(الصفحة 108)
الدليل والكاشف لا المجعول والمنكشف، لأنّ المجعول في كلّ من العامّ والخاصّ هو الحكم التعيـيني ـ محلّ نظر، بل منع. ضرورة أنّـه لو كان الحكم المجعول في الخاصّ حكماً تعيـينيّاً وعلم ذلك لم يكن مجال للتخيـير، لأنّـه مساوق للعلم بكون التخصيص أفراديّاً وأحواليّاً معاً، لوضوح أنّـه لو كان التخصيص أحواليّاً فقط وكان خروج كلّ من الفردين مشروطاً بدخول الآخر يكون الحكم المجعول حكماً تخيـيريّاً.
وبالجملـة: فالذي أوجب الحكم بالتخيـير هو تردّد المجعول في الخاصّ بين كونـه تعيـينيّاً أو تخيـيريّاً بضميمـة وجوب الاقتصار في التخصيص على القـدر المتيقّن، فالتخيـير إنّما هـو مقتضى تـردّد المجعول بضميمـة مـا ذكـر، كما لا يخفى، ولا يكون ناشئاً من الدليل.
ومنها:
أنّ ما ذكره من أنّ التخيـير في القسم الثاني إنّما هو من ناحيـة المدلول والمنكشف، محلّ منع، بل التخيـير فيـه إنّما هو كالتخيـير في القسم الأوّل; لأنّ التخيـير فيـه إنّما يكون منشؤه إطلاق مثل قولـه: «انقذ كلّ غريق» بضميمـة التخصيص بالنسبـة إلى صورة العجز عن الإنقاذ بالإضافـة إلى الغريقين، مع لزوم الاقتصار في مقام التخصيص على القدر المتيقّن، وهو خروج الأحوالي فقط الذي مرجعـه إلى رفع اليد عن الإطلاق، لا الأفرادي والأحوالي معاً الذي مرجعـه إلى رفع اليد عن العموم.
وبالجملـة: فلا فرق بين القسمين إلاّ في أنّ الحاكم بالتخصيص في القسم الأوّل هو الدليل اللفظي، وفي القسم الثاني هو الدليل العقلي، وهو لا يوجب الفرق بين التخيـيرين من حيث المقتضي، كما لايخفى.
ومنها:
أنّـه لو سلّم جميع ما ذكر فنمنع ما ذكره من عدم كون التخيـير في
(الصفحة 109)
باب الاُصول العمليـة من ناحيـة الدليل والكاشف، لأنّ لنا أن نقول بكون التخيـير فيها من جهـة الدليل والكاشف، لأنّ أدلّـة أصالـة الحلّ تشمل بعمومها لأطراف العلم الإجمالي أيضاً.
غايـة الأمر: أنّها خصّصت بالنسبـة إليها قطعاً، ولكن أمر المخصّص دائر بين أن يكون مقتضاه خروج الأطراف مطلقاً حتّى يلزم الخروج الأفرادي والأحوالي معاً، وبين أن يكون مقتضياً لخروج كلّ واحد منها مشروطاً بدخول الآخر، فهذا الإجمال بضميمـة لزوم الاقتصار على القدر المتيقّن في مقام التخصيص أوجب التخيـير، كما هو واضح.
ومنها:
وهو العمدة، أنّ ما ذكره من عدم كون التخيـير في باب الاُصول من مقتضيات المجعول والمنكشف ممنوع جدّاً، ضرورة أنّ المقام إنّما هو من قبيل المتزاحمين، كما أنّ فيهما يكون الملاك في كلّ فرد موجوداً، فكذلك الملاك لجريان أصل الإباحـة في كلّ من الأطراف موجود قطعاً، وكما أنّ المانع العقلي هناك بضميمـة اقتضاء كلّ من المتزاحمين صرف القدرة إلى نفسـه يوجب الحكم بالتخيـير إمّا لتقيـيد الإطلاق، وإمّا لسقوط الخطابين واستكشاف العقل حكماً تخيـيريّاً، كذلك المانع العقلي هنا وهو لزوم المخالفـة القطعيـة بضميمـة اقتضاء كلّ من الأصلين لإثبات حكم متعلّقـه يوجب التخيـير قطعاً.
فالعمدة في الجـواب ما ذكرنا مـن أنّـه ليس هنا مـا يدلّ على جـريان أصل الحلّيـة في كلّ واحد من الأطراف، بل مجراه هو مجموعها الذي هو المختلـط مـن الحـلال والحـرام، وجريانـه فيـه مستلزم للمخالفـة القطعيـة كما مـرّ، فتأمّل فـي المقام فإنّـه مـن مـزالّ الأقـدام كما يظهر بمراجعـة كلمات الأعلام.
