(الصفحة 218)
وينبغي أن يقرأ في اُذنه :
{إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد} [القصص: 28 / 85] إن شاء الله ثمّ يؤذّن خلفه وليقم كما هو المشهور عملاً ، وينبغي رعاية حقّه في أهله وعياله وحسن الخلافة فيهم ، لاسيّما مسافر الحجّ ، فعن الباقر (عليه السلام) : «من خلف حاجّاً بخير كان له كأجره كأنّه يستلم الأحجار» . وأن يوقّر القادم من الحجّ ، فعن الباقر (عليه السلام) : «وقّروا الحاجّ والمعتمر ، فإنّ ذلك واجب عليكم» . وكان عليّ بن الحسين (عليهما السلام) يقول : «يا معشر من لم يحجّ استبشروا بالحاجّ وصافحوهم وعظّموهم ، فإنّ ذلك يجب عليكم، تشاركوهم في الأجر» . وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول للقادم من مكّة : «قبل الله منك ، وأخلف عليك نفقتك ، وغفر ذنبك» .
ولنتبرّك بختم المقام بخير خبر تكفّل مكارم أخلاق السفر بل والحضر ، فعن الصادق (عليه السلام)قال : «قال لقمان لابنه : يا بنيّ إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك واُمورهم، وأكثر التبسّم في وجوههم ، وكن كريماً على زادك ، وإذا دعوك فأجبهم ، وإذا استعانوا بك فأعنهم ، واستعمل طول الصمت وكثرة الصلاة ، وسخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد ، وإذا استشهدوك على الحقّ فاشهد لهم، واجهد رأيك لهم إذا استشاروك، ثمّ لا تعزم حتّى تتثبّت وتنظر ، ولا تجب في مشورة حتّى تقوم فيها وتقعد وتنام وتأكل وتصلّي وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورتك ، فإنّ من لم يمحّض النصح لمن استشاره سلبه الله رأيه ، ونزع منه الأمانة .
وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم ، وإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم ، وإذا تصدّقوا وأعطوا قرضاً فأعط معهم ، واسمع لمن هو أكبر منك سنّاً ، وإذا أمروك بأمر وسألوك شيئاً فقل : نعم ، ولا تقل : لا ، فإنّ لا عيّ ولؤم ، وإذا تحيّرتم في الطريق فانزلوا ، وإذا شككتم في القصد فقفوا وتؤامروا ، وإذا رأيتم شخصاً واحداً
(الصفحة 219)
فلا تسألوه عن طريقكم ولا تسترشدوه ، فإنّ الشخص الواحد في الفلاة مريب ، لعلّه يكون عين اللصوص ، أو يكون هو الشيطان الذي حيّركم ; واحذروا الشخصين أيضاً، إلاّ أن تروا ما لا أرى ، فإنّ العاقل إذا أبصر بعينه شيئاً عرف الحقّ منه ، والشاهد يرى ما لايرى الغائب .
يا بنيّ إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخّرها لشيء ، صلّها واسترح منها فإنّها دين ، وصلّ في جماعة ولو على رأس زجّ ، ولا تنامنّ على دابّتك، فإنّ ذلك سريع في دبرها ، وليس ذلك من فعل الحكماء، إلاّ أن تكون في محمل يمكنك التمدّد لاسترخاء المفاصل ، وإذا قربت من المنزل فانزل عن دابّتك وابدأ بعلفها قبل نفسك ، فإنّها نفسك ، وإذا أردتم النزول فعليكم من بقاع الأرض بأحسنها لوناً ، وألينها تربة ، وأكثرها عشباً ، وإذا نزلت فصلّ ركعتين قبل أن تجلس ، وإذا أردت قضاء حاجتك فأبعد المذهب في الأرض ، وإذا ارتحلت فصلّ ركعتين ، ثمّ ودّع الأرض التي حللت بها ، وسلّم عليها وعلى أهلها ، فإنّ لكلّ بقعة أهلاً من الملائكة ، فإن استطعت أن لا تأكل طعاماً حتّى تبدأ فتصدّق منه فافعل ، وعليك بقراءة كتاب الله ـ عزّوجلّ ـ ما دمت راكباً ، وعليك بالتسبيح ما دمت عاملاً عملاً ، وعليك بالدعاء ما دمت خالياً ، وإيّاك والسير في أوّل الليل ، وسر في آخره ، وإيّاك ورفع الصوت في مسيرك ، يا بنيّ سافر بسيفك وخفّك وعمامتك وحبالك وسقائك وخيوطك ومخرزك ، وتزوّد معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك ، وكن لأصحابك موافقاً إلاّ في معصية الله عزّوجلّ» .
