(الصفحة 221)
الجليّة ، كما يفصح عن ذلك ما أشار إليه بعض الأعلام : إنّ الله تعالى سنّ الحجّ ووضعه على عباده إظهاراً لجلاله وكبريائه ، وعلوّ شأنه وعظم سلطانه ، وإعلاناً لرقّ الناس وعبوديّتهم وذلّهم واستكانتهم ، وقد عاملهم في ذلك معاملة السلاطين لرعاياهم ، والملاّك لمماليكهم ، يستذلّونهم بالوقوف على باب بعد باب، واللبث في حجاب بعد حجاب .
وأنّ الله تعالى قد شرّف البيت الحرام وأضافه إلى نفسه ، واصطفاه لقدسه ، وجعله قياماً للعباد ، ومقصداً يؤمّ من جميع البلاد ، وجعل ما حوله حرماً ، وجعل الحرم آمناً ، وجعل فيه ميداناً ومجالاً، وجعل له في الحلّ شبيهاً ومثالاً ، فوضعه على مثال حضرة الملوك والسلاطين ، ثمّ أذّن في الناس بالحجّ ليأتوه رجالاً وركباناً من كلّ فجّ ، وأمرهم بالإحرام وتغيير الهيئة واللباس شُعثاً غُبراً، متواضعين مستكينين ، رافعين أصواتهم بالتلبية وإجابة الدعوة ، حتّى إذا أتوه كذلك حجبهم عن الدخول ، وأوقفهم في حجبه يدعونه ويتضرّعون إليه ، حتّى إذا طال تضرّعهم واستكانتهم ورجموا شياطينهم بجمارهم ، وخلعوا طاعة الشيطان من رقابهم، أذن لهم بتقريب قربانهم وقضاء تفثهم ، ليطهروا من الذنوب التي كانت هي الحجاب بينهم وبينه ، وليزوروا البيت على طهارة منهم ، ثمّ يعيدهم فيه بما يظهر معه كمال الرقّ وكنه العبوديّة ، فجعلهم تارة يطوفون فيه ، ويتعلّقون بأستاره ، ويلوذون بأركانه ، واُخرى يسعون بين يديه مشياً وعدواً ; ليتبيّن لهم عزّ الربوبيّة ، وذلّ العبوديّة ، وليعرفوا أنفسهم ، ويضع الكبر من رؤوسهم ، ويجعل نير الخضوع في أعناقهم ، ويستشعروا شعار المذلّة ، وينزعوا ملابس الفخر والعزّة وهذا من أعظم فوائد الحجّ .
مضافاً إلى ما فيه من التذكّر بالإحرام والوقوف في المشاعر العظام لأحوال المحشر ، وأهوال يوم القيامة ، إذ الحجّ هو الحشر الأصغر ، وإحرام الناس وتلبيتهم
(الصفحة 222)
وحشرهم إلى المواقف ووقوفهم بها، والهين متضرّعين راجعين إلى الفَلاح أو الخَيبة والشقاء ، أشبه شيء بخروج الناس من أجداثهم ، وتوشّحهم بأكفانهم ، واستغاثتهم من ذنوبهم ، وحشرهم إلى صعيد واحد إلى نعيم أو عذاب أليم ، بل حركات الحاجّ في طوافهم وسعيهم ورجوعهم وعودهم يشبه أطوار الخائف الوَجِل، المضطرب المدهوش الطالب مَلجأً ومَفزعاً ، نحو أهل المحشر في أحوالهم وأطوارهم ، فبحلول هذه المشاعر والجبال والشِعب والطَلال ولدى وقوفه بمواقفه العظام يهون ما بأمامه من أهوال يوم القيامة من عظائم يوم الحشر ، وشدائد النشر ، عصمنا الله وجميع المؤمنين ، ورزقنا فوزه يوم الدين ، آمين ربّ العالمين(1) . وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين .
- (1) من أوّل كتاب الحجّ إلى هنا لنجله الأمجد الأوحد حضرة السيّد محمد، بأمر والده (قدس سرهما).
(الصفحة 223)
بسم الله الرحمن الرحيمفصل
[في وجوب الحجّ]
من أركان الدين الحجّ ، وهو واجب على كلّ من استجمع الشرائط الآتية من الرجال والنساء والخناثى بالكتاب والسنّة والإجماع من جميع المسلمين ، بل بالضرورة ، ومنكره في سلك الكافرين ، وتاركه عمداً مستخفّاً به بمنزلتهم ، وتركه من غير استخفاف من الكبائر ، ولايجب في أصل الشرع إلاّ مرّة واحدة في تمام العمر ، وهو المسمّى بحجّة الإسلام ; أي الحجّ الذي بني عليه الإسلام ، مثل الصلاة والصوم والخمس والزكاة ، وما نقل عن الصدوق في العلل من وجوبه على أهل الجدة كلّ عام ـ على فرض ثبوته ـ شاذّ مخالف للإجماع والأخبار ، ولابدّ من حمله على بعض المحامل ، كالأخبار الواردة بهذا المضمون من إرادة الاستحباب المؤكّد ، أو الوجوب على البدل ; بمعنى أنّه يجب عليه في عامه ، وإذا تركه ففي العام الثاني وهكذا ، ويمكن حملها على الوجوب الكفائي ، فإنّه لايبعد وجوب الحجّ كفاية
(الصفحة 224)
على كلّ أحد في كلّ عام إذا كان متمكّناً بحيث لا تبقى مكّة خالية عن الحجّاج ، لجملة من الأخبار الدالّة على أنّه لايجوز تعطيل الكعبة عن الحجّ ، والأخبار الدالّة على أنّ على الإمام ـ كما في بعضها ـ وعلى الوالي ـ كما في آخر ـ أن يجبر الناس على الحجّ والمقام في مكّة وزيارة الرسول (صلى الله عليه وآله) ، والمقام عنده ، وأنّه إن لم يكن لهم مال أنفق عليهم من بيت المال .
