 133 .
- (2) قاموس الرجال 3: 96 رقم 1768 ، وماذكر نقل بالمضمون .
- (3) تاريخ الطبري 4: 297 .
(الصفحة 262)
نعم ، بكاء ابن الحنفيّة إعلام للمؤلّف الذي اعتقد أنّ الإمام (عليه السلام) سوف لن يسقط حكومة يزيد ، بل سيتعرّض لظلم جيش الكوفة ، وهذه هي كربلاء التي ستستضيف الإمام!
بُكاء محمّد بن الحنفية تذكير بحادثة يعرفها كافّة قرابة أهل البيت ، أفيكون الإمام غافلا عنها لا عِلمَ له بها؟! لقد كانت قصّة كربلاء وفصولها الدموية أشهر لاتحتاج إلى بيان ، وقد ذكرنا سابقاً أنّ التحاق زهير بن القين كان بسبب حديث سلمان الفارسي أو الباهلي ، حيث أورد الطبري وابن أثير أنّ سلمان بشّر زهيراً بإدراكه لشباب آل محمّد ، وذلك اليوم هو يوم فرح بالنسبة لزهير .
حديث رائع :
قال مؤلّف كتاب الأربعين الحسينيّة: «ما رواه في الكامل بسنده عن الباقر (عليه السلام) قال: لمّا همّ الحسين (عليه السلام) بالشخوص من المدينة أقبلت نساء بني عبدالمطلب فاجتمعن للنياحة حتّى مشى فيهنّ الحسين (عليه السلام) ، فقال: أنشدكنّ الله أن تبدين هذا الأمر معصية لله ولرسوله ، فقالت له نساء بني عبدالمطلب: فلمن نستبقي النياحة والبُكاء فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة ورقيّة وزينب واُمّ كلثوم ، فننشدك الله جعلنا الله فداك من الموت»(1) .
إنّ الحسين (عليه السلام) قرّر الخروج إلى مكّة فما معنى اجتماع الهاشميات من نساء بني عبدالمطلب للنياحة والبُكاء! يخرج إلى مكّة لتنظيم الجيش والقيادة بغية الحركة إلى الكوفة وبالتالي السيطرة على الحكومة ، ومثل هذه الحركة ينبغي أن تدخل الفرح والسرور على الهاشميات وأهل بيت الرسالة ، فقد تمهّدت الأرضية المناسبة لقيام الحكومة ، فما هذا البُكاء!
- (1) الأربعين الحسينيّة: 57 ح6 عن كامل الزيارات: 195 ح 275 .
(الصفحة 263)
نعم ، إنهنّ يعلمن أنّ الإمام (عليه السلام) إنّما يتّجه نحو مصرعه الذي ليس فيه أيّ أمل بالنصر ـ النصر الذي يقول به مؤلّف «شهيد جاويد» : لقد سمعن من رسول الله (صلى الله عليه وآله) سرّاً أنّ ولده الحسين (عليه السلام) سيُقتل في كربلاء . نعم ، لم يطقن سماع حركة الإمام ولم يتمالكن أنفسهنّ ، أمّا الإمام فقد خاطبهنّ: أنشدكنّ الله أن تبدين هذا الأمر فهو معصية لله ولرسوله ، وهل لمثل هذه النصيحة أن تسكّن من روع تلك القلوب الوالهة المضطربةوالعيون العبرى لنساءالرسالة!فهنّ نساءوقلوبهنّ تنبض بحبّ الحسين (عليه السلام) ، ويعلمن أنّ هذه الحركة ستعيد مرارة رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) وغربة الزهراء (عليها السلام) ، فأجبنه والدموع جارية على خدودهنّ: إنّنا نعلم أن لا رجعة من هذه الحركة . نعم ، يمكن أن يهدأ روعنا وتسكن فورتنا إن جعلنا الله فداك لتنجو من الموت . فهل يسعنا بعد هذا أن نقول بأنّ الإمام لبّى دعوة الناس أملا في النصر ، أم لابدّ من القول أنّه انطلق أملا في انتصار الإسلام من خلال الشهادة .
