(الصفحة 75)
الشريفة ودعوة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) ، فهو يستند في فهمه للقرآن إلى ظواهر الألفاظ وخصائص الكلمات ، إلاّ أنّ روح التعصّب إذا استولت على عالم تدفعه إلى ما يأباه الذوق السليم والطبع القويم ، بحيث أخذ يتخبّط تخبط عشواء ليموّه على الحقائق التي انطوت عليها الآية الكريمة .
فقد علّق صاحب تفسير المنار على عبارة «إنّك أنت العزيز الحكيم» بأنّها وردت لتزيل إشكالا قد يتبادر إلى الأذهان بأنّ دعوة إبراهيم تتنافى والطبع العربي ; لأنّ العرب تقولبت بالبداوة وأنست بالغلظة والخشونة ، وعليه فالأقوام العربية لا تأنس بالعلم والحكمة ، بل هي عدوة للتهذيب والتربية ، فالبداوة العربية لا تخضع قطّ للنظم الاجتماعية وهي بعيدة عن الحضارة والمدنية ، فطبيعتهم البداوة ، ولمّا كان تعليم الكتاب والحكمة وتهذيب الأخلاق لا يعني سوى التسليم للنظام الاجتماعي وتقبّل الحضارة والمدنية والتطبّع بالعادات الإنسانية ، فأنّى لإبراهيم أن يدعو الله بأن يبعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) ليعلّم أولئك العرب الكتاب؟ ويعلّمهم الحكمة ويزكّيهم ويهذّب أخلاقهم .
فقد حصر صاحب «المنار» هذا السؤال في زاوية حرجة ، ثمّ قال للهرب منه: نعم ، إنّ هذا الوهم وارد لو لم يكن الله عزيزاً وحكيماً ، وحيث إنّ إبراهيم (عليه السلام) يعلم بأنّ الله عزيز وحكيم ، فإنّ ذلك الوهم ليس بوارد . أجل ، فالله عزيز وحكيم وبيده حلّ جميع المشاكل ، وليس هنالك من شيء يمكنه أن يقف حائلا أمام إرادته ، إذن ، صحيح أنّ العرب تعادي العلم والحكمة والمدنية ، إلاّ أنّ إبراهيم (عليه السلام) يعلم بأنّ الله عزيز وحكيم ، وعليه فدعوته ليست مستحيلة ، فللقادر العزيز أن يبلغ بهذه الأُمّة منتهى العلم والتمدّن ويجعلها مستعدّة لحمل أعباء الرسالة (1).
كانت هذه بعض العبارات التي ذكرها صاحب المنار بشأن الآيات الكريمة ،
- (1) تفسير القرآن الحكيم، الشهير بـ«تفسير المنار»: 1 / 465 ـ 473.
(الصفحة 76)
والحقّ أنّ صاحب المنار قد عمد إلى اُسلوب التورية بما فهمه من الآيات الكريمة ، وأعرض عن بيان حقيقة الأمر ، كما حاول أن يموّه على المطلب الأساسي أثناء إيراده لذلك الوهم ، فقد أدرك مدلول الآية ، إلاّ أنّه وبذكره لذلك الوهم قد عدل عن السبيل الصحيح .
