(الصفحة 103)
وفي المقام نقول: إنّ الأدلّـة المرخّصـة وإن اختصّ حكمها بغير صورة العلم الإجمالي بحكم العقل الحاكم بقبح الإذن في المعصيـة، إلاّ أنّ وجود ملاك الإباحـة في كلّ مشتبـه يستكشف من إطلاق المادّة، وبعد تعذّر الجري على طبق الملاك في كلّ من الأطراف يستكشف أنّ البعض على سبيل التخيـير مرخّص فيـه حيث لا ترجيح للبعض المعيّن(1)، انتهى.
ويرد عليـه ما أورد عليـه المحقّق المعاصر في كتاب الدرر من أنّ حكم العقل بذلك إنّما يكون فيما يقطع بأنّ الجري على طبق أحد الاقتضائين لا مانع منـه، كما في مثال الغريقين، وأمّا فيما نحن فيـه فكما أنّ الشكّ يقتضي الترخيص كذلك العلم الإجمالي يوجب مراعاة الواقع ويقتضي الاحتياط، ولعلّ اقتضاء العلم يكون أقوى في نظر الشارع، فلا يقطع العقل بالترخيص، كما هو واضح(2).
ومنها:
ما أورده على نفسـه المحقّق النائيني بعد الحكم بسقوط الاُصول بالنسبـة إلى جميع الأطراف بقولـه: «إن قلت» وملخّصـه: أنّ نسبـة الاُصول إلى كلّ واحد من الأطراف وإن كانت على حدّ سواء إلاّ أنّ ذلك لا يقتضي سقوطها جميعاً، بل غايـة ما يقتضيـه هو التخيـير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين، لأنّـه بناءً على شمول أدلّـة الاُصول لأطراف العلم الإجمالي يكون حال الاُصول العمليـة حال الأمارات على القول بالسببيّـة، والتخيـير في باب الأمارات المتعارضـة إنّما هو كالتخيـير في باب المتزاحمين.
وحينئذ: لابدّ إمّا من تقيـيد إطلاق الأمر بالعمل بمؤدّى كلّ من الأمارتين
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 458 ـ 459.
- 2 ـ نفس المصدر: 459.
(الصفحة 104)
بحال عدم العمل بالاُخرى إن لم يكن أحد المؤدّيـين أهمّ، وإمّا من سقوط الأمرين واستكشاف العقل حكماً تخيـيريّاً لأجل وجود الملاك التامّ في متعلّق كلّ من الأمارتين على المسلكين في باب التزاحم، والظاهر هو المسلك الأوّل، لأنّ منشأ التزاحم إنّما هو عدم القدرة على الجمع بينهما، والمقتضي لإيجاب الجمع إنّما هو إطلاق كلّ من الخطابين، فلابدّ من رفع اليد عنـه، لأنّـه الذي أوجب التزاحم، والضرورات تـتقدّر بقدرها.
ونقول في المقام: إنّ حجّيـة كلّ أصل عملي إنّما تكون مطلقـة بالنسبـة إلى ماعداه من سائر الاُصول، لإطلاق دليل اعتباره، وهذا الإطلاق محفوظ في الشبهات البدويّـة والمقرونـة بالعلم الإجمالي إذا لم يلزم من جريان الاُصول في الأطراف مخالفـة عمليـة.
وأمّا إذا لزم فلا يمكن بقاء إطلاق الحجّيـة لكلّ من الاُصول الجاريـة في جميع الأطراف، لأنّ بقاء الإطلاق يقتضي صحّـة جريانها في جميع الأطراف والمفروض أنّـه يستلزم المخالفـة العمليّـة فلابدّ من رفع اليد عن إطلاق الحجّيـة، ولا يلزم أن تسقط الحجّيـة، ونتيجـة التقيـيد هو التخيـير في إجراء أحد الأصلين لا سقوطهما رأساً كما لايخفى(1).
أقول:
قد عرفت أنّ ما يمكن الاستدلال بـه للترخيص في الشبهات المقرونـة بالعلم الإجمالي هي صحيحـة عبداللّه بن سنان المتقدّمـة(2) الدالّـة على أنّ
«كلّ شيء فيـه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منـه
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 25 ـ 27.
- 2 ـ تقدّمت في الصفحة 88.
(الصفحة 105)
بعينـه» وعرفت أنّ التمسّك بها للمقام مبني على أن يكون المراد من الشيء هو المجموع من الحلال والحرام والمختلط منهما، إذ ليس كلّ واحد من الأطراف فيـه الحلال والحرام، بل ما فيـه الحلال والحرام هو مجموع المشتبهين أو المشتبهات والمختلط منهما أو منها، فأصالـة الحلّيـة الجاريـة بمقتضى هذه الصحيحـة إنّما تجري في مجموع الأطراف، لا في كلّ واحد منها، لعدم كون كلّ واحد منها مصداقاً ومورداً لها، كما لايخفى.
وحينئذ فلا دليل على جريانها في كلّ واحد من الأطراف حتّى يقيّد إطلاق حجّيتها بما إذا لم تجر في الطرف الآخر، لاستلزام بقاء الإطلاق المحذور المتقدّم.
وإن شئت قلت: إنّ المحذور ـ وهو لزوم المخالفـة العمليـة ـ إنّما يلزم من جريانها مطلقاً، سواء كان إطلاقها بالنسبـة إلى الأفراد الاُخر التي هي عبارة عن الشبهات الاُخر المقرونـة بالعلم الإجمالي محفوظاً أم غير محفوظ، ضرورة أنّ جريانها ولو في شبهـة واحدة مقرونـة بالعلم الإجمالي يوجب المخالفـة العمليـة والإذن في المعصيـة، كما هو واضح.
