(الصفحة 761)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الوصيّة
[فصل
في معنى الوصيّة وأحكامها وشرائطها]
وهي إمّا مصدر(1) وصى يصي بمعنى الوصل ، حيث إنّ الموصي يصل تصرّفه بعد الموت بتصرّفه حال الحياة ، وإمّا اسم مصدر بمعنى العهد من وصّى يوصّي توصية ، أو أوصى يوصي إيصاء ، وهي إمّا تمليكية أو عهدية(2) ، وبعبارة اُخرى
- (1) لم يذكر الوصية مصدراً للثلاثي، بل المصدر له هو الوصي (بفتح الواو وسكون الصاد) فيتعيّن أن يكون اسم مصدر من الرباعي، ويبقى حينئذ اختلاف الثلاثي والرباعي في المعنى، حيث إنّ الأوّل بمعنى الوصل والثاني بمعنى العهد. ودعوى أنّهما مادّتان متبائنتان ليس بينهما أيّ نوع من الاشتقاق كما في بعض الشروع، مندفعة بما ذكره الزمخشري في أساس البلاغة من قوله: واصَى البلدُ البلدَ: واصله، فإنّها ظاهرة في مجيء الرباعي أيضاً بمعنى الوصل، فلا محيص من أن يقال: إنّ العهد أيضاً نوع من الوصل; لتقوّمه بالطرفين وتحقّق اتّصال في البين.
- (2) إن كان المراد بالعهد هو العهد المتعلّق بخصوص العمل ـ سواء كان راجعاً إلى الغير أو إلى نفسه ـ فجعل الوصية الراجعة إلى التسليط على الحقّ، أو فك الملك من أقسام الوصية العهدية، كما هو ظاهر العبارة غير ظاهر، وإن كان المراد به هو العهد بالمعنى الأعمّ ممّا يتعلّق بالعمل; وهو الذي يعبّر عنه في الفارسية به (سفارش) فجعل التمليكية قسيماً للعهدية غير واضح، إذ حينئذ تصير التمليكية من أقسام العهدية أيضاً، ويؤيّده ما أفاده من كونها بمعنى العهد إذا أخذت من الرباعي.
(الصفحة 762)
إمّا تمليك عين أو منفعة، أو تسليط على حقّ، أو فكّ ملك، أو عهد متعلّق بالغير، أو عهد متعلّق بنفسه كالوصيّة بما يتعلّق بتجهيزه ، وتنقسم انقسام الأحكام الخمسة .
[3899] مسألة 1 : الوصيّة العهدية لا تحتاج إلى القبول ، وكذا الوصيّة بالفكّ كالعتق ، وأمّا التمليكية فالمشهور على أنّه يعتبر فيها القبول(1) جزءاً، وعليه تكون من العقود ، أو شرطاً على وجه الكشف أو النقل فيكون من الإيقاعات ، ويحتمل قويّاً عدم اعتبار القبول فيها ، بل يكون الردّ مانعاً ، وعليه تكون من الإيقاع الصريح. ودعوى أنّه يستلزم الملك القهريّ وهو باطل في غير مثل الإرث ، مدفوعة بأنّه لا مانع منه عقلاً، ومقتضى عمومات الوصيّة ذلك، مع أنّ الملك
- (1) الظاهر أنّ تحقّق الوصية وترتّب الأحكام عليها من حرمة التبديل وغيرها لا يتوقّف على شيء، لكن حصول الملكية للموصى له يتوقّف على عدم الردّ، بحيث يكون الردّ مانعاً لظهور الإجماع، ولولاه لم يتوقّف عليه أيضاً.
- وما أفاده سيّدنا العلاّمة الاُستاذ (قدس سره)دليلاً على اعتبار القبول; من أنّ أدلّة الوصية غايتها الدلالة على نفوذ عهد الإنسان عند موته فيما كان قبله تحت سلطانه وأنّ سلطنته عليه باقية إذا عهد فيه بأمر، وأمّا كون سلطانه عند موته على ما لم يكن سلطاناً عليه قبل ذلك، كما هو قضيّة الملك القهري فلا تدلّ عليه، يمكن المناقشة فيه بمنع كون أدلّة الوصية غايتها الدلالة على مجرّد ذلك.
