(الصفحة 31)
3 ـ يشذّ هذا الأصل في بعض الحالات ولا يصحّ تطبيقه ، أي في الحالات التي يكون فيها امتيازات لفرد أو بعض الأفراد على الآخرين من حيث الفضائل المعنوية والقوى العقلية والبصيرة بالأُمور ، فإنّ طاعة مثل هؤلاء الأفراد طبيعية بل ضرورة لازمة بحكم العقل والفِطرة ، إلاّ أنّ هذه الطاعة إنّما تكون بمقدار الامتياز ومورده .
4 ـ إذا كان هناك أفراد يتمتّعون بامتيازات مطلقة غير محدودة في كافّة الكمالات ، فإنّ طاعة الآخرين لهؤلاء الأفراد بحكم العقل مطلقة لا تعرف الحدود ، أي لابدّ من اقتفاء آثارهم في كلّ أمر والائتمار بأوامرهم ونواهيهم والتسليم والانقياد التامّ لهم .
5 ـ طالما أقرّت الآية الكريمة طاعة الرسول وأُولي الأمر في طول طاعة الله وأوجبت على الأُمّة مطلق الطاعة ، فالذي يتبيّن على هذا الضوء أنّ ولاة الأمر في الإسلام كرسول الله في أنّهم ممتازون مطلقاً في جميع الصفات الإنسانية والكمالات الروحية .
وهنا نقول بعد هذه الخلاصة: إنّنا نعرف رسول الله وهو محمّدبن عبدالله (صلى الله عليه وآله) ، ونعلم أيضاً بأنّه محيط من خلال الوحي بكافّة الأسرار التي تتضمّن سعادة البشرية ، حتّى أوجب القرآن الكريم طاعته المطلقة فقال:
{وَمَا آتَاكُمُ الْرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(1) .
ولكن من هُم اُولي الأمر الذين جعل الله طاعتهم في طول طاعته ، ثمّ قرنَ طاعتهم بطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟
فإن قُلنا ـ على ضوء ما تقدّم ـ : إنّ القرآن والإسلام لا يرى أنّ كلّ فرد يمكنه أن يكون من ولاة الأمر وإن تمّ اختياره مِن قبل الأُمّة فإنّنا لم نقل جزافاً; وذلك
- (1) سورة الحشر: الآية 7 .
(الصفحة 32)
لأنّناذكرنا سابقاً بأنّ لأُولي الأمر كما للرسول طاعة مطلقة ، كما قلنا بأنّ الطاعة المطلقة مساوقةوملازمة للاشتمال على الامتيازات المطلقة ، أي لابدّ من القول ـ على ضوءهذه الآية دون تفسيرها وتعيين مصداقها ـ بأنّ اُولي الأمر لابدّ أن يكونوا أفراداًممّن يستندعلمهم إلى معدن الوحي ،وإلاّيكون علمهم جهلامركّباً ،وألاّ يقتصر على مائة آية أوأقلّ أوأكثر ،كمالايكون علمهم مستنداً إلى تجارب معينة أو دراسات وأبحاث اجتماعية محدودة ، بل لابدّ أن يكونوا قد نهلوا العلم ورضعوه من ثدي الوحي ، وأن يكونوا عالمين بالقرآن والسُنّة محيطين بجميع أسرار الدين ومصير المسلمينوسبل السعادةوطرق الشقاوة ، ولابدّ أن يكونوا أفراداً ذوي بصائر مطلقة وتامّة بأوضاع المجتمع وروحيّات الأُمّة وفي اُسلوبهم في الحكم وزعامة المسلمين .
