(الصفحة 83)
وعُلماءبكتاب اللهوآيات الرحمن ،ومن ذوي البصائر بفلسفة الدين وأسرار الخليقة .
ودليل هذا الظهور أنّهم في الوقت الذي يعيشون الإخلاص والتسليم ، وتنبض قلوبهم بالتوحيد وعشق الحق ، فقد كانوا يتضرّعون لأن يظهر مثل هؤلاء الأفراد في هذه الطائفة يتّصفون بالإخلاص في العبودية لله ، ويعيشون الانقطاع والتسليم لله والطهارة من كلّ رجس ودنس ، وعليه : فهذه الطائفة المخلصة كانت تمتلك الاستعداد الروحي ، وقد تعلّمت وتزكّت بفضل هذا الإستعداد في مدرسة الرسالة تحت إشراف النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وتعليمه الخاصّ .
ولعلّ كلمات أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في نهج البلاغة بشأن كيفيّة ترعرعه في حضن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والسموّ والكمال الذي بلغه في ظلّ العناية التي أولاها إيّاه النبي (صلى الله عليه وآله) ومنزلته الخاصّة لديه إشارة إلى هذا المعنى ، فقد قال (عليه السلام) : «وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني إلى صدره ، ويكنفني إلى فراشه ، ويمسّني جسده ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل . ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره . ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر اُمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً يأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحر فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوّة ، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته ، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلاّ أنّك لست بنبيّ ، ولكنّك وزير وإنّك لعلى خير»(1) .
- (1) نهج البلاغة لمحمد عبده: 436 ـ 437 .
(الصفحة 84)
فكلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) تجيب عن كلّ دعوات إبراهيم (عليه السلام) وتوضّح استجابة دعائه .
فقد سأل إبراهيم (عليه السلام) الله أن يتصدّى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لتعليم وتزكية طائفة من ذريّته ،فيقول أميرالمؤمنين (عليه السلام) :وضعني في حجرهوأناولديضمّني إلى صدره ، ويكنفني إلى فراشهويُمسّني جسده ، ويُشمّني عَرفه ، وكان . . . يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ،ويأمرني بالاقتداء به ، وقد جهد نفسه في تربيتي وتزكيتي حتّى أصبحت أرى مايرى وأسمع مايسمع ،ولم يعدهناك من فارق بيننا سوى في النبوّة وحقيقة الرسالة ، فلما رأى ذلك منّي قال (صلى الله عليه وآله) : إنّك لست بنبيّ ، ولكنّك وزير وإنّك لعلى خير .
فهؤلاء ـ أي بني هاشم ـ هم مفاد الآية
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ . . .} . أمّا سائر الآيات فليست لها من دلالة على قيام النبي بمثل هذه الوظيفة تجاه سائر الناس ، وذلك لأنّ سائر الآيات لا تفيد أنّ كافّة الناس يملكون استعداداً لتقبّل هذه التعليمات ، أو أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان مجبراً على أساس وظيفته الشخصيّة على إيصال كافّة الناس إلى تمام مراحل الكمال وتهذيب النفس وأسرار الدين ، بل كانت الوظيفة في أن يلقي النبي (صلى الله عليه وآله) دروسه العلمية التربوية ، ويحيط الآخرين علماً بالآيات القرآنية والأحكام والتعاليم الإسلامية والأسرار الدينية ، ولكن هل تبلغ الأُمّة تمام هذه المراحل وتحيط بكافّة أسرار القرآن وتسلّم لتعليمات محمّد (صلى الله عليه وآله) وآيات القرآن؟
لم تبحث مثل هذه الأُمور في الآيات القرآنية ، كلّ ما هنالك هو أنّ القرآن الكريم قد أكّد في أكثر من آية أنّ وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله) تجاه الناس ليست بإيصالهم إلى آفاق العلم والتهذيب والكمال ، بل وظيفته إضاءة الطريق والتعريف بمعالم الدين والطرق التربوية العلمية ، فمن أراد أن يبلغ هذه الحقائق وجب عليه أن يبذل جهده ويستفرغ وسعه في اتّباع المبادئ الإسلامية ، ومن لم يرد فعلى نفسه
{لاَ إِكْرَاهَ فِى
(الصفحة 85)
الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1) .
بل القرآن يؤكّد أنّ وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله) هي بيان الحقائق ، والأُمّة مكلّفة بالتفكير في هذه الحقائق واتّباعها:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(2) .
وأخيراً فإنّ القرآن لم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بحمل الناس بالقوّة على التعليم والتهذيب ، بل وظيفته الإبلاغ والإنذار ، ووظيفة الأُمّة التدبّر في التعاليم ، فقد صرّحت الآية قائلة:
{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ} (3)، بل سلب القرآن عن النبي (صلى الله عليه وآله) القيام بهذا الأمر:
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر}(4) .
وعليه : فالآيات لا تصرّح بأكثر من وظيفة عامّة للنبي (صلى الله عليه وآله) في إبلاغ القرآن والأحكام وسبل التعليم والتربية والتزكية ، والأُمّة مخيّرة بين الاتّباع وعدمه .
