(الصفحة 228)
بالحرمة . وأمّا إذا كان مختاره الرجوع إلى الثاني وتقليده إيّاه في المسائل ، فلا يعدّ هذا عملا بفتواه بالجواز ؟ ضرورة أنّ الرجوع إليه يجتمع مع الحكم بالحرمة أيضاً ، فكيف يكون عملا بالجواز ؟! فتدبّر جيّداً .
ثانيهما : استحالة أخذ الحكم في موضوع نفسه ; نظراً إلى أنّ جواز البقاء ـ الذي هو حكم ـ كيف يعقل أن يؤخذ في موضوع نفسه ، ويقال بأ نّه يجوز البقاء في جواز البقاء ؟
ودعوى أنّ المستحيل إنّما هو أن يؤخذ حكم في موضوع شخصه ، نظراً إلى أنّ مرجعه إلى كون الحكم مفروض التحقّق حين جعله وإنشائه . وأمّا في مثل المقام فلا مانع منه ، نظراً إلى أ نّه لا مانع من أن تكون حجّية فتوى الميّت بجواز البقاء مترتّبة على حجّية فتوى الحيّ به ; لأنّهما فتويان .
مدفوعة جدّاً بأ نّه ليس البحث في حجّية فتوى الحيّ ، بل في إمكان شمول فتواه ـ التي لا إشكال في حجّيتها ـ لفتوى الميّت بجواز البقاء ، ومن المعلوم أنّ جواز البقاء ليس إلاّ حكماً واحداً . غاية الأمر اتّحادهما في هذا الحكم واتّفاقهما في هذه الفتوى ، فكيف يعقل حينئذ أن يصير الحكم موضوعاً في نفسه ، بحيث يصير جواز البقاء ظرفاً ومتعلّقاً لنفس جواز البقاء ؟ كما هو ظاهر .
ولعلّه لما ذكرنا اختار سيّدنا العلاّمة الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ في المتن : أنّ العامّي مخيّر بين أن يبقى على تقليد الثاني ، وبين أن يرجع إلى الثالث الحيّ فيما إذا كان قائلا بجواز البقاء ، وقد عرفت أنّ الظاهر كون المفروض في العبارة ما إذا كان الثاني أيضاً قائلا بالجواز ، ولازم ما أفاده عدم جواز البقاء على تقليد الأوّل في هذه الصورة بوجه .
وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذا كان الثالث قائلا بالوجوب ، وقد اختار ـ دام ظلّه ـ في هذه الصورة تعيّن البقاء على تقليد الأوّل ، والوجه فيه : أنّ رجوعه إلى
(الصفحة 229)
الثاني بعد موت الأوّل كان باطلا بمقتضى فتوى الثالث بوجوب البقاء ; لأنّ وظيفة المكلّف كانت من أوّل الأمر البقاء على تقليد الأوّل ، ولم يكن له الرجوع إلى الثاني بعد موت الأوّل . غاية الأمر أ نّه كان معذوراً في ذلك ما دام كان الثاني موجوداً ، والآن ارتفع العذر ويجب عليه البقاء على التقليد الذي كان صحيحاً ; وهو تقليد الأوّل فقط .
نعم ، فيما إذا فرض مجتهدان فقط ، مات أحدهما والآخر حيّ ، وقد قلّد العامّي الأوّل وهو معتقد بجواز البقاء ، والآن يكون الحيّ قائلا بوجوب البقاء ، وقع البحث في أ نّه هل تشمل فتوى الحيّ بالوجوب فتوى الميّت بالجواز ، ومرجعه حينئذ إلى التخيير بين البقاء ، وبين العدول إلى الحيّ ، فيجوز له العدول إلى الحيّ وأخذ فتاويه في سائر المسائل الفرعيّة ، أو أنّها لا تشمل إيّاها ، فيجب عليه البقاء على تقليد الميّت في غير هذه المسألة من سائر المسائل؟
ربما يقال بالعدم ; نظراً إلى أنّ مرجع فتوى الحيّ بوجوب البقاء إلى كون فتاوي الميّت حجّة على مثل هذا المقلّد على نحو التعيين ، ولا يجوز له العدول إلى الغير وأخذ الفتوى منه ، ومرجع فتوى الميّت بالجواز إلى كون فتاواه حجّة على سبيل التخيير ، فإذا قلنا بشمول فتوى الحيّ بالوجوب لفتوى الميّت بالجواز ، يلزم أن تكون سائر فتاوي الميّت متّصفة بالحجّية التعيينيّة والتخييريّة معاً ، وهذا من المستحيل ; لأ نّه يشبه الجمع بين المتناقضين .