(الصفحة 110)تبصرة
وهي أنّ المحقّق النائيني (قدس سره)
بعد الحكم بعدم جواز الإذن في جميع الأطراف; لأنّـه إذن في المعصيـة والعقل يستقلّ بقبحها، قال على ما في التقريرات: وأمّا الإذن في البعض فهو ممّا لا مانع عنـه، فإنّ ذلك يرجع في الحقيقـة إلى جعل الشارع الطرف الغير المأذون فيـه بدلا عن الواقع والاكتفاء بتركـه عنـه لو فرض أنّـه صادف المأذون فيـه للواقع، وكان هو الحرام المعلوم في البين، ودعوى أنّـه ليس للشارع الاكتفاء عن الواقع ببدلـه ممّا لا شاهد عليـه، وإلى ذلك يرجع ما تكرّر في كلمات الشيخ (قدس سره)
من إمكان جعل بعض الأطراف بدلا عن الواقع، فإنّـه ليس المراد تنصيص الشارع بالبدليّـة، بل نفس الإذن في البعض يستلزم بدليّـة الآخر قهراً(1)، انتهى.
وأنت خبير بأنّ جعل البدليّـة يتوقّف على كون المجعول بدلا ممّا يصلح لأن يكون بدلا، بأن يكون واجداً لملاك البدليّـة وصالحاً لأن يقوم مقام المبدل، وفي المقام لا يكون كذلك; لأنّ المفروض هنا هو دوران الأمر بين الحرمـة وغير الوجوب من الأحكام الثلاثـة الاُخر.
ومن المعلوم أنّ المستحبّ ـ مثلا ـ الذي تكون فيـه مصلحـة راجحـة كيف يعقل أن يكون بدلا عن المحرّم الذي لا يكون فيـه إلاّ مفسدة تامّـة، فالإذن في ارتكاب المحرّم وجعل المستحبّ ـ مثلا ـ بدلا عنـه والاكتفاء بتركـه عن ترك المحرّم ممّا لا نتصوّره أصلا بعد كون المستحبّ ذا مصلحـة راجحـة والمحرّم ذا
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 35.
(الصفحة 111)
مفسدة ملزمـة. وكذا الحكم في المكروه والمباح، فإنّـه لا يعقل جعل شيء منهما بدلا عن الحرام بعد خلوّ المباح عن المفسدة وعدم بلوغ مفسدة المكروه إلى حدّ التمام الموجب للإلزام. فإذن ينقدح بطلان ما ذكره من أنّ «دعوى أنّـه ليس للشارع...» إلى آخره; لما عرفت من عدم معقوليّـة البدليّـة المقتضيـة لكون البدل واجداً لملاكها، كما لايخفى.
فلو ثبت الإذن في بعض الأطراف فاللازم أن يقال بأنّ في صورة مصادفـة المأذون فيـه للمحرّم الواقعي أنّ الشارع قد رفع اليد عن حكمـه الموجود في البين لمصلحـة أهمّ من مصلحـة الواقع، وهي مصلحـة التسهيل ومفسدة التضيـيق الموجبـة لأن تكون الشريعـة سمحـة سهلـة حتّى يرغب الناس فيها، كما هو الشأن في الترخيص في مطلق الشبهات البدويّـة مع ثبوت الحكم الواقعي في بعض مواردها كما مرّ مراراً فتدبّر.
ولابدّ من التنبيـه على اُمور:
(الصفحة 112)
الأمر الأوّل
تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات
لو كان أطراف العلم الإجمالي ممّا يوجـد تدريجاً فهل يجب الاحتياط أيضاً بالإتيان بجميعها في الشبهات الوجوبيّـة وبتركـه فـي الشبهات التحريميّـة أم لا؟
الظاهر الوجوب; لأنّ التكليف ولو كان مشروطاً بأمر استقبالي بحيث لم يكن متحقّقاً قبل تحقّق الشرط، كما هو الشأن في جميع الواجبات المشروطـة، إلاّ أنّـه لو فرض كونـه معلوماً بالتفصيل لكان اللازم على المكلّف الإتيان بمقدّمات المكلّف بـه التي لا يقدر عليها بعد ثبوت التكليف. ولا يكون المكلّف معذوراً لو لم يفعلها; نظراً إلى أنّ التكليف لم يكن ثابتاً قبل تحقّق الشرط، فكيف يجب على المكلّف تحصيل مقدّماتـه. وبعده وإن تحقّق التكليف إلاّ أنّـه معذور في المخالفـة، لأجل عدم القدرة على فعل متعلّقـه، لأنّ المفروض عدم القدرة على المقدّمات بعد تحقّق الشرط.
وجـه عدم المعذوريّـة: أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل هذه المقدّمات مع العلم بعدم القدرة عليها بعد ثبوت التكليف وإن لم يكن التكليف متحقّقاً بعد، فإذا كان الأمر كذلك فيما لو كان الواجب المشروط معلوماً بالتفصيل فكيف إذا دار الأمر بين كون الوجوب مطلقاً أو مشروطاً؟
وبالجملـة: لا ينبغي الإشكال في وجوب الاحتياط في التدريجيات من