[2980] مسألة 1 : لا خلاف في أنّ وجوب الحجّ بعد تحقّق الشرائط فوري ; بمعنى أنّه يجب المبادرة إليه في العام الأوّل من الاستطاعة ، فلا يجوز تأخيره عنه ، وإن تركه فيه ففي العام الثاني وهكذا ، ويدلّ عليه جملة من الأخبار ، فلو خالف وأخّر مع وجود الشرائط بلا عذر يكون عاصياً ، بل لا يبعد كونه كبيرة ، كما صرّح به جماعة ، ويمكن استفادته من جملة من الأخبار .
[2981] مسألة2 : لو توقّف إدراك الحجّ بعد حصول الاستطاعة على مقدّمات من السفر وتهيئة أسبابه وجبت المبادرة إلى إتيانها على وجه يدرك الحجّ في تلك السنة ، ولو تعدّدت الرفقة وتمكّن من المسير مع كلّ منهم اختار أوثقهم سلامةً وإدراكاً ، ولو وجدت واحدة ولم يعلم حصول اُخرى أو لم يعلم التمكّن من المسير والإدراك للحجّ بالتأخير ، فهل يجب الخروج مع الاُولى ، أو يجوز التأخير إلى الاُخرى بمجرّد احتمال الادراك ، أو لايجوز إلاّ مع الوثوق؟ أقوال ، أقواها الأخير ، وعلى أيّ تقدير إذا لم يخرج مع الاُولى واتّفق عدم التمكّن من المسير ، أو عدم إدراك الحجّ بسبب التأخير ، استقرّ عليه الحجّ وإن لم يكن آثماً بالتأخير ; لأنّه كان متمكّناً من الخروج مع الاُولى ، إلاّ إذا تبيّن عدم إدراكه لو سار معهم أيضاً .
(الصفحة 225)
فصل
في شرائط وجوب حجّة الإسلام
وهي اُمور :
أحدها : الكمال بالبلوغ والعقل ، فلايجب على الصبي وإن كان مراهقاً ، ولا على المجنون وإن كان أدواريّاً ; إذا لم يف دور إفاقته بإتيان تمام الأعمال ، ولو حجّ الصبي لم يجز عن حجّة الإسلام ، وإن قلنا بصحّة عباداته وشرعيّتها كما هو الأقوى، وكان واجداً لجميع الشرائط سوى البلوغ ، ففي خبر مسمع عن الصادق (عليه السلام) : «لو أنّ غلاماً حجّ عشر حجج ثمّ احتلم كان عليه فريضة الإسلام». وفي خبر إسحاق ابن عمّار، عن أبي الحسن (عليه السلام) عن ابن عشر سنين يحجّ ؟ قال (عليه السلام) : «عليه حجّة الإسلام إذا احتلم ، وكذا الجارية عليها الحجّ إذا طمثت» .
[2982] مسألة 1 : يستحب للصبيّ المميّز أن يحجّ وإن لم يكن مجزياً عن حجّة الإسلام ، ولكن هل يتوقّف ذلك على إذن الوليّ أو لا ؟ المشهور ـ بل قيل : لا خلاف فيه ـ : أنّه مشروط بإذنه ; لاستتباعه المال في بعض الأحوال للهدي وللكفّارة ، ولأنّه عبادة متلقّاة من الشرع مخالف للأصل ، فيجب الاقتصار فيه على المتيقّن ، وفيه : أنّه ليس تصرّفاً ماليّاً ، وإن كان ربما يستتبع المال ، وأنّ العمومات كافية في صحّته وشرعيّته مطلقاً ، فالأقوى عدم الاشتراط في صحّته وإن وجب الاستئذان في بعض الصور ، وأمّا البالغ فلايعتبر في حجّه المندوب إذن الأبوين إن لم يكن مستلزماً للسفر المشتمل على الخطر الموجب لأذيّتهما ، وأمّا في حجّه الواجب فلا إشكال .
[2983] مسألة 2 : يستحبّ للولي أن يحرم بالصبي الغير المميّز بلا خلاف ;