(الصفحة 184)
بعضها، لوضوح اشتراك تارك الصلاة رأساً مع تارك ركوعها ـ مثلا ـ في عدم إتيان واحد منهما بالمركّب الذي هو الصلاة.
وحينئذ نقول: ترك الأقلّ يعلم بترتّب العقاب عليـه; إمّا من جهـة كونـه هو تمام المأمور بـه، وإمّا من جهـة كون تركـه هو عين ترك المأمور بـه الذي يترتّب عليـه العقاب، فيترتّب العقاب على تركـه قطعاً، وبـه ينحلّ العلم الإجمالي.
نعم لو كان الواجب في الواقع هو الأكثر ولم يأت المكلّف إلاّ بالأقلّ اعتماداً على حكم العقل بالبراءة فهو وإن كان تاركاً للمأمور بـه، لأنّ تركـه بعين ترك الجزء الزائد أيضاً إلاّ أنّ ترك المأمور بـه هنا إنّما هو لعذر، بخلاف تركـه بعدم الإتيان بالأقلّ، فإنّـه لا يكون لعذر، فهما مشتركان في عـدم إتيانهما بالمأمور بـه، لكن بينهما فرق من حيث العذر وعدمـه، نظير ما لو علم المكلّف بوجوب إنقاذ أحد الغريقين على سبيل التخيـير مع كـون الواجب في الواقـع واحداً معيّناً منهما، فإنّـه تارة يعصي المولى بعدم إنقاذ واحد منهما واُخرى ينقذ غير من يجب إنقاذه بحسب الواقع. ففي الصورتين وإن كان المأمور بـه قد ترك ولم يأت المكلّف بـه، إلاّ أنّـه في الصورة الثانيـة معذور في المخالفـة دون الصورة الاُولى.
وثانياً: لو سلّم دوران أمر الأقلّ بين كونـه نفسيّاً يترتّب على مخالفتـه العقاب أو غيريّاً لا يترتّب عليـه، كدوران شيء بين الواجب والمستحبّ، إلاّ أنّا نقول: إنّ الملاك في جريان حكم العقل بالبراءة المستند إلى قبح العقاب بلا بيان هل هو عدم البيان على التكليف، أو عدم البيان على العقوبـة؟ لا سبيل إلى الثاني; لأنّـه تصحّ العقوبـة فيما لو بيّن المولى التكليف، وإن لم يبيّن العقوبـة عليـه. ألا ترى أنّـه لو ارتكب المكلّف واحداً من المحرّمات بتخيّل ضعف العقاب
(الصفحة 185)
المترتّب على ارتكابـه لا إشكال في صحّـة عقوبتـه المترتّبـة عليـه في الواقع وإن كان من الشدّة بمكان.
وبالجملـة: فمستند حكم العقل بالبراءة ليس عدم البيان على العقاب، بل عدم البيان على التكليف، والبيان عليـه موجود بالنسبـة إلى الأقلّ قطعاً، ولذا لايجوز تركـه. وحينئذ فدوران أمر الأقلّ بين ترتّب العقاب عليـه لو كان نفسيّاً وعدم ترتّبـه لو كان غيريّاً لا يوجب أن لا يكون وجوبـه معلوماً، ومع العلم بالوجوب لا يحكم العقل بالبراءة قطعاً، فلزوم الإتيان بـه معلوم على أيّ تقدير، وبـه ينحلّ العلم الإجمالي، كما لايخفى.
ومنها:
ما ذكره المحقّق النائيني ـ على ما في التقريرات المنسوبـة إليـه ـ وهو ينحلّ إلى وجهين:
أحدهما: ما ذكره في صدر كلامـه وملخّصـه: إنّ العقل يستقلّ بعدم كفايـة الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي، ضرورة أنّ الامتثال الاحتمالي إنّما يقتضيـه التكليف الاحتمالي، وأمّا التكليف القطعي فمقتضاه الامتثال القطعي، لأنّ العلم باشتغال الذمّـة يستدعي العلم بالفراغ عقلا، ولا يكفي احتمال الفراغ، ففي المقام لا يجوز الاقتصار على الأقلّ عقلا، لأنّـه يشكّ في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين، ولايحصل العلم بالامتثال إلاّ بعد ضمّ الخصوصيّـة الزائدة المشكوكـة. والعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ المردّد بين كونـه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الإجمالي بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر، ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن يوجب الانحلال، لأنّـه يلزم أن يكون العلم الإجمالي موجباً لانحلال نفسـه.
ثانيهما: ما ذكره في ذيل كلامـه وحاصلـه: إنّ الشكّ في تعلّق التكليف
(الصفحة 186)
بالخصوصيـة الزائدة المشكوكـة من الجزء أو الشرط وإن كان عقلا لا يقتضي التنجّز واستحقاق العقاب على مخالفتـه من حيث هو، للجهل بتعلّق التكليف بـه، إلاّ أنّ هناك جهـة اُخرى تقتضي التنجيز والاستحقاق على تقدير تعلّق التكليف بها، وهي احتمال الارتباطيّـة وقيديّـة الزائد للأقل، فإنّ هذا الاحتمال بضميمـة العلم الإجمالي يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب عقلا. فإنّـه لا رافع لهذا الاحتمال، وليس من وظيفـة العقل وضع القيديّـة أو رفعها، بل ذلك من وظيفـة الشارع، ولا حكم للعقل من هذه الجهـة فيبقى حكمـه بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم على حالـه، فلابدّ من ضمّ الخصوصيّـة الزائدة(1).
