(الصفحة 361)
قال : والكلام مع أبي حنيفة في فصلين :
عندنا وعند الشافعي تردّ شهادته بمجرّد القذف ، وعنده لا تردّ بمجرّد القذف حتى يجلد ، فإذا جلد ردّت شهادته بالجلد لابالقذف .
والثاني : عندنا تقبل شهادته إذا تاب ، وعنده لا تقبل ولو تاب ألف مرّة .
دليلنا : إجماع الفرقة وأخبارهم .
والدليل على أنّ ردّ الشهادة يتعلّق بمجرّد القذف ، ولا يعتبر الجلد ، قوله تعالى : {وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَـتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَـنِينَ جَلْدَةً وَ لاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَـدَةً أَبَدًا}(1) فذكر القذف وعلّق وجوب الجلد بردّ الشهادة ، فثبت أنّهما يتعلّقان به .
والذي يدلّ على أنّ شهادتهم لاتسقط أبداً،قولهـ تعالىـ في سياق الآية:{وَأُولَـلـِكَ هُمُ الْفَـسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن م بَعْدِ ذَ لِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2) .
ووجه الدلالة أنّ الخطاب إذا اشتمل على جمل معطوفة بعضها على بعض بالواو ، ثمّ تعقّبها استثناء ، رجع الاستثناء على جميعها إذا كانت كلّ واحدة منها ممّا لو انفردت رجع الاستثناء إليها ـ إلى أن قال :ـ فإن قالوا : الاستثناء يرجع إلى أقرب المذكورين ، فقد دلّلنا على فساد ذلك في كتاب اُصول الفقه(3) .
والثاني : أنّ في الآية ما يدلّ على أ نّه لا يرجع إلى أقرب المذكورين ; فإنّ أقربه الفسق ، والفسق يزول بمجرّد التوبة ، وقبول الشهادة لا يثبت بمجرد التوبة ، بل
تقبل بالتوبة وإصلاح العمل(4) .
- (1 ، 2) سورة النور : 24 / 4 ـ 5 .
-
(3) عدّة الاُصول : 1 / 320 ـ 321 .
-
(4) الخلاف : 6 / 260 ـ 262 مسألة 11 .
(الصفحة 362)
ولا يخفى أنّ اعتبار الإصلاح مضافاً إلى التوبة ينحصر بباب القذف ، ولا دليل عليه في غير ذلك الباب .
وكيف كان ، فلا تنبغي المناقشة في قبول الشهادة وما يجري مجراه بعد التوبة عن المعصية . نعم ، ربما يناقش في ذلك بأنّ العدالة هي الملكة النفسانيّة الكذائيّة
على ما دلّت عليه صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة(1) ، وبعد زوالها بإتيان الكبيرة لا دليل على عودها بمجرّد الاستغفار والتوبة حتى تقبل الشهادة ، ولذا خصّ بعض المعاصرين(2) ـ على ما حكي عنه ـ قبول الشهادة بالتوبة بما إذا عادت معها الملكة التي كانت حاصلة له قبل الإتيان بالمعصية الكبيرة .
ولكنّ الظاهر أنّ الإتيان بالكبيرة لا يؤثّر في زوال الملكة ، بل الملكة بعده أيضاً باقية وإن لم تتحقّق التوبة بعد . نعم ، العدالة لا تكون عبارة عن مجرّد الملكة ، بل الاجتناب الناشىء عنها ; لما عرفت من أنّ الدليل على اعتبار الملكة هي الصحيحة المتقدّمة الدالّة على اعتبار الاجتناب العملي عن الكبيرة . غاية الأمر قيام بعض القرائن على اعتبار كون الاجتناب ناشئاً عن الملكة ، فقدح الإتيان بالكبيرة إنّما هو لأجل عدم تحقّق الاجتناب ، لا لأجل زوال الملكة .
نعم ، حيث إنّ التوبة تكفّر الخطيئة ، والاستغفار يزيل المعصية ، فلا محالة تترتّب آثار العدالة بعد التوبة ، ويعود الشخص كما كان قبل صدور المعصية ،
وقد اشتهرت : التائب من الذنب كمن لا ذنب له(3) ، إلاّ أن تتحقّق منه المعصية
- (1) في ص313 ـ 314 .
-
(2) راجع كتاب الصلاة للشيخ عبد الكريم الحائري : 519 .
-
(3) الكافي : 2 / 435 ح10 ، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : 2 / 74 ح347 ، وعنهما وسائل الشيعة : 16 / 74 و75 ، كتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ب86 ح8 و14 .
(الصفحة 363)
مكرّرة ، فإنّه يوجب زوال الملكة ، فلا تعود العدالة وإن تاب عن كلّ واحدة منها بعد تحقّقها ، إلاّ أن تتحقّق مقدّمات ثبوتها كالابتداء ، كما لا يخفى .
