(الصفحة 27)
لآخر، ولذلك نقول بأنّ الأصل الأوّلي هوعدم حكومة فرد لفردآخر أو عدّة أفراد.
وعلى ضوء ما تقدّم فإن كان هنالك بعض الأفراد الذين يتمتّعون ببعض السمات والامتيازات فهم يتمتّعون ببُعد الآمرية قطعاً .
كالأفراد الذين يضاعفون من قواهم العقلية إثر كثرة الدراسات والتحقيقات العلمية والتجارب في الحياة ، فتكون لهم قدرة تميِّزهم عن الآخرين في تشخيص الأمور وتحديد العناصر الأساسية التي تلعب دوراً في تحقيق سعادة الإنسان وفلاحه ، فمثل هؤلاء الأفراد وبفضل كونهم أكثر دراية وبصيرة وأعظم قوّة واقتداراً وملكة عقلية في إدراك الأمور بما لا يسع الآخرين دركه أن يكون لهم حقّ الإمرة والحكومة على الأفراد الذين يفتقرون لتلك المواصفات .
ولذلك نرى الفطرة تقود إلى هذا النهج والأُسلوب ، فالطفل الذي يقصّر عن تشخيص الأشياء أو يفتقر لهذا التشخيص يطيع والديه ويمتثل ما تقتضيه مشيئتهما ، وهذا ما عليه الحال بالنسبة للجاهل تجاه العالم ، والفرد الخام إزاء الناضج ، والقلق الخاوي حيال المستقرّ المحكم ، فهو يطيعه ويقتفي أثره في طريقة حياته .
إذن فالأصل الأوّلي يفيد عدم تميّز الأفراد على بعضهم البعض ، والحرّية في العمل ، وعدم حكومة فرد لآخر ، إلاّ أنّ هذا الأصل قد يخرق في بعض الحالات ولا يمكن تطبيقه ، فإذا كان هناك شخص أو أشخاص يتمتّعون بقدرات فكريّة وعقليّة تفوق الآخرين ، فإنّ الفطرة تقتضي في هذه الحالة بضرورة تبعيّة الجاهل للعالم والناقص للكامل والضعيف للقوي .
أمّا الأمر المهمّ الذي لا ينبغي أن يغيب عنّا هنا هو أنّ طاعة الجاهل للعالم لاتقتصر على علمه فقط ، وانقياد الفرد البسيط للناضج الحكيم إنّما يختص بما له فيه الحكمة وهكذا دواليك .
ولكن إذا فرضنا فرداً كان نموذجاً للآخرين في تجاربه ، ويفوق جميع الناس
(الصفحة 28)
علماً وعملا وقدرة وبصيرة وفكراً وإحاطة بدقائق الأُمور ، وكان وجوده علماً وإدراكاً ودراية وحكمة ، ولم يقصر ببصره على الدنيا ، بل امتدّ نظره إلى الآخرة بما يجعله قادراً على إرشاد الناس وهدايتهم إلى الفلاح والسعادة والفوز بالحياة الأبديّة ، بل إذا كان علمه خارقاً محيطاً بجميع الكمالات والسعادات الأبديّة ، وكان له عقل نوراني ليس معه ظلمة ، بل كان كائناً ملائكياً ومنبعاً للفضائل والخصال الحميدة ، فهل ترى الفطرة في هذه الحالة أن تكون طاعته محصورة في حدود معينة ، كأن يُطاع في مورد ويعصى في آخر؟ أم أنّ الفطرة تقتضي التسليم له واتّباعه حيثما حلّ والاستسلام إلى حكومته وتفويضه كافّة مقدّرات حياته ، ليتسنى له أن يبلغ الكمال الإنساني ، وبالتالي يكون المجتمع مجتمعاً مقتدراً فاضلا يسوده العدل والقسط حتّى تصبح البلاد في ظلّ طاعته بمثابة المدينة الفاضلة؟
لاشكّ أنّ حكم العقل واقتضاء الفطرة يرى أنّ طاعة مثل هؤلاء الرِجال العِظام لابدّ أن تكون طاعة مطلقة عمياء ، وسوف لن تعدّ هذه الطاعة مذمومة ، ولا تتعارض مع الوجدان والعقل ولا تتضارب والطبيعة الأُولى في عدم أحقيّة حكومة فرد لآخر ، بل هي طاعة سليمة كما يراها العقل ويدعو إليها .