هذا ما يتعلّق بكلّي السفر ، ويختصّ سفر الحجّ باُمور اُخر :
منها : اختيار المشي فيه على الركوب على الأرجح ، بل الحَفاء على الانتعال، إلاّ أن يضعّفه عن العبادة أو كان لمجرّد تقليل النفقة ، وعليهما يحمل ما يستظهر منها أفضليّة الركوب ، وروي : «ما تقرّب العبد إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ بشيء أحبّ إليه
(الصفحة 220)
من المشي إلى بيته الحرام على القدمين ، وأنّ الحجّة الواحدة تعدل سبعين حجّة» . و«ما عُبد الله بشيء مثل الصمت والمشي إلى بيته» .
ومنها : أن تكون نفقة الحجّ والعمرة حلالاً طيّباً ، فعنهم (عليهم السلام) : «إنّا أهل بيت حجّ صرورتنا ومهور نسائنا وأكفاننا من طهور أموالنا» . وعنهم (عليهم السلام) : «من حجّ بمال حرام نودي عند التلبية : لا لبّيك عبدي ولا سعديك» . وعن الباقر (عليه السلام) : «من أصاب مالاً من أربع لم يقبل منه في أربع : من أصاب مالاً من غلول أو ربا أو خيانة أو سرقة لم يقبل منه في زكاة ولا صدقة ولا حجّ ولا عمرة» .
ومنها : استحباب نيّة العود إلى الحجّ عند الخروج من مكّة ، وكراهة نيّة عدم العود ، فعن النبيّ (صلى الله عليه وآله) : «من رجع من مكّة وهو ينوي الحجّ من قابل زيد في عمره ، ومن خرج من مكّة ولايريد العود إليها فقد اقترب أجله ودنا عذابه» . وعن الصادق (عليه السلام) مثله مستفيضاً ، وقال (عليه السلام) لعيسى بن أبي منصور : «يا عيسى إنّي اُحبّ أن يراك الله فيما بين الحجّ إلى الحجّ، وأنت تتهيّأ للحجّ» .
ومنها : أن لايخرج من الحرمين الشريفين بعد ارتفاع النهار إلاّ بعد أداء الفرضين بهما .
ومنها : البدأة بزيارة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لمن حجّ على طريق العراق .
ومنها : أن لايحجّ ولايعتمر على الإبل الجلاّلة ، ولكن لايبعد اختصاص الكراهة بأداء المناسك عليها ، ولايسري إلى ما يسار عليها من البلاد البعيدة في الطريق ، ومن أهمّ ما ينبغي رعايته في هذا السفر احتسابه من سفر آخرته بالمحافظة على تصحيح النيّة ، وإخلاص السريرة ، وأداء حقيقة القربة ، والتجنّب عن الرياء ، والتجرّد عن حبّ المدح والثناء ، وأن لايجعل سفره هذا على ما عليه كثير من مترفي عصرنا من جعله وسيلة للرفعة والافتخار ، بل وصلة إلى التجارة والانتشار ومشاهدة البلدان وتصفّح الأمصار ، وأن يراعي أسراره الخفيّة ودقائقه
(الصفحة 221)
الجليّة ، كما يفصح عن ذلك ما أشار إليه بعض الأعلام : إنّ الله تعالى سنّ الحجّ ووضعه على عباده إظهاراً لجلاله وكبريائه ، وعلوّ شأنه وعظم سلطانه ، وإعلاناً لرقّ الناس وعبوديّتهم وذلّهم واستكانتهم ، وقد عاملهم في ذلك معاملة السلاطين لرعاياهم ، والملاّك لمماليكهم ، يستذلّونهم بالوقوف على باب بعد باب، واللبث في حجاب بعد حجاب .