ولنا أن نسأل صاحب المنار هذا السؤال: هل استنبطت من الآيات أنّ إبراهيم (عليه السلام) سأل الله أن يبعث محمّداً (صلى الله عليه وآله) ليعلّم العرب الكتاب والحكمة والانصياع للنظم الاجتماعيّة؟ وتريد أن تقول بأنّ الدين الإسلامي ليس ديناً عالميّاً ، ولم يبعث محمّد (صلى الله عليه وآله) إلاّ للعرب البدو ليجرّهم إلى المدنية والحضارة والالتزام بالقوانين السماوية للقرآن . وبعبارة أُخرى : فإنّك استفدت التعليم العام من الآية ، إلاّ أنّك تعتبر هذا العموم مقتصراً على فئة خاصّة من الأُمّة الإسلامية ، وهم العرب البدائيّون؟ فإن كان هذا هو الذي فهمته ، كان عليك أن تقرّ بأنّ المراد الأصلي من بعثة محمّد (صلى الله عليه وآله) هو الاقتصار على تعليم وتزكية العرب ، وبالذات العرب البعيدين عن الحضارة والمدنية الذين لم يألفوا التعليم والتربية ويأنسون بالغلظة والخشونة; وهل يمكنك على ضوء هذا الإقرار أن تزعم بأنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) قد بعث للناس كافّة على مدى التأريخ؟
وإذا زعمت بأنّ هذه الآيات تستهدف تعليم النظم الاجتماعيّة الإسلامية وتعليم وتزكية جماعة معينة ، دون أن يتنافى هذا الأمر وكون الدين الإسلامي ديناً عالمياً ، إلاّ أنّ إبراهيم (عليه السلام) سأل الله ليقوم محمّد (صلى الله عليه وآله) بتزكية ذريّته ، وما ذريّته سوى العرب البدو الذين لا يأنسون بالعلم والحكمة . ففي هذه الحالة لا تكون هذه الآيات بصدد إثبات عالمية الدين المقدّس ، بل هي عبارة عن دعوة تضمّنت تعليم وتزكية وإعداد طائفة خاصّة ، الأمر الذي أوردناه سابقاً . . .
إذن ، فالدعوة لم تكن بعث رسول من ذريّة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) إلى طائفة
(الصفحة 77)
معيّنة ، بل كانت تفيد بعث رسول عالمي من ذريّتهما ، ويقوم بتعليم صفوة معيّنة من خاصّة القرآن وأسرار الخلقة ، ويبلغ بروحهم الطاهرة أقصى درجات السموّ والطهارة والكمال .
وبناءً على هذا فإنّنا وإيّاكم نتّفق على معنى واحد أفادته الآيات الكريمة ، وهي أنّ دعوة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) تفيد تعليم النبي (صلى الله عليه وآله) وتزكيته وإعداده لطائفة خاصّة من ذريّتهما ، إلاّ أنّنا نختلف بخصوص هذه الطائفة الخاصّة ، فنحن نقول بأنّ هذه الطائفة الخاصّة هي الصفوة من بني هاشم ، بينما ذهبتم إلى أنّها العرب البدائيّين المعادين للعلم والمعرفة . فسلكتم إثر ذلك طريقاً مسدوداً ، لم يسعكم الخروج منه سوى بتفسيركم للعزيز الحكيم الذي يفيد أنّ الله قادر على أن يبلغ بالعرب البدائييّن قمّة التمدّن ، ويجعلهم يتناولون العلم ولو كان في الثريا بعد أن كانوا أعداءً حقيقيّين لهذا العلم ، وأخيراً يجعل أخلاقهم إنسانية ملكوتية تفيض بالطهر والعفاف .
والآن نسألك هذا السؤال: أيّ دلالة في الآيات جعلتك تستند إلى هذا المعنى؟ فقد أراد إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) أن يُبعث رسول من ذريّتهما وقد بُعث محمّد (صلى الله عليه وآله) ، أو ليس محمّد (صلى الله عليه وآله) الذي ينتمي إلى ذرّيّة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) من بني هاشم؟ أولم يسأل هذان النبيّان أن يبعث نبي من ذريّتهما؟
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} فإذا كان محمّد (صلى الله عليه وآله) من بني هاشم ، فهل هناك غير بني هاشم مرادون بالضمير «هم» في كلمة «منهم»؟ قطعاً ليس لك الاّ أن تجيبنا بالإيجاب . وعليه فالنبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) هاشمي ، مبعوث من بني هاشم ، وهذه هي دعوة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) .
