(الصفحة 158)
ويمكن الجواب
عن الشبهـة مضافاً إلى ما عرفت سابقاً(1) بأنّ أصالـة الحلّيـة في مطلق الشبهات ممّا لم يدلّ عليها دليل، لأنّ ما يتوهّم أن يكون مستنداً لها هي روايـة مسعدة بن صدقـة المتقدّمـة(2) وقد عرفت الإشكال فيها بحيث لايجوز الاعتماد عليها، وأمّا مثل قولـه (عليه السلام):
«كلّ شيء فيـه حلال وحرام...» إلى آخره، كما في صحيحـة عبداللّه بن سنان(3) فقد ظهر لك أنّ ذلك يختصّ بالشبهات المقرونـة بالعلم الإجمالي، ومقتضى عمومها وإن كان الشمول للشبهـة المحصورة أيضاً، إلاّ أنّ الدليل العقلي أو العقلائي قد خصّصـه، فانحصر مورده بالشبهـة الغير المحصورة.
وأمّا التمسّك في نفي الحرمـة المجهولـة بأدلّـة البراءة فهو وإن كان صحيحاً، إلاّ أنّك عرفت عدم شمول أدلّـة البراءة لأطراف العلم الإجمالي. وبالجملـة: فليس هنا ما يحكم بالحلّيـة وعدم الحرمـة أصلا.
وكيف كان: فلو سلّم ذلك فيمكن الجـواب بما عرفت مـن أنّ الأصل الجاري في السبب إنّما يكون حاكماً على الأصل الجاري في المسبّب إذا كان المسبّب من الآثار الشرعيّـة المترتّبـة على السبب، والمقام لا يكون كذلك، فإنّ حلّيـة كلّ واحد من الأطراف لا تكون من الآثار الشرعيّـة لطهارتـه; لأنّـه لم يدلّ دليل على أنّ كلّ طاهر حلال، بل الحلّيـة الواقعيـة إنّما تكون موضوعها الأشياء التي هي حلال بعناوينها الواقعيّـة، كما هـو واضح.
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 91.
- 2 ـ تقدّمت في الصفحة 89.
- 3 ـ تقدّمت في الصفحـة 88.
(الصفحة 159)
كما أنّك عرفت أنّ طهارة الملاقي أيضاً لا تكون من الآثار الشرعيّـة المترتّبـة على طهارة الملاقى.
وحينئذ: فلابـدّ من ملاحظـة طرفي العلم الإجمالي الحادث أوّلا المؤثّر فـي التنجيز، والحكم بعدم جريان الاُصول في طرفيـه; للزوم المخالفـة العمليّـة.
وأمّا مـا هـو خارج عنهما فلا مانـع مـن جريان أصالتي الطهارة والحلّيـة فيـه أصلا. وحينئذ فيصير مقتضى الأصل الشرعي موافقاً مع حكم العقل الحاكم بالتفصيل بين الصور الثلاثـة المتقدّمـة في كـلام المحقّق الخـراساني (قدس سره)
(1)فتأمّل جيّداً.
هذا كلّـه بناءً على ما هو مقتضى التحقيق.
وأمّا بناءً على مسلك القوم
من اعتبار أصالـة الحلّيـة في مطلق الشبهات وترتّب الحلّيـة على الطهارة، وكذا ترتّب طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ على طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ وكون الشكّ في الأوّل مسبّباً عن الشكّ في الثاني بحيث لم يكن مجال لجريان الأصل فيـه بعد جريانـه في السبب، فلابدّ من التفصيل بين الصور الثلاثـة من حيث ورود الشبهـة وعدمـه.
فنقول في توضيح ذلك: إنّ عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي إنّما هو فيما إذا لزم من جريانها مخالفـة عمليّـة للتكليف المنجّز، وأمّا إذا لم يلزم من ذلك مخالفـة عمليّـة أصلا أو لزم ولكن لم يكن مخالفـة عمليّـة للتكليف المنجّز فلا مانع من جريان الاُصول; لأنّ التعارض بينهما تعارض عرضي حاصل
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 150 ـ 151.
(الصفحة 160)
بسبب العلم الإجمالي بكذب أحدها، لا ذاتي ناش عن عدم إمكان اجتماع مؤدّاها، ضرورة عدم المنافاة حقيقـة بين حلّيـة هذا الإناء وحلّيـة ذاك الإناء ولو علم إجمالا بحرمـة واحد منهما، كما لايخفى.
وحينئذ: فلو علم إجمالا بنجاسـة هذا الإناء أو ذاك الإناء، ثمّ علم إجمالا بنجاسـة الإناء الثاني أو إناء ثالث فقد عرفت أنّ العلم الإجمالي الحادث ثانياً لا يعقل أن يكون منجّزاً بعد اشتراكـه مع العلم الإجمالي الأوّل في بعض الأطراف، وحينئذ فلا مانع من جريان أصالـة الطهارة في طرفي العلم الثاني; لأنّـه وإن يلزم من جريانها مخالفـة عمليّـة للمعلوم الإجمالي، إلاّ أنّ المحذور في المخالفـة العمليّـة للتكليف المنجّز، لا في مطلق المخالفـة العمليّـة، والمفروض أنّ العلم الثاني لم يؤثّر في التنجيز أصلا.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ في الصورة الاُولى من الصور الثلاثـة المفروضـة في كلام المحقّق الخراساني (قدس سره)
(1) لابدّ من الالتزام بجريان أصالتي الطهارة والحلّيـة معاً في الملاقي ـ بالكسر ـ لأنّ طهارتـه وإن كانت مترتّبـة على طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ وواقعـة في عرض أصالتي الحلّيـة الجاريتين في الملاقى والطرف، إلاّ أنّ الملاقي خارج من طرفي العلم الإجمالي الأوّل، والعلم الإجمالي الثاني لا يكون مؤثّراً في التنجيز حتّى يلزم من جريان الأصل فيـه أيضاً مخالفـة عمليّـة للتكليف المنجّز، كما هو واضح.