وأنّ الله تعالى قد شرّف البيت الحرام وأضافه إلى نفسه ، واصطفاه لقدسه ، وجعله قياماً للعباد ، ومقصداً يؤمّ من جميع البلاد ، وجعل ما حوله حرماً ، وجعل الحرم آمناً ، وجعل فيه ميداناً ومجالاً، وجعل له في الحلّ شبيهاً ومثالاً ، فوضعه على مثال حضرة الملوك والسلاطين ، ثمّ أذّن في الناس بالحجّ ليأتوه رجالاً وركباناً من كلّ فجّ ، وأمرهم بالإحرام وتغيير الهيئة واللباس شُعثاً غُبراً، متواضعين مستكينين ، رافعين أصواتهم بالتلبية وإجابة الدعوة ، حتّى إذا أتوه كذلك حجبهم عن الدخول ، وأوقفهم في حجبه يدعونه ويتضرّعون إليه ، حتّى إذا طال تضرّعهم واستكانتهم ورجموا شياطينهم بجمارهم ، وخلعوا طاعة الشيطان من رقابهم، أذن لهم بتقريب قربانهم وقضاء تفثهم ، ليطهروا من الذنوب التي كانت هي الحجاب بينهم وبينه ، وليزوروا البيت على طهارة منهم ، ثمّ يعيدهم فيه بما يظهر معه كمال الرقّ وكنه العبوديّة ، فجعلهم تارة يطوفون فيه ، ويتعلّقون بأستاره ، ويلوذون بأركانه ، واُخرى يسعون بين يديه مشياً وعدواً ; ليتبيّن لهم عزّ الربوبيّة ، وذلّ العبوديّة ، وليعرفوا أنفسهم ، ويضع الكبر من رؤوسهم ، ويجعل نير الخضوع في أعناقهم ، ويستشعروا شعار المذلّة ، وينزعوا ملابس الفخر والعزّة وهذا من أعظم فوائد الحجّ .
مضافاً إلى ما فيه من التذكّر بالإحرام والوقوف في المشاعر العظام لأحوال المحشر ، وأهوال يوم القيامة ، إذ الحجّ هو الحشر الأصغر ، وإحرام الناس وتلبيتهم
(الصفحة 222)
وحشرهم إلى المواقف ووقوفهم بها، والهين متضرّعين راجعين إلى الفَلاح أو الخَيبة والشقاء ، أشبه شيء بخروج الناس من أجداثهم ، وتوشّحهم بأكفانهم ، واستغاثتهم من ذنوبهم ، وحشرهم إلى صعيد واحد إلى نعيم أو عذاب أليم ، بل حركات الحاجّ في طوافهم وسعيهم ورجوعهم وعودهم يشبه أطوار الخائف الوَجِل، المضطرب المدهوش الطالب مَلجأً ومَفزعاً ، نحو أهل المحشر في أحوالهم وأطوارهم ، فبحلول هذه المشاعر والجبال والشِعب والطَلال ولدى وقوفه بمواقفه العظام يهون ما بأمامه من أهوال يوم القيامة من عظائم يوم الحشر ، وشدائد النشر ، عصمنا الله وجميع المؤمنين ، ورزقنا فوزه يوم الدين ، آمين ربّ العالمين(1) . وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين .
- (1) من أوّل كتاب الحجّ إلى هنا لنجله الأمجد الأوحد حضرة السيّد محمد، بأمر والده (قدس سرهما).