والأظهر أ نّه لا مانع عن الشمول ; سواء كان نظرهما متّحداً من حيث ما هو الموضوع للحكم بالوجوب ، أو الجواز ، أو مختلفاً ; وذلك لعدم كون الاتّصاف بالحجّيّتين في رتبة واحدة وعرض واحد ; فإنّ اتّصافها بالحجّيّة التعيينيّة إنّما هو لأجل فتوى الحيّ بالوجوب ، وشمولها لها من دون واسطة ، وبالحجّية التخييريّة
(الصفحة 230)
إنّما هو بلحاظ توسيط فتوى الميّت بالجواز ، وهذا ممّا لا مانع منه أصلا ، كما أنّ فتوى الحيّ بوجوب السورة مثلا في الصلاة ، لا تنافي فتواه بوجوب البقاء على تقليد الميّت ، مع فرض كون فتوى الميّت هو عدم وجوب السورة ; فإنّ الحكم بالوجوب إنّما هو لاقتضاء اجتهاده له من دون توسيط ، والحكم بعدم الوجوب إنّما هو بلحاظ فتوى الميّت بالعدم ، وثبوت حجّيتها بعد الموت أيضاً كما هو ظاهر . هذا تمام الكلام في الفرض الأوّل .
وأمّا الفرض الثاني : وهو ما إذا كان المجتهد الثاني قائلا بحرمة البقاء ووجوب الرجوع عن الميّت إلى الحيّ ، والمجتهد الثالث قائلا بوجوب البقاء وعدم جواز العدول ، أو بجوازه ، ففيه أيضاً صورتان :
الصورة الأُولى : ما إذا كان الثالث قائلا بوجوب البقاء وعدم جواز العدول ، وفيه أقوال :
أحدها : ما حكي عن الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) في رسالة الاجتهاد والتقليد ممّا يرجع إلى أ نّه بعد عدم إمكان شمول فتوى الحيّ بالوجوب لفتوى الميّت بالحرمة ، نظراً إلى لزوم التناقض يجب عليه البقاء على رأي الثاني في المسائل العمليّة التي رجع فيها بفتوى الثاني عن الأوّل ; لأنّ تقليد الثاني ورجوعه عن الأوّل بالنسبة إلى تلك المسائل وقع صحيحاً ، فيجب البقاء عليه .
ثمّ احتمل(قدس سره) ترجيح الأوّل ; نظراً إلى أنّ تقليد الثاني في المسائل المعدول عنها إنّما هو بتقليده في وجوب الرجوع ، فإذا كان الإفتاء بالبقاء لا يشمله على ما هو المفروض ، فلا يشمل ما يترتّب عليه أيضاً(1) .
- (1) رسالة في الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري ، ضمن مجموعة رسائل : 66 .
(الصفحة 231)
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ عدم شمول فتوى الحيّ بوجوب البقاء لفتوى الميّت بوجوب الرجوع ليس لأجل التناقض ، بل لأنّ المسألة الواحدة لا تحتمل تقليدين ولا تصلح للرجوع فيها إلى شخصين ، ولو لم يكن اختلاف في البين وكانت الفتويان مترتّبتين ; فإنّه بعد ما رجع فيها إلى فتوى الحيّ بمقتضى حكم العقل ، وأخذها وقلّد الحيّ فيها ، لا يبقى في هذه المسألة مجال للتقليد وموقع للأخذ بفتوى الغير أصلا ; لعدم الفرق بينها وبين سائر المسائل في عدم الاحتمال للتقليدين وعدم القابليّة للرجوع إلى شخصين،فوجه عدم الشمول ماذكرنالاماأفاده من التناقض ـ : أنّ ما أفاد أوّلا من وجوب البقاء على رأي الثاني غير تامّ ; لأ نّه لو كان الملاك فيه هو اتّصاف التقليد الثاني بالصحّة ووقوعه كذلك ، فمن الواضح أنّ التقليد الأوّل أيضاًيكون صحيحاً ومتّصفاً بوصف الصحّة ، ولا مرجّح للتقليد الثاني بعد اتّصاف كليهما بتلك الصفة لو لم نقل باختصاص الوصف بالتقليد الأوّل ، كما هو ظاهر .