فالذي نخلص إليه ممّا سبق أنّ الأصل الأوّلي وإن أفاد عدم حكومة وإمرة فرد على آخر ، إلاّ أنّ هذا الأصل لا يصدق في بعض الأحوال; لأنّ العقل يحكم بلزوم طاعة الأُمّة لأفرادها من ذوي الفضل والكمال ، لكن إذا كان فضله وامتيازه محدوداً كانت طاعته محدودة أيضاً ، وإن كانت امتيازاته مطلقة كانت طاعته مطلقة في كلّ شيء .
لمن الطاعة ؟
سؤال : إنّ ما قيل على سبيل الفرض هو عين الصواب; لأنّ العقل يقضي
(الصفحة 29)
بالطاعة المطلقة للإنسان بالصيغة المذكورة سابقاً ، أي إذا كان المُطاع هو فرد أكمل من الجميع في كافّة الكمالات وأعلمهم في جميع العلوم الإنسانية وأعرفهم بسبيل سعادة الإنسان وفلاحه ، فإنّ العقل يحكم بجواز بل بوجوب طاعته ، ولكن أين مثل هذا الفرد؟ ولمن ينبغي أن يسند هذا المقام لنطيعه؟
جواب : لقد تكفّلت الآية القرآنية ـ آنفة الذكر ـ بحلّ إشكالية هذا السؤال ، فالطاعة المطلقة لله ، والله هو الذي عدّ طاعة الرسول كطاعته ، كما أنّ الله هو الذي أوجب طاعة أُولي الأمر .
وعليه فمصداق ذلك الفرد ليس سوى رسول الله وأُولي الأمر ، لكن يبدو أ نّ هناك نقطة مهمّة وردت في الآية لابدّ من الالتفات إليها ، فقد وردت لفظة «الطاعة» مكرّرة في الآية ، حيث قالت:
{أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ونفهم من هذا التكرار أنّ طاعة رسول الله في طول طاعة الله ، فطاعة الله لا ينبغي أن يتخلّلها أيّ تأمّل ولا يشوبها أيّ توقّف ، أمّا طاعة الرسول الواقعة في طول طاعة الله فهي إنّما تنتهي إلى إرادة الله وتؤدّي إلى تحقّق التوحيد والعدل والفضائل ، وإلاّ فإنّ طاعة الرسول ليست لازمة قطّ إذا كانت على الخلاف من ذلك ، وكان السبيل الذي يسلكه لا ينتهي إلى الله والفضيلة وتحقيق السعادة للناس ولا يقود إلى الكمال ، بينما قال سبحانه
{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي أنّ ما يقوله إنّما هو الشيء الذي يجب أن يؤول إليه البشر ، والحكومة التي ينهض بها إنّما تمثّل الحكومة التي يجب أن تنضوي كافة الإنسانية تحت لوائها ، لتتمكّن الأُمّة في ظلّ تلك الحكومة وزعامة ذلك القائد أن تنال الحياة الآمنة والوادعة المستقرّة المشتملة على السعادة ، وأن تجعل دنيا الناس حرّة سعيدة متّصلة بالآخرة بعيدة عن كلّ خمول وتخلّف ، سواء في الحياة الدنيوية أو في كسب الفضائل والتزوّد للحياة الاُخروية الأبديّة .
ثمّ أردفت عبارة الآية
{وأَطِيعُوا اللَّهَ} بقوله تعالى:
{وَأُوْلِى الاَْمْرِ} ولم تتكرر
(الصفحة 30)
كلمة «الطاعة» ويعود عدم تكرار الطاعة إلى تساوي ووحدة هدف طاعة الرسول وطاعة أُولي الأمر ، فكما أنّ طاعة الرسول تؤدّي إلى السعادة والفلاح وحكومته تبسط الاستقرار وتشيع الخير والصلاح فإنّ طاعة أُولي الأمر كذلك .