وأمّا الصورة الثالثـة فالظاهر ورود الشبهـة فيها بناءً على مبنى القوم، كما هو المفروض; لما ذكروه في وجهـه ممّا تقدّم.
- 1 ـ كفايـة الاُصول: 411 ـ 412.
(الصفحة 161)
بقي الكلام في أمرين:
الأوّل:
أنّك عرفت في كلام المحقّق الخراساني أنّـه (قدس سره)
حكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى ـ بالفتح ـ في موردين:
أحدهما: ما لو علم أوّلا بنجاسـة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف، ثمّ حصل العلم بالملاقاة وبنجاسـة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف.
ثانيهمـا: مـا إذا علـم بالمـلاقاة، ثمّ حـدث العلم الإجمالـي، ولكـن كـان المـلاقـى ـ بالفتـح ـ خـارجـاً عـن محـلّ الابتـلاء فـي حـال حـدوثـه وصـار مبتلى بـه بعده.
وقد عرفت منّا المتابعـة لـه (قدس سره)
في المورد الأوّل، وأمّا المورد الثاني فالظاهر فيـه وجوب الاجتناب عن الملاقى أيضاً.
أمّا بناءً على ما حقّقناه سابقاً ـ من عدم اشتراط تأثير العلم الإجمالي في تنجيز التكليف بكون أطرافـه مورداً للابتلاء، لأنّ ذلك مبني على انحلال الخطابات إلى الخطابات الشخصيّـة، وهو ممنوع للمحذورات المتقدّمـة ـ فواضح; لأنّ الخروج عن محلّ الابتلاء لا يؤثّر شيئاً، فلا موقع لجريان الأصل في الملاقى ـ بالفتح ـ أصلا.
وأمّا بناءً على مسلك المتأخّرين مـن اشتراط تأثير العلم الإجمالي بعدم خروج شيء من أطرافـه عن محلّ الابتلاء فالظاهر عدم جريان الأصل في الملاقى هنا وإن خـرج عـن محـلّ الابتلاء; لأنّ الخروج عنـه إنّما يمنع من العدم لو لم يكن للخارج أثر مبتلى بـه، وإلاّ فمع وجود أثر لـه مورد للابتلاء يجري الأصل فيـه في غير أطراف العلم الإجمالي، ولا يجري فيها، للزوم المخالفـة
(الصفحة 162)
العمليّـة، وهنا يكون للملاقى ـ بالفتح ـ الخـارج عـن مورد الابتلاء أثر مبتلى بـه وهو نجاسـة الملاقي ـ بالكسر ـ لو كان نجساً، كما لايخفى.
الثاني:
قد عرفت أنّ نجاسـة الملاقي ـ بالكسر ـ ليست من آثار نجاسـة الأعيان النجسـة بحيث يكون مرجع وجوب الاجتناب عن النجس إلى وجوب الاجتناب عنـه وعن ملاقيـه، فلا يحتاج جعل النجاسـة لـه إلى تعبّد خاصّ، بل هو مجعول بتبع جعل النجاسـة للملاقى ـ بالفتح ـ وكذا لا تكون نجاسـة الملاقي ـ بالكسر ـ لأجل حكم العقل بسرايـة النجاسـة منـه إليـه وتأثيره فيـه خارجاً، بل هي حكم وضعي مجعول بجعل مستقلّ مرجعـه إلى تأثير النجس شرعاً في تنجيس ملاقيـه، فهو سبب شرعاً لـه، هذا.
ولو اُغمض عمّا ذكرنا وفرض كون نجاستـه بنحو الأوّل أو الثاني فالظاهر وجوب الاجتناب عن المتلاقيـين والطرف في جميع الصور الثلاثـة المتقدّمـة; لأنّ المفروض أنّـه ليس هنا حكم آخر يتعلّق بـه العلم الإجمالي الآخر حتّى يكون اشتراكـه مع العلم الإجمالي الأوّل في بعض الأطراف مانعاً عن تأثيره في التنجيز، فلم يكن مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر. بل هنا ليس إلاّ حكم واحد متعلّق بالطرف أو بالمتلاقيـين; لأنّ المفروض أنّـه لو كان النجس هو الملاقى ـ بالفتح ـ لا يتحقّق الاجتناب عنـه إلاّ بالاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر أيضاً، فمع تنجّز التكليف بتعلّق العلم الإجمالي بـه يكون مقتضى حكم العقل الاجتناب عن الجميع، كما هو واضح.
هـذا كلّـه مع إحـراز كون نجاسـة الملاقي مـن قبيل أحـد الأوّلين أو مـن قبيل الثالث.