(الصفحة 48)
(الصفحة 49)الدليل الثالث من القرآن
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْصَّلَـوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـوةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(1) .
الولاية لله والرسول ، ثمّ لعدد من المؤمنين ، وكلمة «الذين آمنوا» ذات دائرة واسعة ، ممّا حدا بالقرآن لقصرها على طائفة خاصّة من المؤمنين فقال:
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْصَّلَـوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـوةَ} .
فليس لجميع المؤمنين الولاية على الآخرين ، بل الولاية لفئة منهم ، فإن قيل بأنّ «الذين آمنوا» لها ظهور في عامّة الأفراد ، وهي تشمل كافّة المؤمنين على نحو القضية الحقيقية ، ولا تُشير على نحو القضيّة الخارجيّة إلى طائفة معينة ، نقول: ليس لهذا الكلام من معنى قابل للإدراك والتعقّل; لأنّه لا يمكن أن تكون الولاية لجميع المؤمنين على أنفسهم ، فولاية الجميع على الجميع لاتكون سوى الفوضى والهرج والمرج وانهيار النظام الاجتماعي ، في حين وردت الآية القرآنية في مقام جعل
- (1) سورة المائدة : الآية 55 .
(الصفحة 50)
منصب الولاية ، أي كما أنّ الرسول هو ولي الأُمّة الإسلامية والقائم على تدبير شؤونها ; فإنّ لبعض المؤمنين ـ بنص الآية ـ مثل هذا المنصب ، والقرائن التي وردت قبل هذه الآية وبعدها إنّما تؤيّد صحّة هذا المدّعى .
فقد خاطبت الآية السابقة جميع المسلمين قائلة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ . . .} .
وصرّحت الآية اللاحقة بنفس المضمون قائلة:
{وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} .
توضيح المُراد:
الادّعاء القائم هو أنّ العبارة «والذين آمنوا» ـ في الآية التي نحن بصدد بحثها ـ مقتصرة على جماعة معيّنة من المؤمنين ، فولاية المسلمين بعد رسول الله لهذه الجماعة ، والشاهد على صحّة وتماميّة ذلك الآية التي سبقت:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } والآية اللاحقة
{وَمَن يَتَوَلَّ} ، فالآية الشريفة خطاب لكافّة المسلمين ، فالمراد بالضمير المتّصل في جملة
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهَ} هؤلاء المسلمون ، والمعنى: «أيّها المسلمون إنّما وليكم الله ورسوله وبعض من المؤمنين» .
أمّا إذا قلنا إنّما وليّكم الله ورسوله وأنتم المسلمون جميعاً ، فإنّ هذا المعنى ليس بمعقول ، فإنّه لا يمكن أن يكون للمسلمين جميعاً الولاية على أنفسهم ، أفليس مثل هذا الجعل للحكم والمنصب لغواً؟ أو لا يوجب مثل هذا الأمر تصدّع وانهيار النظام الاجتماعي؟! .
أمّا الآية اللاحقة
{وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ...} أي أنّ كلّ من امتثل حكومة وولاية هؤلاء الأفراد بعد الله ورسوله ، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى ظهور مجتمع قوي مقتدر وحزب يعرف باسم حزب الله وستكون له الغلبة على الدوام .
(الصفحة 51)
بناءً على هذا فإنّ هناك طائفة تقرّ بهذه الولاية «ومن يتولّ الله . . .» وهناك طائفة يجب أن تكون هي المتولّية للأُمور ، وعليه : فعبارة «ومن يتولّ الله» إنّما تعيّن وظيفة المسلمين في الانقياد للجماعة ذات الولاية ، والعبارة «والذين آمنوا» تعيّن ولاة المسلمين «إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا» . وبناءً على ما ذكر فإنّ العبارة «والذين آمنوا» حصرت ولاة الإسلام في جماعة خاصّة وطبقة معيّنة محدودة ، إضافة إلى ما ذكرنا من أنّ الآية الكريمة
{وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ...} قد حثّت المؤمنين على الانضواء تحت ولاية تلك الجماعة المعيّنة وتشكيل حزب هو حزب الله الذي يتمتّع المسلمون في ظلّه بالقوّة والمنعة بحيث لن تنالهم الهزيمة أبداً .