إذن فطاعة الرسول هي طاعة أُولي الأمر ، وليس هنالك أدنى تفاوت واختلاف في الآثار والفوائد التي تترتّب على كلّ طاعة ، سواء كانت طاعة الرسول أم طاعة أولي الأمر .
وعوداً إلى الآية الشريفة ، فإنّها ذكرت طاعة النبي وأُولي الأمر وأوجبتها بصورة مطلقة ، وحيث أوردتها على نحو الإطلاق ، فإنّ ذلك يعني أنّ طاعتهم لازمة في كلّ الأُمور .
وعلى ضوء هذا الإطلاق وما ورد في المقدّمة يتحصّل أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وولاة الأمر إنّما هم أفراد يتمتّعون بقوى وقدرات تفوق سائر البشرية ، كما يتبيّن أنّهم في قمّة السموّ وذروة الكمال الإنساني ، وهم أعظم من غيرهم في العقل والإدراك والبصيرة والخبرة بكافّة حوادث الدنيا وطرق السعادة والفلاح ، بحيث يحكم العقل وتقضي الفطرة بوجوب تسليم كافّة العُقلاء والعلماء والمجرّبين فضلا عن سائر شرائح الأُمّة لهم في كافّة شؤون حياتهم الدنيوية والأُخروية .
خلاصة البحث:
1 ـ الأصل الأوّلي يقتضي عدم أحقيّة حكومة فرد أو أفراد لفرد أو أفراد من الآخرين .
2 ـ المبنى الأساس لصحّة هذا الأصل هو عدم وجود التمايز بين شرائح الأُمّة من حيث قوى العقل والإدراك وسائر الصفات والخصائص المميزة ، وليس هناك من معنى للطاعة في هذه الحالة سوى صورة واحدة ، وهي «الترجيح بلا مرجّح» وهذا الترجيح مرفوض بحكم العقل .
(الصفحة 31)
3 ـ يشذّ هذا الأصل في بعض الحالات ولا يصحّ تطبيقه ، أي في الحالات التي يكون فيها امتيازات لفرد أو بعض الأفراد على الآخرين من حيث الفضائل المعنوية والقوى العقلية والبصيرة بالأُمور ، فإنّ طاعة مثل هؤلاء الأفراد طبيعية بل ضرورة لازمة بحكم العقل والفِطرة ، إلاّ أنّ هذه الطاعة إنّما تكون بمقدار الامتياز ومورده .
4 ـ إذا كان هناك أفراد يتمتّعون بامتيازات مطلقة غير محدودة في كافّة الكمالات ، فإنّ طاعة الآخرين لهؤلاء الأفراد بحكم العقل مطلقة لا تعرف الحدود ، أي لابدّ من اقتفاء آثارهم في كلّ أمر والائتمار بأوامرهم ونواهيهم والتسليم والانقياد التامّ لهم .
5 ـ طالما أقرّت الآية الكريمة طاعة الرسول وأُولي الأمر في طول طاعة الله وأوجبت على الأُمّة مطلق الطاعة ، فالذي يتبيّن على هذا الضوء أنّ ولاة الأمر في الإسلام كرسول الله في أنّهم ممتازون مطلقاً في جميع الصفات الإنسانية والكمالات الروحية .
وهنا نقول بعد هذه الخلاصة: إنّنا نعرف رسول الله وهو محمّدبن عبدالله (صلى الله عليه وآله) ، ونعلم أيضاً بأنّه محيط من خلال الوحي بكافّة الأسرار التي تتضمّن سعادة البشرية ، حتّى أوجب القرآن الكريم طاعته المطلقة فقال:
{وَمَا آتَاكُمُ الْرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(1) .
ولكن من هُم اُولي الأمر الذين جعل الله طاعتهم في طول طاعته ، ثمّ قرنَ طاعتهم بطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟
فإن قُلنا ـ على ضوء ما تقدّم ـ : إنّ القرآن والإسلام لا يرى أنّ كلّ فرد يمكنه أن يكون من ولاة الأمر وإن تمّ اختياره مِن قبل الأُمّة فإنّنا لم نقل جزافاً; وذلك
- (1) سورة الحشر: الآية 7 .