هذا، ويرد على التقريب الأوّل: أنّ الاشتغال اليقيني وإن كان مستدعياً للبراءة اليقينيّـة، إلاّ أنّ ذلك بمقدار ثبت الاشتغال بـه وقامت الحجّـة عليـه، وأمّا ما لم تقم الحجّـة عليـه فلم يثبت الاشتغال بـه حتّى يستدعي البراءة اليقينيّـة عنـه، كما لايخفى.
وما ذكره من أنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ المردّد بين كونـه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الإجمالي محلّ منع، لما عرفت من أنّ المراد باللابشرط في المقام هو اللا بشرط المقسمي الذي هو عبارة عن نفس الماهيّـة من دون أن يلحظ معها شيء على نحو السلب البسيط لا الإيجاب العدولي. ومن المعلوم أنّ اللابشرط المقسمي لا يغاير مع البشرط شيء أصلا، لأنّ اللا بشرط يجتمع مع ألف شرط.
وحينئذ فالأقلّ المردّد بين كونـه لا بشرط أو بشرط شيء يعلم تفصيلا
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 159 ـ 161.
(الصفحة 187)
بوجوبـه بحيث لا إجمال في ذلك عند العقل ولا يكون متردّداً فيـه أصلا، والخصوصيّـة الزائدة مشكوكـة بالشكّ البدوي.
وبالجملـة، فالعلم الإجمالي إذا لوحظ طرفاه أو أطرافـه يكون كلّ واحد منهما أو منها مشكوكاً من حيث هو، وفي المقام لا يكون كذلك، لأنّ العقل لا يرى إجمالا بالنسبـة إلى وجوب الأقلّ أصلا، والأمر الزائد لا يكون إلاّ مشكوكاً بالشكّ البدوي.
والعجب أنّـه (قدس سره)
أجاب عن الإشكال الذي نسبـه إلى صاحب الحاشيـة كما عرفت بعدم مباينـة الماهيّـة اللابشرط مع الماهيّـة بشرط شيء وقال: إنّ الأقلّ متيقّن الاعتبار على كلّ حال، سواء لوحظ لا بشرط أو بشرط الجزء الزائد(1)، وهنا أنكر الانحلال الذي مرجعـه إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ على كلّ حال والشكّ البدوي في الزائد، ولعمري أنّـه تنافر واضح وتهافت فاحش، هذا.
ويرد على التقريب الثاني: أنّـه كما أنّ تعلّق التكليف بالخصوصيّـة الزائدة مشكوك وهو لا يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على مخالفتـه من حيث هو، كذلك احتمال الارتباطيّـة وقيديّـة الزائد مورد لجريان البراءة بعد عدم قيام الحجّـة عليها، لعدم الفرق بين نفس الجزء الزائد وحيثيتـه الارتباطيـة أصلا، لوجود ملاك جريان البراءة العقليّـة وهو الجهل وعدم ثبوت البيان فيهما، ولا يكون مقتضى جريانها هو رفع القيديّـة حتّى يقال بأنّـه ليس من وظيفـة العقل وضع القيديّـة ولا رفعها، بل معنى جريانها هو قبح العقاب على ترك المأمور بـه
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 182.
(الصفحة 188)
من جهـة الإخلال بالخصوصيّـة الزائدة المشكوكـة بعد عدم ورود بيان على ثبوتها وكونها دخيلا في المأمور بـه.
ومن جميع ما ذكرنا يظهر الجواب عن تقريب آخر للاحتياط، وهو أنّ تعلّق التكليف بالأقلّ معلوم ضرورة، والاشتغال اليقيني بذلك يقتضي البراءة اليقينيّـة، وهي لا تحصل إلاّ بضمّ الجزء الزائد المشكوك، ضرورة أنّـه مع دخالتـه في المأمور بـه لا يكون الإتيان بالأقلّ بمجد أصلا.
والجواب: أنّ الشكّ في حصول البراءة إنّما هو من جهـة مدخليّـة الخصوصيّـة الزائدة، وحيث إنّ دخالتها مشكوكـة ولم يرد من المولى بيان بالنسبـة إليها فالعقاب على ترك المأمور بـه من جهـة الإخلال بتلك الخصوصيـة لا يكون إلاّ عقاباً من دون بيان ومؤاخذة بلا برهان.
وبالجملـة: ما علم الاشتغال بـه يقيناً يحصل البراءة بالإتيان بـه كذلك، وما لم يعلم الاشتغال بـه تجري البراءة العقليّـة بالنسبـة إليـه، كما عرفت.
ومنها:
ما أفاده الشيخ المحقّق صاحب الحاشيـة الكبيرة على المعالم، وملخّصـه: أنّ الأمر دائر بين تعلّق الوجوب بالأقلّ أو بالأكثر، وعلى تقدير تعلّقـه بالأكثر لا يكون الأقلّ بواجب; لأنّ ما هو في ضمن الأكثر إنّما هو الأجزاء التي ينحلّ إليها الأقلّ لا نفس الأقلّ، فإنّـه لا يكون في ضمن الأكثر أصلا; لأنّ لـه صورة مغايرة لصورة الأكثر. ومع هذا التغاير لو كان الأقلّ والأكثر غير ارتباطيـين لكنّا نحكم بالبراءة بالنسبـة إلى الزائد المشكوك، لعدم توقّف حصول الغرض على ضمّ الزائد، بل الأقلّ يترتّب عليـه الغرض في الجملـة ولو لم يكن متعلّقاً للتكليف. وهذا بخلاف المقام، فإنّـه لو كان الأمر متعلّقاً في نفس الأمر بالأكثر لكان وجود الأقلّ كعدمـه في عدم ترتّب شيء عليـه وعدم تأثيره في حصول