أمّا الآيات التي نحن بصددها وبقرينة أنّ طائفة بني هاشم بدعاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) أنّها تمثّل العبودية والتسليم المحض لله ، وبقرينة وظيفة النبي بتعليمهم وتزكيتهم مُباشرة دون واسطة ، إلى جانب تصريح أمير المؤمنين (عليه السلام) بقيام النبي بهذه الوظيفة المهمّة ، وبقرينة ماهو أهم من دعاء الأجداد وهو إرساء مقام الإمامة ، فإنّ هؤلاء عُرفاء بفنون القرآن، وخبراء بفلسفة الأحكام ، وبُصراء بأسرار الكتاب ، وعلماء بحكمة الخليقة والكون ، وعليه فإنّنا نستطيع أن نقول بأنّ
- (1) سورة البقرة: الآية 256 .
- (2) سورة النحل: الآية 44 .
- (3) سورة ص: الآية 29.
- (4) سورة الغاشية الآيتان 21 ـ 22 .
(الصفحة 86)
الآية الكريمة تفيد أنّ هؤلاء زُعماء وقادة وفقهاء في الدين ، وعُلماء بتعاليم الإسلام ، وخُبراء ببرامج وخطط القرآن ، وعُرفاء بالسياسة والنظم الاجتماعيّة وبكافّة خفايا ومغيبات العالم . فالآية الشريفة بصدد بيان مقام وشخصية الإمام وشرائط إمامة المسلمين من وجهة نظر القرآن الكريم .
وعليه : فالفارق في النتيجة هو أنّ النبيّ ـ المعلّم الأوّل ـ هو مربّي طائفة من بني هاشم ، ونتيجة هذا الأمر مفيدة للغاية وقيّمة ، ونفس هذا النبي معلّم لعامّة الناس ، إلاّ أنّ نتيجة هذا الأمر تعتمد على نفس المسلمين ، ومعلوم أنّ توقّع النبي من الطائفة الأُولى لا يمكن أن يكون كتوقعّه من عامّة الناس أبداً .
وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إذ قال: «لا يُقاس بآل محمّد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأُمّة أحد ، ولا يُسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة»(1) .
وقال (عليه السلام) : «آل النبي عليه الصلاة والسّلام موضع سرّه ولجأ أمره وعيبة علمه ومؤئل حكمه وكهوف كتبه وحبال دينه ، بهم أقام انحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائصه» (2).
فقول أمير المؤمنين (عليه السلام) يفيد أن ليس هنالك سوى أهل البيت الذين لهم الإحاطة بالدين ، وهم عيبة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وملاذ المسلمين في النوائب والمصائب ، وهذا دليل على صحّة ما أوردناه سابقاً بشأن الآيات التي صرّحت بهذا الأمر ، حيث أثبتنا حينها أنّ الأئمّة (عليهم السلام) وبفضل التعليم المُباشر لرسول الله (صلى الله عليه وآله) لهم معرفة واطّلاع كامل على جميع أسرار القرآن وكافّة شؤون الإسلام والحوادث الغيبية والخفايا الكونية ، كما يؤكّد على أنّ تعليمات النبي وإن كانت عامّة
- (1) (2) نهج البلاغة لمحمّد عبده : 82 ـ 83 .
(الصفحة 87)
وللمسلمين أن يغترفوا من هذه العلوم والمعارف القرآنية والأسرار الدينية ، غير أنّه لا يمكن مقارنتهم قط بآل محمّد (صلى الله عليه وآله) ، فهم معدن العلم والحكمة ، وإليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ، ولا يستند أحد إلى علمه بشأن الدين إلاّ أن يخرج عن الاعتدال أو يتخلّف عن قافلة المسلمين ، وبناءً على هذا فالإشكال السابق الذي يُطرح بشان مزية الأئمّة (عليهم السلام) ليس بوارد ، حيث دلّتنا الآيات الكريمة على فضلهم وسبب ترجيحهم .
فهرس الكتاب إلى هنا:
ما مرّ معنا لحد الآن بعض الأُسس المتينة في الإمامة ، نشير إلى فهرسها بصورة مختصرة:
1 ـ الدين الإسلامي دين خالد وعلى هذا الدين أن يعتمد السبل التي من شأنها الإبقاء على أبديّته .
2 ـ يقتضي حكم العقل أن يوفّر كلّ ذي هدف إذا أراد لهدفه الإتقان كافّة العلل والأسباب التي تؤثّر في تحقيق الهدف وثباته ، ولمّا أراد الحقّ الخلود للدين الإسلامي فبحكم العقل قد أعدّ موجباته ، وبخلافه سينتقض الغرض ، وتتصدّع عرى الدين واُسس الإسلام .
3 ـ لقد تكفّل الحقّ بنصب الأئمّة على ضوء الآيات القرآنية والأخبار التي صرّحت بهذا الأمر ، بغية الحيلولة دون فناء الدين وبقاء كلمة التوحيد ، وإعداد العناصر والأفراد الذين بلغوا قمّة الكمال الإنساني والذين يعدّون الخلق إلى العالم الأُخروي الأبدي .
4 ـ الأئمّة على ضوء تصريح ونصّ رسول الله هم اثنا عشر ، وقد أشرنا سابقاً إلى هذا الأمر ، وسيأتي تفصيله في المجلد الثاني من الكتاب .