السرّ الأكبر :
لقدوردت حادثة كربلاء في سائر الأديان ، ولا أُريد أن أخوض في هذا المجال ، إلاّ أنّي أكتفي بما أورده الطبري بهذا المجال ، قال: «حدّثني العلاء بن أبي عاثة قال: حدّثني رأس الجالوت ، عن أبيه قال: ما مررت بكربلاء إلاّ وأنا أركض دابّتي حتّى أخلف المكان ، قال: قلت: لِمَ ؟ قال: كنّا نتحدّث أنّ ولد نبيّ مقتول في ذلك المكان . قال: وكنت أخاف أن أكون أنا ، فلمّا قُتل الحسين قلنا: هذا الذي نتحدّث»(1) .
فهل يسعنا ـ أيّها القُرّاء الأعزاء ـ أن نقول بأنّ الإمام لم يكن عالماً بحادثة كربلاء وحين بلغ كربلاء احتمل . . . بينما يتحدّث الآخرون عن هذه النهضة وأنّ كربلاء ستضمّخ بدم الحسين (عليه السلام) ؟!
- (1) تاريخ الطبري 4: 296 .
(الصفحة 264)الكتاب والخطأ الرئيسي الثاني :
الخطأ الرئيسي الثاني الذي ارتكبه مؤلّف كتاب «شهيد جاويد» هو الضرر الذي ألحقته حادثة كربلاء بالإسلام ، ونورد هنا بعض نماذج الكتاب التي تفيد هذا المعنى:
1 ـ قال في جوابه لما قاله محبّ الدين الخطيب من أنّ حركة الحسين بن علي (عليهما السلام) قد حاقت خسارة بالحسين والإسلام والمسلمين إلى يوم القيامة: «حكومة يزيد لا الحسين بن علي (عليهما السلام) هي التي وجّهت تلك الضربة للإسلام» . وعليه : فهو يقرّ بموضوع الخسارة ، إلاّ أنّه ينسبها فقط إلى يزيد .
2 ـ لوّح في النقاط 1 ، 2 ، 3 ـ في عنوان «هل كان قتل الإمام (عليه السلام) بنفع الإسلام أم لا ـ إلى أنّ قتل الحسين (عليه السلام) لم يكن له أثر مطلوب على الإسلام ، وقال: لقد قويت شوكة بني أُميّة وظنّوا أنّ النفع الوحيد الذي جناه الإسلام هو أنّ حكومة يزيد أصبحت ضعيفة لبضعة أيّام إثر قتل الإمام الحسين (عليه السلام) .
3 ـ قال في ص378 «وإذا كان المراد هو أ نّ الشيعة قد انتظمت بقتل الإمام فلابدّ من القول بأنّ الشيعة قد قويت شوكتهم من جانب بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) ، وضعفت من جانب آخر . . . إلى آخره ، ثمّ تابع هذا الموضوع في ص379 .
4 ـ ثمّ قال في ص382 ـ في بحث بعنوان زبدة الكلام ـ : «لا يمكن قبول الفكرة القائلة بأنّ الإسلام قد انتعش بقتل الحسين (عليه السلام) » ولا يمكنه أن يقول: مرادي أنّ قتل الحسين (عليه السلام) أدّى إلى الإضرار بالإسلام ، من حيث إنّ الجريمة قد ارتكبت من قِبل قاتلي الحسين (عليه السلام) ; لأنّنا لا نرى عاقلا ينكر أنّ قتل الحسين (عليه السلام) ضرر جسيم وجريمة لا تُغتفر ، بل مرادك أنّ حادثة كربلاء وقتل الحسين (عليه السلام) كانت ضرراً على الإسلام ، وهذا ما أوردته في ردّك على محبّ الدين في الدفاع عن هذا الضرر بأنّ