تتميم: [اعتبار المروءة في العدالة]
المعروف بين المتأخّرين ـ على ما نسب إليهم ـ هو اعتبار المروءة في العدالة(1) ، وأ نّ ارتكاب خلافها ينافي العدالة ويمنع عن تحقّقها ، والظاهر أنّ الدليل المهمّ على ذلك قوله(عليه السلام) في صحيحة عبدالله بن أبي يعفور المتقدّمة(2) في مقام الجواب عن السؤال عن ماهيّة العدالة وحقيقتها : «أن تعرفوه بالستر والعفاف» . بناءً على ما نقلنا عن كتب اللغة في معنى العفاف ; من أ نّه هو الكفّ عمّا لا يحلّ ويَجمُلُ(3) ، فارتكاب ما لا يكون جميلا لائقاً بحال الشخص ، مناسباً لمقامه وشؤونه العرفيّة مخلّ بالعدالة ، مانع عن تحقّق عنوان العفاف المعتبر فيها على ما هو ظاهر الرواية ، وكما أنّ المعتبر في ناحية المعاصي هي ملكة الاجتناب ، كذلك المعتبر في طرف المروءة أيضاً ملكتها ـ التي يتعسّر معها ـ أن يصدر من الشخص ما لا ينبغي أن يصدر من مثله بحسب المتعارف .
فالدليل المهمّ على اعتبار المروءة ما ذكرنا ، لا قوله(عليه السلام) في الصحيحة في مقام جعل الأمارة الكاشفة : «والدلالة على ذلك كلّه أن يكون الشخص ساتراً لجميع عيوبه» ـ بتقريب أنّ «العيوب» عامّة شاملة لجميع أفرادها الشرعيّة والعرفيّة ـ حتى يدفع بأنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع ، وكون الإمام(عليه السلام) هو الملقي للكلام
- (1) رسالة في العدالة للشيخ الأنصاري : 17 .
-
(2) في ص313 .
-
(3) في ص318 .
(الصفحة 364)
أن يكون المراد منها خصوص العيوب المضافة إلى الشرع والمرتبطة بالشارع .
ولا الملازمة بين عدم الخجلة من الناس ، وعدم الاستحياء من غير الله ، وبين عدم الخجلة والاستحياء من الله ـ تبارك وتعالى ـ حتى يدفع بمنع الملازمة ، وعدم كون عدم الاستحياء من غير الله كاشفاً عن عدمه من الله تبارك وتعالى ، خصوصاً بالإضافة إلى من يكون متفانياً في الله وفي الأُمور المعنويّة ومتمحّضاً فيها ، بحيث لايعتني بالناس وبالشؤون التي يترقّبونها منه .
فالإنصاف بمقتضى ما ذكرنا اعتبار ملكة المروءة في العدالة ، واستبعاد مدخليّة المروءة فيها دون الاجتناب عن الصغيرة ـ نظراً إلى أ نّه كيف يكون ارتكاب أمر مباح قادحاً في العدالة . والإتيان بالمحرّم الشرعي غير قادح فيها ؟ ـ لا يقاوم ظهور الدليل ، خصوصاً بعد ملاحظة كون الإصرار على الصغيرة من جملة الكبائر القادحة ، وأ نّه يتحقّق بمجرّد الإتيان بالذنب والعزم على العود إليه ، بل بمجرّد الإتيان به وعدم الندم عليه وإن لم يعزم على العود ، كما اختاره بعض الأعاظم من المحقّقين(1) على خلاف ما اخترناه .
وليعلم أنّ محلّ الكلام في ارتكاب خلاف المروءة من جهة كونه قادحاً في العدالة ; هو ما إذا لم ينطبق عليه عنوان محرّم . وأمّا إذا انطبق عليه عنوان محرّم كالهتك ونحوه فلا إشكال في دخوله حينئذ في الذنوب التي يكون الإتيان بها مانعاً عن تحقّق العدالة إذا تحقّق الإصرار . هذا تمام الكلام في المقام الأوّل الذي كان البحث فيه مرتبطاً بمفهوم العدالة ومعناها .
- (1) كتاب الصلاة للشيخ عبد الكريم الحائري : 519 .
(الصفحة 365)كاشفيّة حسن الظاهر عن العدالة
المقام الثاني : في الكاشف عن العدالة ، والأمارة الشرعيّة التعبّديّة عليها ، والكلام فيه يقع في مرحلتين :
المرحلة الأُولى :في أصل وجود الكاشف والأمارة عليها بالخصوص
زائداً على الأمارة ، أو الأمارات الشرعيّة العامّة ، كالبيّنة وإخبار عادل واحد
أو ثقة كذلك على اختلاف في الأخيرين ، كما مرّ في مبحث اعتبار البيّنة
وحجيّتها(1) .
والظاهر كما هو المتسالم عليه بين الأصحاب وجود أماره خاصّة ، وأ نّ حسن الظاهر كاشف شرعيّ عن العدالة ، وهذا مع قيام الدليل عليه يساعده الاعتبار ;
إذ لولاه لم يمكن كشف العدالة نوعاً ، ولو مع كمال المعاشرة وطول المخالطة ; لعدم إمكان العلم نوعاً بعدم صدور المعصية منه كما هو واضح ، وقيام البيّنة لابدّ
وأن يكون مستنداً إلى العلم لا محالة ولو كانت هناك واسطة ، كبيّنة اُخرى إذا قلنا بجواز استناد البيّنة إلى مثلها .
وبالجملة : لا إشكال في عدم إمكان كشف العدالة نوعاً لو لم يكن أمارة شرعيّة خاصّة عليها ، فالاعتبار يساعد وجودها .
وأمّا الدليل ، فالعمدة كما عرفت هي صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة(2)المشتملة على أنّ الدليل الشرعي على تحقّق ملكة العدالة والقيود المعتبرة فيها ،
- (1) في ص253 ـ 260 .
-
(2) في ص313 ـ 314 .