(الصفحة 269)
بِغَيْرِ حَقٍّ}(1) ، أولم يفكّر الأنبياء بأنّ في قتلهم ضرراً على المسيرة ، كان عليهم أن يسلكوا سبيلا لا يؤدّي إلى فقدانهم ، فيبقى الدين عزيزاً بحياتهم ووجودهم ، لكنّا نعلم بأنّهم خاطروا بأنفسهم ووقفوا بوجه المشركين والكافرين حتّى ضحّوا بأنفسهم .
لا يمكن افتراض الحسين (عليه السلام) إماماً ظاهرياً للمسلمين ، وأنّه مبسوط اليد ليخلص إلى نتيجة مفادها: عدم إدراك وقبول إحياء الإسلام بفقدان الزعيم ، فالحسين (عليه السلام) لو هادن يزيد لما عاد إماماً ، ولو أكبّ مسيرة يزيد وأضفى الشرعية عليها ، فهل في مثل هذا الإمام نفع للإسلام؟ وهل من سبيل أمام الإمام لو لم يهادن ويداهن سوى الشهادة؟ لقد كان عزم يزيد أن يبايعه الحسين (عليه السلام) لتكون النتيجة اضمحلال الدين ، وإلاّ حمل إليه رأسه الشريف ، الأمر الذي لا يجعل لحياة الإمام من نفع للإسلام .
من هنا كانت وظيفة الإمام التي تكمن في إحياء الإسلام والدفاع عن الحقّ تعني التضحية وعدم مسايرة حكومة بني اُميّة ، وسقي شجرة الإسلام بالدماء الطاهرة الزكية .
- بنفسه اشترى حياة الدين
بنفسه اشترى حياة الدين
-
فيالَها من ثمن ثمين(2)
فيالَها من ثمن ثمين(2)
لقد ظنّ بأنّ حركة الحسين (عليه السلام) كانت تتجه صوب الكوفة والأخذ بزمام الاُمور والسيطرة على الحكومة ، وهذا الهدف لا ينسجم والعلم بالشهادة ، بل لم يكن الإمام يظنّ بأنّه يرد كربلاء ويقتل فيها ، وذلك لأ نّ هذه الشهادة لم تكن لصالح الإسلام ، بينما ليس هناك من منافاة عقلائية بين الحركة إلى الكوفة والعلم بالشهادة ، كان عنوان الحركة هو الكوفة والأخذ بزمام الاُمور ، كي لا ينبري
- (1) سورة النساء : الآية 155 .
- (2) من مراثي آية الله الكمپاني .
(الصفحة 270)
أحدهم ويتخرّص بأنّ الاُمّة تأهّبت لامامة الحسين (عليه السلام) فرفضها ، ولا يتسرّب الشكّ إلى النفوس بأنّ الزعامة لو كانت حقّاً ثابتاً له لما رفضها ، فقرّر الإمام أن يخرج إلى الكوفة من أجل إحياء الإسلام ، فقد ماتت السُنّة وأُحييت البدعة ، ولما كان يعلم بشهادته وعدم درك هدفه ، استعدّ للتضحية والفِداء ، أمّا الكوفة ومقاومة حكومة يزيد ليكتب في التأريخ بأنّ الحسين (عليه السلام) ثار من أجل إحياء الإسلام وإمامة الاُمّة وإنقاذها من بؤسها وشقائها ، وهذا ما سيؤدّي إلى قتله وفوزه بلقب سيّد الشهداء (عليه السلام) ، ولو صرّح الإمام بأنّي أذهب لاُقتل في كربلاء ، لما استطاع التأريخ أن يصيب في تقييم الحادثة وأنّ الهدف هو إحياء الإسلام ، في حين يعلم الإمام أنّ هذا الهدف لا يتحقّق إلاّ في ظلّ التضحية والشهادة .
المعطيات الخالدة للحادثة :
لقد فتحت حادثة كربلاء منذ انبثاقها الباب على مصراعيه أمام انبعاث الإسلام من جديد ، أمّا وقوع الحادثة فقد أفرز حقّانية الحسين وكونه الإمام الحقّ ، وبطلان حكومة يزيد وكونه إمام الضلالة الذي يهدف إلى القضاء على الإسلام ، لقد جهدت الأجهزة الإعلامية لحكومة معاوية وابنه يزيد على تقديم الإمام كفرد خارجي لا يمت بصلة إلى الدين ، وقد تفاجأ أهل الشام لخبر قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) في محراب العبادة ، ليتساءلوا مع أنفسهم: أفيصلّي علي حتّى يُقتل في المحراب!