سؤال آخر :
إذا سلّمنا بأنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله) قد بعث بدلالة الآية من بني هاشم ، فمن هم الأفراد
(الصفحة 78)
الذين سأل إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) أن يقوم هذا النبي الهاشمي بتعليمهم وتربيتهم؟ فقد صرّح القرآن قائلا:
{رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}(1) أو ليست الآية صريحة بأنّ هذا الرسول الهاشمي منتخب من بين الهاشميين ، أي أنّه يعلم ويزكّي فريقاً منهم؟ وهل من الصواب القول أنّ معنى الآية هو أن يقوم هذا النبي الهاشمي المبعوث من بني هاشم بتعليم وتزكية عامّة البدو من العرب؟ سنترك الجواب للقُرّاء الأعزاء بعيداً عن التعصّب واللفّ والدوران .
وعليه : فإنّنا سنخرج صاحب المنار من ذلك الطريق المسدود ، فنقول: إنّ إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) سألا الله أن يبعث رسولا من طائفة من ذريّتهما . ولمّا كانت الطائفة التي بعث منها رسول الله (صلى الله عليه وآله) هي بني هاشم ، فإنّ المبعوث من هذه الطائفة ـ بنصّ الآية ـ لابدّ أن يقوم بتعليم وتزكية هذه الطائفة ، وأمّا الطائفة التي كانت تدور في ذهنك والتي تستلزم الدعوة الخاصّة لمهمّة خاصّة ، ليست إلاّ طائفة من بني هاشم ، ولذلك نقول: إنّ آباء محمّد (صلى الله عليه وآله) قد سألا الله أمرين أساسيين: ظهور رسالة النبي العالمي للإسلام في طائفة من ذرّيتهما ، والإمامة العالمية للدين في نفس تلك الطائفة ، الإمامة التي يتلّقى الأئمّة علومها على يد رسول الله ودروسه الخاصّة لينهضوا بزعامة المسلمين إلى الأبد .
وعلى ضوء ما تقدّم لا يرد ذلك الوهم في أنّه كيف سأل إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) الله أمراً مشكلاً بل محالاً عادياً لكي يجاب عليه من خلال عزّة الله وحكمته .
وهنا يبرز هذا السؤال: هل نهض النبي (صلى الله عليه وآله) بوظيفة تزكية وتعليم هذه الطائفة المعيّنة؟ والجواب سيكون بالسلب ; لأنّ النبي (صلى الله عليه وآله) مارس وظيفته من أجل تعليم وتزكية الجميع بما فيهم البدو من العرب والعجم والأُوربيين وغيرهم . والقرآن لم
- (1) سورة البقرة ،: الآية 129 .
(الصفحة 79)
يصرّح بأنّه معلّم خاص ، بل صرّحت الآيات بعموميّة تعليمه للجميع ، من قبيل الآية:
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلاَل مُبِين}(1) .
فالآية الكريمة صريحة في عمومية تعليم وتربية رسول الله للاُمّة ، وكذلك الآية الكريمة من سورة الجمعة ، رغم أنّها خصّت تعليم الرسول بالاُميّين وعرب مكّة وأُمّ القرى ، إلاّ أنّها أزالت تلك الخصوصية ومنحت ذلك التعليم بعداً عمومياً ، فقالت:
{هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الاُْمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلاَل مُبِين* وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(2) .
كما صرّحت الآية:
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}(3) .
وبناءً على هذا فالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) معلّم عام للناس كافّة ، ولا نريد أن نقول بأنّ التعليم إنّما يقتصر على طائفة محدودة هي طائفة من بني هاشم ، بل نقول: إنّ دعوة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) هي قيام النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) من أجل تربية وإعداد هذه الصفوة من أهل بيت النبوّة ، وهذا ما لم يتحفّظ عليه جملة من مفسّري العامّة التي أوردت في تفاسيرها لهذه الآيات كلمة «أهل البيت» . وقد كان حديث أبي عمرو الزبيري عن الإمام الصادق (عليه السلام) الذي أوردناه سابقاً صريحاً في هذا المعنى .
ولا بأس بدراسة سائر الآيات بهذا الخصوص من أجل توضيح المراد بما
- (1) سورة آل عمران: الآية 164 .
- (2) سورة الجمعة: الآية 2 ـ 3 .
- (3) سورة البقرة: الآية 151 .