- كيف والمحذور لا يندفع بمجرّد اعتبار القبول بعد مغائرتها مع سائر العقود في حصول الموت بين الإيجاب والقبول، وتحقّق الفصل الطويل وغيرهما وكون الملك القهري خلاف الارتكاز العرفي غير ثابت، فالظاهر أنّه مع عدم قيام الإجماع لم يكن يتوقّف حصول الملكية على شيء ولم يمنع عنها شيء، كما عرفت.
(الصفحة 763)
القهري موجود في مثل الوقف .
[3900] مسألة 2 : بناءً على اعتبار القبول في الوصيّة يصحّ إيقاعه بعد وفاة الموصي بلا إشكال ، وقبل وفاته على الأقوى ، ولا وجه لما عن جماعة من عدم صحّته حال الحياة ; لأنّها تمليك بعد الموت ، فالقبول قبله كالقبول قبل الوصيّة فلا محلّ له ، ولأنّه كاشف أو ناقل، وهما معاً منتفيان حال الحياة ، إذ نمنع عدم المحلّ له ، إذ الإنشاء المعلّق على الموت قد حصل، فيمكن القبول المطابق له(1) ، والكشف والنقل إنّما يكونان بعد تحقّق(2) المعلّق عليه، فهما في القبول بعد الموت لا مطلقاً .
[3901] مسألة 3 : تتضيّق الواجبات الموسّعة بظهور أمارات الموت، مثل قضاء الصلوات والصيام والنذور المطلقة والكفّارات ونحوها ، فيجب المبادرة إلى إتيانها مع الإمكان ، ومع عدمه يجب الوصيّة بها ، سواء فاتت لعذر أو لا لعذر ; لوجوب تفريغ الذمّة بما أمكن في حال الحياة، وإن لم يجز فيها النيابة فبعد الموت تجري فيها ويجب(3) التفريغ بها بالإيصاء ، وكذا يجب ردّ أعيان(4) أموال الناس التي كانت عنده، كالوديعة والعارية ومال المضاربة ونحوها ، ومع عدم الإمكان يجب الوصيّة بها ، وكذا يجب أداء ديون الناس(5) الحالّة ، ومع عدم الإمكان أو مع كونها مؤجّلة
- (1) والقياس على بيع ما سيملكه وقبوله مع الفارق.
- (2) غاية الأمر عدم ترتّب ثمرة على الكشف والنقل في خصوص هذه الصورة، وهو لا يقدح في أصل المطلب.
- (3) إطلاقه بحيث يشمل صورة العلم بعدم العمل بالوصية مشكل.
- (4) أو الوصية بها أو الإشهاد، كلّ ذلك مع عدم علم الورثة بها أو عدم الاطمئنان بردّهم، وإلاّ فالظاهر أنّه لا يجب شيء من ذلك.
- (5) من دون فرق بين صورة المطالبة وعدمها، كما أنّه لا يختصّ هذا الوجوب بما إذا ظهرت أمارات الموت.
(الصفحة 764)
يجب الوصيّة بها(1) إلاّ إذا كانت معلومة أو موثّقة بالأسناد المعتبرة ، وكذا إذا كان عليه زكاة أو خمس أو نحو ذلك ، فإنّه يجب عليه أداؤها أو الوصيّة بها ، ولا فرق فيما ذكر بين ما لو كانت له تركة أو لا إذا احتمل وجود متبرّع أو أداؤها من بيت المال .
[3902] مسألة 4 : ردّ الموصى له للوصيّة مبطل لها إذا كان قبل حصول الملكيّة ، وإذا كان بعد حصولها لايكون مبطلاً لها ، فعلى هذا إذا كان الردّ منه بعد الموت وقبل القبول ، أو بعد(2) القبول الواقع حال حياة الموصي مع كون الردّ أيضاً كذلك يكون مبطلاً لها ; لعدم حصول الملكيّة بعد ، وإذا كان بعد الموت وبعد القبول لايكون مبطلاً ، سواء كان القبول بعد الموت أيضاً أو قبله ، وسواء كان قبل القبض أو بعده بناءً على الأقوى من عدم اشتراط القبض في صحّتها ; لعدم الدليل على اعتباره ، وذلك لحصول الملكيّة حينئذ له ، فلا تزول بالردّ ، ولا دليل على كون الوصيّة جائزة بعد تماميّتها بالنسبة إلى الموصى له ، كما أنّها جائزة بالنسبة إلى الموصي ; حيث إنّه يجوز له الرجوع في وصيّته، كما سيأتي .