كان معاوية ينفق الأموال الطائلة دون حساب من أجل وضع الأحاديث ضدّ أهل البيت (عليهم السلام) ، في حين أثبت الحسين (عليه السلام) في كربلاء أنّ أهل البيت أصحاب حقّ ، وقد بلغوا كربلاء مظلومين للدفاع عن الدين ، يزيد شارب الخمور وهو الفاسق عبد الدنيا والشهوة ، الذي لا يتحرّج عن سفك دم الرضيع ، ويعمد بعد
(الصفحة 271)
القتل والفتك إلى إحراق خيام النساء وسلبهنّ ما عليهنّ ، لقد أحبطت حادثة كربلاء في أوائل أيّامها كافّة دعايات معاوية ، كما أفهمت عسكر يزيد أنّ الحسين (عليه السلام) ضحيّة شهوات يزيد والحقد الدفين لعلي (عليه السلام) .
لقد كشفت خطبه ذلك اليوم عن كمالات الإمام (عليه السلام) ، عن ولايته وإمامته وصلاحيته وزعامته وعلمه ودرايته وشجاعته وفصاحته وتضحيته وحقّه ، بما لا يدع مجالا لرواسب دعايات الجهاز الأموي . وهذا يزيد الذي جيّش الجيوش وشقّ وحدة الاُمّة الإسلامية في قتاله للحسين (عليه السلام) ! بحيث اندفع البعض لقتاله وهو «يتقرّب إلى الله بدمه»! إلاّ أنّ نفس الحادثة والخطابات الحماسية للإمام أزالت الإبهام والغموض وأوضحت الأمر ، بما جعل بعض عسكر يزيد يلتحق بركب الإمام ، ويرتفع صوت البعض الآخر بالاعتراض والاستنكار .
لقد أثبت الحسين (عليه السلام) في ذلك اليوم أنّ الباغي هو يزيد ، كان لا ينفكّ عن إيراد خطبه وكلماته التي عرّت التيار الأموي وكشفت زيفه للناس ، الذين ليس لهم سبيل سوى تصديق ما كان يقوله الإمام .
لقد اذعن العدوّ لصحّة ما أورده الإمام (عليه السلام) : «إنّ عليّاً كان أوّلهم إسلاماً ، وأعلمهم علماً ، وأعظمهم حلماً ، وأنّه وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة»(1) .
وهو الذي هتف عالياً أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة»(2) .
وأخيراً هو الذي جعل العدوّ يشهد بأنّ حسيناً إنّما يقتل ثأراً من علي (عليه السلام) وهو الذي جعل الحرّ بن يزيد الرياحي يعيش الخيار بين الجنّة والنار فيلتحق بركب الحسين (عليه السلام) .
- (1) الأمالي للصدوق: 223 مجلس 30 قطعة من ح 239، وعنه بحار الأنوار 44: 318 قطعة من ح 1 .
- (2) مسند أحمد بن حنبل 4: 8 ح 10999 و ص 125 ح 11954 و ص 129 ح 11618 .
(الصفحة 272)
إذن ، فقد ذهبت أدراج الرياح جميع تلك المدّة المديدة من الدعايات المسمومة خلال المرحلة الاُولى من حادثة كربلاء ، ثمّ اتّضح ظلم يزيد وجوره ، وما زالت الحادثة الحسينيّة إلى يومنا هذا تدمع العيون وتجدّد الأحزان كلّ عام كما تجنّد الطاقات وتعبّئها باتجاه العدل والحرّية .