ويجب أن يكونوا على درجة من الزهد والورع والتقوى بحيث لا تحرفهم زخارف الدنيا وزِبرجها وحلاوة رئاستها عن جادّة الصواب وسبيل الحقّ ، وينبغي أن يكونوا على درجة من التوسّم وقوّة التشخيص بما يحول دون خطأهم وزللهم ، حتّى لا يصدروا جِزافاً الأحكام الخاطئة والقوانين المخالفة للقرآن والسُنّة فيخرّبوا البلاد ويُهلكوا العباد ، كما لابدّ أن يكونوا معصومين من الذنب والخطأ والاشتباه ، وأخيراً ينبغي ألاّ يبخلوا بالتضحية بالغالي والنفيس والجود بالنفس من أجل عظمة الإسلام وتحقيق عزّة المسلمين ورفعتهم ، وألاّ تأخذهم في الله لومة لائم في إحقاق الحقّ واستيفاء حقوق المسلمين ، وألاّ يألوا جهداً في الدفاع عن القرآن والإسلام وتطبيق الأحكام والتعاليم الإسلامية .
إذن وعلى ضوء سياق الآية وما يفهم منها نعرف مَن هم أُولي الأمر؟ فالذي يمكن فهمه من قوله تعالى:
{وَأُوْلِى الاَْمْرِ} أي وأطيعوا أُولي الأمر ـ فإنّ طاعتهم هي طاعة رسول الله ، وأ نّ طاعة رسول الله إنّما هي بمثابة طاعة الله ـ هو أنّ أُولي الأمر الذي أوجبت الآية الكريمة طاعتهم ليسوا إلاّ أُولئك الذين رضعوا من ثدي
(الصفحة 33)
الوحي عرفوا كتاب الله ، وعلموا بما يجري على المسلمين من حوادث ، وأحاطوا بكافّة أحكام الإسلام استناداً إلى منطق الوحي .
نعم ، لا يمكن أن يكون ولاة الأمر سوى أولياء الله الذين يتّصفون بالورع والتقوى والزهد والبصيرة والدراية والزهد والعصمة والشجاعة والسماحة والمروءة والتضحية من أجل حفظ كيان الإسلام والذود عن أحكام القرآن .
مزيد من الضوء على آية أُولي الأمر:
ذكرنا آنفاً أنّ الآية الكريمة تفيد عدّة أُمور:
1 ـ كون الطاعة المطلقة ومطلق طاعة الله والرسول وأُولي الأمر واجباً وفريضة .
2 ـ هناك سنخية بين طاعة الرسول وطاعة الله ، أي أنّ الرسول لا يهدف في آمريته سوى رضا الله وتحقق التوحيد وسعادة الأُمّة ، وأنّ كلّ ما يأمر به إنّما يستند إلى حقيقة الوحي والبصيرة التامّة والعلم الشامل بمصير البشرية والصراط المستقيم الذي ينبغي أن تسلكه الإنسانية جمعاء .
3 ـ طاعة أُولي الأمر مساوقة لطاعة رسول الله ، وعليه فلابدّ من الإذعان لهذه الحقيقة ، وهي أنّهم يستندون في منطقهم على غرار رسول الله إلى الوحي ، وهم يحوزون على ذات البصيرة والعصمة عن الخطأ التي حاز عليها رسول الله ، وإلاّ لما جازت طاعتهم المطلقة في كافّة شؤون الحياة الدنيوية والأُخروية .
ولكن هناك نقطة لابدّ من عدم إغفالها ; وهي أنّ ولاة الأمر لا يتلّقون الوحي ـ كالرسول ـ إلاّ أنّ علمهم إنّما يأتي عن طريق مجاري الوحي وتعاليم رسول الله لهم ، ولكن حيث قرنت طاعتهم بطاعته فإنّ ذلك يوجب علمهم ومعرفتهم بكافّة الحوادث الخفيّة التي يعلمها الرسول ويحيط بها .
(الصفحة 34)
أجل ، إنّ مغزى هذا الكلام هو تعيين مصاديق أُولي الأمر ، ولا نرى من حاجة إلى التعيين من خلال سائر الأدلّة ، وعلى هذا الضوء لابدّ من القول بأنّ جميع الأخبار والروايات المتواترة التي صرّحت بأنّ أُولي الأمر هم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، لا تعتبر من قبيل الأدلّة التعبديّة التي تفرض علينا التعبّد بها دون الحاجة إلى إقامة البراهين العقلية; ولابدّ من القول أيضاً بأنّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) قد أشاروا لما من شأنه أن يفيده التأمّل والتمعّن في مفاد الآية الكريمة ، ولم يستندوا في ذلك إلى علمهم بالمغيبات لعدم وجود ضرورة تدعو إلى مثل ذلك .