وبالجملـة: موارد جريان أصل الحلّيـة هو كلّ مشتبـه بالشبهـة المقرونـة بالعلم الإجمالي، أي المختلط من الحلال والحرام، ولابدّ من أن يلاحظ الإطلاق بالنسبـة إليـه، وقـد عرفت أنّ تقيـيد الإطـلاق أيضاً لايوجب رفـع المحذور، كما لا يخفى، هذا.
وأمّا أدلّـة الاستصحاب فهي وإن كانت مقتضاها جريانـه في كلّ واحد من الأطراف، لوجود اليقين السابق والشكّ اللاحق فيـه، إلاّ أنّ ذلك مبني على أن يكون المراد من اليقين المأخوذ في أدلّتـه وكذا الشكّ هو اليقين والشكّ
(الصفحة 106)
الوجدانيـين، مع أنّا سنمنع ذلك في بحث الاستصحاب ونقول: إنّ ظاهرها هو كون المراد باليقين هي الحجّـة المعتبرة، وبالشكّ هو عدم الحجّـة، ومن الواضح وجود الحجّـة في أطراف العلم الإجمالي، فلا يكون من نقض الحجّـة بغيرها، كما لايخفى.
ثمّ إنّـه أجاب المحقّق النائيني عن هذا الوجـه
الذي أورده على نفسـه بكلام طويل، وملخّصـه: أنّ الموارد التي يحكم فيها بالتخيـير مع عدم قيام دليل عليـه بالخصوص لا تخلو عن أحد أمرين:
أحدهما: اقتضاء الكاشف والدليل الدالّ على الحكم التخيـير في العمل.
وثانيهما: اقتضاء المنكشف والمدلول ذلك وإن كان الدليل يقتضي التعيـينيّـة.
فمن الأوّل: ما إذا ورد عامّ كقولـه: «أكرم العلماء»، وعلم بخروج زيد وعمرو عن العامّ، ولكن شكّ في أنّ خروجهما هل هو على نحو الإطلاق، أو أنّ خروج كلّ منهما مشروط بحال عدم إكرام الآخر.
وبعبارة اُخرى: دار الأمر بين أن يكون التخصيص أفراديّاً وأحواليّاً معاً أو أحواليّاً فقط، والوظيفـة في هذا الفرض هو التخيـير في إكرام أحدهما، لأنّ مرجع الشكّ إلى الشكّ في مقدار الخارج عن عموم وجوب إكرام العلماء، ولابدّ من الاقتصار على المتيقّن خروجـه وهو التخصيص الأحوالي فقط، فلا محيص عن القول بالتخيـير، إلاّ أنّ منشأه هو اجتماع دليل العامّ وإجمال دليل الخاصّ بضميمـة وجوب الاقتصار على القدر المتيقّن، وليس التخيـير فيـه لأجل اقتضاء المجعول لـه، بل المجعول في كلّ من العامّ والخاصّ هو الحكم التعيـيني، فالتخيـير إنّما نشأ من ناحيـة الدليل.
(الصفحة 107)
ومن الثاني: المتزاحمان في مقام الامتثال; فإنّ التخيـير فيهما إنّما هو لأجل أنّ المجعول في باب التكاليف معنى يقتضي التخيـير في امتثال أحد المتزاحمين، لأنّـه يعتبر عقلا فيها القدرة على الامتثال، وحيث لا تكون القدرة محفوظـة في كليهما فالعقل يستقلّ بالتخيـير، والفرق بين التخيـير في هذا القسم والتخيـير في القسم الأوّل أنّ التخيـير هناك ظاهري وهنا واقعي.
إذا عرفت ذلك نقول:
إنّ القول بالتخيـير في باب الاُصول لا شاهد عليـه لا من ناحيـة الدليل والكاشف، ولا من ناحيـة المدلول والمنكشف.
أمّا انتفاء الأوّل: فواضح، فإنّ دليل اعتبار كلّ أصل من الاُصول العمليّـه إنّما يقتضي جريانـه عيناً، سواء عارضـه أصل آخر أو لم يعارضـه.
وأمّا انتفاء الثاني: فلأنّ المجعول فـي باب الاُصول العمليـة ليس إلاّ الحكم بتطبيق العمل على مؤدّى الأصل بما أنّـه الواقـع أولا بما أنّـه كـذلك على اختلاف الاُصول، ولكنّ الحكم بذلك ليس على إطلاقـه، بل مع انحفاظ رتبـة الحكم الظاهري باجتماع القيود الثلاثـة، وهي الجهل بالواقع، وإمكان الحكم على المـؤدّى بما أنّـه الواقـع، وعـدم لـزوم المخالفـة العمليـة، وحيث إنّـه يلزم من جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي مخالفـة عمليّـة فلا يمكن جعلها جمعاً، وكون المجعول أحدها تخيـيراً وإن كان بمكان من الإمكـان، إلاّ أنّـه لادليل عليـه لا من ناحيـة أدلّـة الاُصول ولا من ناحيـة المجعول فيها(1)، انتهى.
وفي هذا الكلام وجوه من النظر:
منها:
أنّ ما ذكره ـ من أنّ التخيـير في القسم الأوّل إنّما هو من ناحيـة
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 28 ـ 31.