ضرورة أ نّه بملاحظة فتوى الثالث بوجوب البقاء ، يستكشف بطلان التقليد الثاني ; لأنّ وظيفته كانت هو البقاء على التقليد الأوّل ، ولم يجز له الرجوع إلى الثاني . غاية الأمر أ نّه كان معذوراً في ذلك لأجل استناده إلى الحجّة ; وهي فتوى الثاني بحرمة البقاء ، ولكنّ المعذوريّة إنّما تدوم ما دام الثاني حيّاً ، فإذا مات وكانت فتوى الحيّ وجوب البقاء ، يستكشف أنّ وظيفته كانت من أوّل الأمر البقاء على التقليد الأوّل ، فبملاحظة فتواه يعلم عدم وقوعه صحيحاً ، فكيف يجب البقاء عليه .
ثانيها : ما اختاره المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في رسالة الاجتهاد والتقليد ، وحاصله يرجع إلى وجوب البقاء على تقليد المجتهد الثاني في المسائل العمليّة ، نظراً إلى أ نّه لايلزم التناقض من شمول فتوى الحيّ بوجوب البقاء لفتوى الميّت بوجوب
(الصفحة 232)
الرجوع ; لأنّ رأي الثاني وإن تعلّق بحكم كلّي ـ وهو وجوب الرجوع ـ من دون اختصاصه بمن سبقه في الإفتاء ، لكنّه ليس كلّ ما هو مقتضى الأدلّة ومتعلّق الرأي يصحّ التقليد فيه .
ألا ترى : أنّ مقتضى الأدلّة وجوب التقليد ، مع أ نّه لا يمكن التقليد في أصل لزوم التقليد ; للزوم الدور والتسلسل ، وكذلك المقام ; فإنّه لا يعقل تقليد المفتي بوجوب الرجوع حتّى في الرجوع عن نفسه بعد موته ; فإنّ حجّية رأيه وفتواه بعد موته في هذه المسألة وغيرها على حدّ سواء . فلا يعقل الاستناد إلى رأيه ولو في هذه المسألة بنفس رأيه حدوثاً وبقاءً . وميزان التقليد في المسألة الكلّيّة صحّة العمل على طبقها في جميع أفرادها وإنْ لم يعمل إلاّ في بعضها .
ومن الواضح عدم صحّة العمل على طبقها كلّياً حتّى في الرجوع عنه بعد موته ، أو البقاء على رأيه بعد موته ، فلا محالة لا تعقل حجّية رأيه بوجوب الرجوع إلاّ بالإضافة إلى من سبقه في الإفتاء . ولا بأس حينئذ بشمول الفتوى بوجوب البقاء لهذه المسألة ; فإنّ معنى وجوب الرجوع عن غيره عدم جواز تطبيق العمل على رأي الغير ، والبقاء على هذا الرأي معناه موافقة الثالث للثاني في عدم جواز تطبيق العمل على فتوى الأوّل ورأيه .
ومنه يظهر أ نّه لا يعقل تساوي نسبة وجوب البقاء إلى كلا التقليدين ، بل يترجّح جانب الثاني قهراً ، مضافاً إلى أنّ وجوب البقاء ، إن كان لأجل استصحاب الأحكام المقلّد فيها فالترجيح للثاني ; لانقطاع الاستصحاب في الأوّل بالرجوع إلى الثاني ، وإن كان لاستصحاب حرمة العدول ، فهو أيضاً منقطع بجواز الرجوع