فالذي نستفيده من الآيات الثلاث:ـ
1 ـ تحذير الأُمّة من التراجع والنكوص عن دينها وخسارتها للمقام الذي حباها الله تعالى به ، وتذكيرها بعناصر القوّة من جهة أُخرى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. . .} .
2 ـ أنّ الأُمّة الإسلاميّة محتاجة إلى مَن يقودها ، ووليّ الأمر والقيّم على أُمورها هو الله والنبي ثمّ طائفة من المؤمنين .
3 ـ الاستجابة لهذه الولاية ستؤدّي ـ قهراً ـ إلى ظهور حزب قوي يتكفّل بغلبة الأُمّة على أعدائها وعدم الفشل والهزيمة .
قضية مهمّة:
كان بحثنا السابق يدور حول ظاهر الآية الشريفة . أمّا إذا أردنا أن نخوض في سبب النزول فإنّ المُسلّم به هو أنّ الآية المُباركة قد نزلت بشأن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) . فقد ذكر أبو ذر الغفاري: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلّى الظهر بالمسلمين ، فدخل فقير المسجد وسأل فلم يجبه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللّهمّ اشهد
(الصفحة 52)
إنّي سألت في مسجد نبيّك فلم يعطيني أحد شيئاً ، وكان علي (عليه السلام) راكعاً ، فأشار إلى السائل بيده فانتزع خاتمه ، فلمّا رأى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفرغ من الصلاة قال: اللّهمّ إنّي أسألك ما سألك موسى (عليه السلام) في أخيه هارون فاستجبت له ، اللّهمّ اجعل عليّاً (عليه السلام) خليفتي ، اشدد به أزري وأشركه في أمري . قال أبو ذر: فوالله ما أتمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعاءه حتى نزل عليه جبرائيل بالآية
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ . . .}(1) .
هذه واحدة من عشرات الروايات التي أشارت صراحة إلى مصداق قوله .
{وَالَّذِينَ آمَنُوا} ولا نرى حاجة للخوض في الروايات التي وردت في سبب النزول ; لأنّها صرّحت على سبيل القطع بأنّها نزلت في علي (عليه السلام) ، علماً أنّ منهج الكتاب إنّما يستند إلى القرآن لا الروايات . أمّا الحديث ، فقد أكّد أ نّ «والذين آمنوا» إنّما هم عدّة خاصة ، وليس للجميع النهوض بهذه الوظيفة الخطيرة المتمثّلة بالزعامة ، ولا ينبغي التصدّي لها إلاّ من قِبل أولئك الذين لهم صلاحية وأهلية التصدّي ، وأفضل نموذج للتصدّي لها هو علي (عليه السلام) .
إذن فالقرآن الكريم في هذه الآية المُباركة قد عيّن أئمّة المسلمين ، كما أشار إلى زعامة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ولا يقتصر هذا الكلام على عُلماء الشيعة وكبار المحدّثين ، بل ذهب مفسّرو العامّة إلى أنّ هذه الآية قد نزلت في علي (عليه السلام) .
فقد شحن تفسير ابن كثير بعدّة روايات عن عتبة بن أبي حكيم ، وعن سلمة بن كهيل . وكذلك عن مجاهد وابن عباس بعدّة طرق ، وعن السدّي أنّ الآية قد وردت بحقّ علي (عليه السلام) (2)، ومن أراد المزيد فليراجع ما سطّرته العامّة من كتب بهذا الشأن .
وبناءً على ما سبق فإنّ الآية
{وَالَّذِينَ آمَنُوا} قد أشارت إلى موقع بعض
- (1) مجمع البيان 3: 346 ـ 347 .
- (2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2: 71.