وبعبارة أُخرى: فإنّ كون الأئمّة الأطهار مصداقاً لعنوان «اُولي الأمر» إنّما هو تعيين قهري لا تعيينهم هم أنفسهم ، وإذا تتبّعنا الأخبار فهي ليست سوى إضافة وتصريح لما أفادته الآية الكريمة ، ولا يسعنا هنا إلاّ أن نذكر بعض النماذج من الروايات التي صرّحت بولاة الأمر ، لعلّنا نتوقّف بصورة أعمق وأكثر جديّة على الحقائق ، وإليك ما ساقه الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) بشأن هذه الآية وسائر الآيات المماثلة:
الحديث الأوّل:
ابن بابويه الصدوق قال: حدّثنا غير واحد من أصحابنا قالوا: حدّثنا محمّد ابن همام ، عن جعفر بن محمّد بن مالك الفزاري ، عن الحسن بن محمّد بن سماعة ، عن أحمد ابن الحارث قال: حدّثني المفضّل بن عمر ، عن يونس بن ظبيان ، عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سمعت جابر بن عبدالله الأنصاري يقول: لمّا أنزل الله على نبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله) :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الْرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنْكُمْ } قلت: يارسول الله عرفنا الله ورسوله فمن أُولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟
فقال (عليه السلام) : هم خُلفائي يا جابر وأئمّة المسلمين من بعدي ، أوّلهم علي بن أبي
(الصفحة 35)
طالب ، ثمّ الحسن ثمّ الحسين ، ثمّ علي بن الحسين ، ثمّ محمّد بن علي المعروف في التوراة بالباقر ، وستدركه يا جابر ، فإذا لقيته فأقرأه منّي السلام ، ثمّ الصادق جعفر بن محمّد ، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ علي بن موسى ، ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ علي بن محمّد ، ثمّ الحسن بن علي ، ثمّ سميّي محمّد وكَنِيّي حجّة الله في أرضه وبقيّته في عباده ابن الحسن بن علي»(1) .
ملاحظة:
في الرواية عدد من النقاط الجديرة بالاهتمام ، وهي:
1 ـ لقد فهم جابر من الآية الكريمة عين ما ذكرناه كراراً سابقاً ، كما ذهب إلى أنّ طاعة أُولي الأمر مماثلة ومشابهة لطاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
2 ـ لقد عبّر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ولاة الأمر بخلفائه وأئمّة المسلمين بعد رحيله ، والحال ليس هنالك من معنى للخليفة سوى الخلافة في المناصب والوظائف الرسالية .
3 ـ لقد ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسماء الأئمّة من بعده الذين لم يلدوا ذلك الحين ، كما ذكر خصال إمامين منهم ، وأنّ تسميتهم بأسمائهم وذكر بعض صفاتهم والإخبار عن لقاء جابر للإمام الباقر (عليه السلام) إنّما يدلّ على أنّ ذلك الإخبار كان مستنداً للوحي ، وأنّ الوحي هو الذي صرّح بأسمائهم وولايتهم; فالذي نخلص إليه من هذه الرواية هو أنّ الله عيّن هؤلاء الأئمّة لا رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
بعبارة أُخرى : هناك فرض يصرّح بأنّ الإمامة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) كانت متروكة له ، فالنبي يستخلف من يشاء ، حيث فوّض الله له ذلك . كما هناك الفرض الآخر الذي يذهب إلى أنّ الله سبحانه هو الذي عيّن الأئمّة وبيّن صفاتهم للنبي (صلى الله عليه وآله) ،
- (1) كمال الدين: 253 ح 3، وعنه تفسير كنز الدقائق 2: 493.