النظرة السطحية :
قد يظنّ البعض بأنّ حادثة كربلاء قد ضاعفت قدرة بني اُميّة ، وأنّ فقدان القائد قد أدخل اليأس على قلوب الناس ، كما أدّت بعيالات الحسين (عليه السلام) إلى الأسر والسبي ، دون الالتفات إلى أ نّ هذه الحادثة قد هزّت عرش يزيد وقلبت خططه وأفكاره رأساً على عقب ، فكلّنا نعلم أنّ يزيد قد هَمّ بتقويض صرح الإسلام وهدم معالم الدين ، وكان يتحيّن الفرص للثأر من بدر وحنين ، في حين دفعت كربلاء بيزيد لأن يتظاهر بالدين ويلقي باللائمة على ابن مرجانة في تعجيله بقتل الحسين (عليه السلام) .
يأس الاُمّة:
أمّا الاُمّة فلم تشعر باليأس بقدر ما عاشت حالة من الثورة والغليان والغضب والنقمة ، الأمر الذي تمخّض عن قيام المختار ، ولم تستطع الزعامة الغاشمة مواصلة حكومتها إلاّ بقوّة الحديد والنار .
نعم ، لقد آتت تلك الحادثة أُكُلها منذ لحظاتها الاُولى ، ثمّ أعقبتها تلك الحملة الإعلامية التي قادها أهل البيت بعد الحادثة بيومين ، لتشهد الكوفة من جديد الهدير العلوي المدوّي على لسان كريمته زينب الكبرى ، ففضحت يزيد وأسقطت الأقنعة عن وجهه الكريه ، كيف يزعم أنّ سبي زينب لم يكن من ضمن أهداف
(الصفحة 273)
الإمام (عليه السلام) ؟ يا له من زعم أجوف; ما الذي حدا بالإمام لاصطحاب النسوة وهو يعلم بقتله في كربلاء؟ ليس هنالك ما يدعو إلى القلق فيما لو بقين في الحرم المكّي الآمن؟ ألا يشعر الإمام بالقلق على عيالاته بالإتيان بهنّ إلى كربلاء وهو يعلم بقتله ، فهل هنالك مثل هذا القلق لو بقين في مكّة؟ لو بقين في مكّة لما كان لهنّ من ملاذ بينما يتمتعنّ بالحصانة السياسية لو رافقن الحسين (عليه السلام) !! أو لم يبق ابن عباس ومحمّد بن الحنفية في مكّة أو المدينة؟ لو لم يكن الأسر والسبي من ضمن الأهداف ، أفلا يعتبر الحسين (عليه السلام) مُقصّراً؟ فالحسين (عليه السلام) كان يعلم بأنّه مقتول ، أفلم يحتمل أنّ ذلك القتل سيؤدّي إلى سبي عيالاته ؟ وعلى فرض هذا الإحتمال فهل هو احتمال منجّز؟ اللهمّ إلاّ أن يُقال: إنّ الإمام لم يكن قد تكهّن بعاقبة الأمر!
طبعاً إن كنت ممّن يؤمن بأنّ الإمام معصوم بعيد عن الزلل والخطأ فكيف تحلّ هذا الإشكال؟ وكيف توفّق بين هذه التناقضات؟ نفترض أنّك تعتقد بأنّ الإمام لم يكن عالماً بعاقبة الأمر منذ البداية ، ولكن حين اعترضه الحرّ وقد اتّضحت عواقب الاُمور كما ذكرت فلِمَ لَمْ يقترح رجوع نسائه؟ هل كان الحرّ مأموراً بتسليم عيالات الحسين (عليه السلام) إلى عبيدالله أيضاً؟ لو كان الحسين (عليه السلام) اقترح على الحرّ رجوع عيالاته ألم يكن ذلك كافياً في قبول عذر الحرّ عند عبيدالله؟ لقد أقررت بعذره حيث قلت: لو ترك الحرّ الإمامَ يرجع لما آخذه عبيدالله ، فلم لم يقترح الإمام رجوع عيالاته؟ ولما شعر بأنّ الخطر قد أحدق به ـ كما زعمت ـ فهل الإصرار على اصطحاب أولئك الأعزّة يُفيد عدم التنبؤ بوقوع الأحداث؟ إذن لا يمكن القول بأنّ الأسر لم يكن من الأهداف المرسومة ، بل من المتيقّن كان جزءاً مكمِّلا للشهادة ، فكان لابدّ لتلك القافلة من القيام بمهمّتها الإعلاميّة .
فوظيفة الحسين (عليه السلام) التضحية من أجل الإسلام ، بينما كانت مهمّة زينب تكمن