وظاهر كلمات العلماء ـ حيث حكموا ببطلانها بالرّد ـ عدم صحّة القبول بعده ; لأنّه عندهم مبطل للإيجاب الصادر من الموصي ، كما أنّ الأمر كذلك في سائر العقود ، حيث إنّ الردّ بعد الإيجاب يبطله وإن رجع وقبل بلا تأخير ، وكما في إجازة
- (1) الملاك في مثل المورد هو لزوم فعل كلّ ما له دخل في حصول الفراغ، بحيث يخاف من تركه ذهاب الحقّ وتضييعه، فلا يكفي مجرّد الوصية في تحقّق الموافقة ولا مجرّد العلم في عدم اللزوم.
- (2) قد عرفت أنّ تحقّق الوصية لا يتوقّف على مثل القبول، ولكن قام الإجماع على أنّ الردّ مانع عن حصول الملكية، والقدر المتيقّن من معقده حصوله بعد الموت وقبل القبول، وفي غيره من الصور تحصل الملكية ولا أثر للردّ أصلاً، ومنه انقدح أنّ الوجه في مانعيّة الردّ هو الإجماع لا أصالة عدم الملكية كما هو ظاهر العبارة، كما أنّ الوجه في عدم المنع في مورده إطلاق أدلّة نفوذ الوصية لا أصالة الملكية كذلك.
(الصفحة 765)
الفضولي ; حيث إنّها لاتصحّ بعد الردّ ، لكن لايخلو عن إشكال(1) إذا كان الموصي باقياً على إيجابه ، بل في سائر العقود أيضاً مشكل إن لم يكن إجماع ، خصوصاً في الفضولي ، حيث إنّ مقتضى بعض الأخبار صحّتها ولو بعد الردّ . ودعوى عدم صدق المعاهدة عرفاً إذا كان القبول بعد الردّ ، ممنوعة . ثمّ إنهم ذكروا : أنّه لو كان القبول بعد الردّ الواقع حال الحياة صحّ ، وهو أيضاً مشكل(2) على ما ذكروه من كونه مبطلاً للإيجاب ، إذ لا فرق حينئذ بين ما كان في حال الحياة أو بعد الموت ، إلاّ إذا قلنا : إنّ الردّ والقبول لا أثر لهما حال الحياة وأنّ محلّهما إنّما هو بعد الموت ، وهو محلّ منع .
[3903] مسألة 5 : لو أوصى له بشيئين بإيجاب واحد فقبل الموصى له أحدهما دون الآخر صحّ فيما قبل وبطل فيما ردّ ، وكذا لو أوصى له بشيء فقبل بعضه مشاعاً أو مفروزاً وردّ بعضه الآخر، وإن لم نقل بصحّة مثل ذلك في البيع ونحوه، بدعوى عدم التطابق حينئذ بين الإيجاب والقبول ; لأنّ مقتضى القاعدة الصحّة(3) في البيع أيضاً إن لم يكن إجماع ، ودعوى عدم التطابق ممنوعة . نعم ، لو علم من
- (1) ظاهر الإشكال يعطي أنّهم حكموا بإبطال الردّ في حال الحياة أيضاً، مع أنّك عرفت أنّ المتيقّن بل الظاهر من كلماتهم اختصاصه بما بعد الموت.
- (2) فيما إذا كان الموجب باقياً على إيجابه ولم يتحقّق منه انصراف ولم تفت الموالاة، وإلاّ فلا إشكال في البطلان، ومنه يظهر بطلان القبول بعد الردّ الواقع بعد الموت; لعدم بقاء الموجب أصلاً، كما أنّه ظهر من الحاشية السابقة عدم بطلان القبول بعد الردّ مع وقوعهما حال الحياة، لعدم كون الردّ حالها مبطلاً.
- (3) بل مقتضى القاعدة البطلان في مثل البيع، خصوصاً في الفرض الثاني وعدم البطلان في الوصية; لما عرفت من عدم اعتبار القبول في تحقّقها، بل الردّ مانع عن حصول الملكية لقيام الإجماع، وعليه يمكن أن يقال بعدم البطلان حتّى في الشيء أو البعض المردود; لأنّ القدر المتيقّن من مانعية الرد هو ردّ المجموع.