(الصفحة 17)
شرعياً، بل عقلياً، بملاحظـة أنّـه إذا كان السبب في ثبوت تلك الآثار الوجوديّـة هو التذكيـة فعند عدمها تنتفي تلك الآثار، لاستلزام انتفاء السبب انتفاء المسبّب استلزاماً عقليّاً، كما هو واضح.
ورابعـاً
:
لـو سلّمنا جميع ذلـك نقول ـ بعـد تسليم كـون الطهاره ونحـوها مجعولـة للمذكّى بسبب التذكيـة، وعـدم كونها هي الطهارة الموجـودة حال الحياة ـ: لابدّ مـن الالتزام بكون الطهارة الثابتـة في حال الحياة مسبّبـة عـن سبب آخر غير التذكيـة، وحينئذ لا مانع من استصحاب بقاء الجامع بعد زوال السبب في حال الحياة، واحتمال عروض سبب آخر الذي هو التذكيـة مقارناً لـزوال السبب الأوّل، وبـه يثبت طهارة الحيوان وجـواز أكلـه واستعمالـه فيما يشترط بالطهارة.
ولكن ذلك متفرّع أوّلا: على جريان استصحاب القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي.
وثانياً: على كون الجامع موضوعاً لأثر شرعي، وكلا الأمرين غير خاليـين عن المناقشـة.
ثمّ إنّه لو قطع النظر عمّا ذكرنا من عدم جريان استصحاب عدم التذكيـة بوجه فهل يجري فيما لو شكّ في أنّ اللحم أو الجلد الموجود في البين هل اُخذ من الغنم المذكّى الموجود المعلوم، أو من الغنم الغير المذكّى كذلك، أو لا يجري؟ وجهان مبنيّان على أنّ التذكيـة هل تكون وصفاً للحيوان بأجمعه، كما هو الظاهر، أو أنّـه يتّصف بها الأجزاء أيضاً؟
فعلى الأوّل لا وجـه لجريان استصحاب عدم التذكيـة، لأنّـه ليس هنا حيوان شكّ في اتّصافـه بهذا الوصف حتّى يجري فيـه استصحاب عدمـه، لأنّ
(الصفحة 18)
المفروض تميّز المذكّى عن غيره، وليس هنا أصل آخر يثبت بـه أنّـه اُخذ من المذكّى أو من غيره، وحينئذ فيحكم بالحلّيـة والطهارة، لأصالتهما.
وعلى الثاني فلا محيص عن استصحاب عدم التذكيـة، كما هو واضح، هذا.
ولو شك في أنّ لحم الغنم مثلا الموجود في البين هل اتّخذ من الغنم المذكّى المشتبـه بغير المذكّى أو من غيره، فهل يجري فيـه وفي الحيوانين استصحاب عدم التذكيـة أم لا؟ وجهان مبنيّان على أنّ عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي هل هو للزوم المخالفـة العمليـة للتكليف المعلوم بالإجمال، أو للزوم التناقض في أدلّـة الاُصول؟
فعلى الأوّل لا يكون هنا مانع من الجريان، لعدم لزوم المخالفـة العمليّـة، لأنّ مقتضى الأصلين الاجتناب عن كلا الحيوانين، وحينئذ فاللازم الاجتناب عن اللحم أو الجلد أيضاً، بعد كون الحيوان المتّخذ منـه ذلك محكوماً بالنجاسـة والحرمـة.
وعلى الثاني فلا مجال لإجراء استصحاب عدم التذكيـة بعد العلم الإجمالي بوجـود المذكّى في البين، كما أنّـه لا مجال لإجـراء قاعدتي الحـلّ والطهارة بعد العلم بوجود غير المذكّى أيضاً، هذا بالنسبـة إلى الحيوانين.
وأمّا بالنسبـة إلى اللحم أو الجلد الذي اتّخذ من أحدهما فإن قلنا: بأنّـه أيضاً يصير من أطراف العلم الإجمالي فلا يجري فيـه الاستصحاب ولا قاعدتا الحلّ والطهارة، وإلاّ فيجري فيـه الاستصحاب بناءً على الوجـه الثاني من الوجهين المتقدّمين، وأمّا على الوجـه الأوّل فالمرجع فيـه هو قاعدتا الحلّ والطهارة.
هذا كلّـه فيما لو كان كلّ واحد من الحيوانين مورداً للابتلاء.
(الصفحة 19)
وأمّـا لو كـان كلاهمـا أو خصوص الحيوان الـذي لم يتّخذ منـه الجلـد خارجاً عن محلّ الابتلاء فلا مانع حينئذ من جريان الاستصحاب في الحيوان الـذي اتّخذ منـه الجلد، لعدم جـريانـه في الحيوان الآخـر بعد خـروجـه مـن محـلّ الابتـلاء حتّى يلزم التناقض أو يحصـل التعارض بناءً علـى الجـريان والتساقط، والحيوان المتّخذ منـه الجلد وإن كان خارجاً عن محلّ الابتلاء أيضاً في الفرض الأوّل، إلاّ أنّـه يجري فيـه الاستصحاب بالنظر إلى جلده الذي كان محلاّ للابتلاء.
ومن هنا يظهر عدم جريان الاستصحاب فيما لو كان الحيوان الآخر فقط مورداً لابتلاء المكلّف، لأنّ الحيوان المتّخذ منـه الجلد أيضاً مورد للابتلاء لابنفسـه، بل بجلده الموجود في البين، فيحصل التناقض أو التعارض من جريان الأصلين، فتدبّر جيّداً.
(الصفحة 20)
التنبيه الثاني
في حسن الاحتياط شرعاً وعقلا
قد مرّ أنّ مقتضى الأدلّـة جريان البراءة شرعاً وعقلا في الشبهـة الوجوبيـة والتحريميـة، إلاّ أنّـه لا يخفى أنّ الاحتياط فيهما بالإتيان أو الترك ممّا لا شبهـة في حسنـه ولاريب في رجحانـه شرعاً وعقلا، بلا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها.
تقرير إشكال الاحتياط في العبادات ودفعه
نعم قد يشكل في جريان الاحتياط في العبادات فيما إذا دار الأمر فيها بين الوجوب وغير الاستحباب; تارةً من جهـة أنّ العبادة لابدّ فيها من نيّـة القربـة، وهي متوقّفـة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا، وفي الشبهات البدويّـة لاعلم بالأمر، فلا يمكن فيها الاحتياط.
واُخرى من جهـة أنّ حقيقـة الإطاعـة عقلا متقوّمـة بما إذا كان الانبعاث مستنداً إلى بعث المولى، وفي الشبهات البدويّـة لا يكون الأمر كذلك، فإنّ الانبعاث فيها إنّما هو عن احتمال البعث، كما هو واضح.
هذا ولا يخفى أنّ الإشكال الأوّل إنّما نشأ من تخيّل أنّ القربـة المعتبرة في العبادة إنّما تكون كسائر الشروط المعتبرة فيها المأخوذة في متعلّق الأمر; إذ حينئذ لايمكن تحصيل المأمور بـه بجميع شروطـه، لعدم العلم بأمر الشارع حتّى
(الصفحة 21)
تصحّ نيّـة القربـة، مع أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ قصد الأمر وإن كان يمكن أن يؤخذ في متعلّق الأمر ـ كما عرفت ذلك في مبحث التعبّدي والتوصّلي ـ إلاّ أنّـه لم يقع ذلك في الخارج، والأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقـه، وحينئذ فيمكن الإتيان بـه بجميع ما اعتبر فيـه برجاء كونـه مقرّباً ومحبوباً، لأنّـه لا يعتبر الجزم بكون المأتي بـه مأموراً بـه ومقرّباً، بل يكفي الإتيان بـه برجاء ذلك وإن كان قادراً على تحصيل العلم.
وما يتوهّم من عدم كفايـة الامتثال الاحتمالي مع القدرة على الامتثال العلمي، مدفوع بعدم قيام الدليل على ذلك، كما لايخفى.
وأمّا الإشكال الثاني: فيدفعـه أنّ الانبعاث لا يعقل أن يكون مستنداً إلى نفس بعث المولى بحيث يكون وجوده وتحقّقـه في الواقع مؤثّراً في حصول الانبعاث، وإلاّ لزم أن لا ينفكّ عنـه، مع أنّ الوجدان يقضي بخلافـه بعد ملاحظـة العصاة، وكذلك يلزم أن لا يتحقّق الانبعاث بدونـه، مع أنّا نرى تحقّقـه بالنسبـة إلى الجاهل المركّب، فلا يدور الانبعاث وعدمـه مدار وجود البعث وعدمـه.
فالحقّ أنّ الانبعاث إنّما يكون مستنداً إلى الاعتقاد بوجود البعث، لا بنحو يكون للصورة الاعتقاديّـة مدخليّـة في تحقّقـه بحيث لا يمكن أن يتحقّق بدونها، بل الغرض نفي مدخليّـة البعث بوجوده الواقعي ولو بنحو الجزئيـة، وحينئذ فالآتي بالفعل بداعي احتمال تعلّق الأمر بـه أيضاً مطيع.
اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ في صورة العلم بوجود البعث يكون الانبعاث مستنداً إلى نفس البعث، لأنّـه نال الواقع ووصل إليـه بالعرض، وهذا بخلاف صورة الاحتمال، فإنّ الانبعاث فيها لا محالـة يكون مستنداً إلى الاحتمال الذي لايكون لـه كاشفيـة بوجـه، وهذا هو الفارق بينهما في صدق الإطاعـة
|