(الصفحة 277)
وكذا الصورة الثالثـة، لأنّ ثبوت التكليف في الواقعـة الاُولى لا دلالـة على ثبوتـه في الواقعـة الثانيـة أيضاً، فالتكليف فيها مشكوك.
وأمّا الصورة الثانيـة فلأنّ المكلّف وإن كان عالماً في أوّل الوقت بتوجّـه التكليف إليـه، إلاّ أنّـه حيث كان قادراً على المأمور بـه بجميع أجزائـه وشرائطـه يكون المكلّف بـه في حقّـه هو المأمور بـه مع جميع الأجزاء والشرائط، فتعلّق التكليف بالمركّب التامّ كان معلوماً مع القدرة إليـه.
وأمّا مع العجز عن بعض الأجزاء أو الشرائط فلم يكن أصل ثبوت التكليف بمعلوم، فما علم ثبوتـه قد سقط بسبب العجز، وما يحتمل ثبوتـه فعلا كان من أوّل الأمر مشكوكاً، فلا مانع من جريان البراءة فيـه.
ولكن قد يتوهّم أنّ المقام نظير الشكّ في القدرة، والقاعدة فيـه تقتضي الاحتياط بحكم العقل، ولا يخفى أنّ التنظير غير صحيح، لأنّ في مسألـة الشكّ في القدرة يكون أصل ثبوت التكليف معلوماً بلاريب. غايـة الأمر أنّـه يشكّ في سقوطـه لأجل احتمال العجز عن إتيان متعلّقـه.
وأمّا في المقام يكون أصل ثبوت التكليف مجهولا، لما عرفت من أنّ التكليف بالمركّب التامّ قد علم سقوطـه بسبب العجز، وبالمركّب الناقص يكون مشكوكاً من أوّل الأمر، فالتنظير في غير محلّـه.
كما أنّ قياس المقام بالعلم الإجمالي الذي طرء الاضطرار على بعض أطرافـه، حيث يحكم العقل بحرمـة المخالفـة القطعيّـة مع العجز عـن الموافقـة القطعيّـة ـ كما يظهر من الدرر(1)، حيث اختار وجوب الإتيان بالمقدور عقلا
- 1 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 498.
(الصفحة 278)
فيما لو كان العجز طارئاً عليـه في واقعـة واحدة، لأنّـه يعلم بتوجّـه التكليف إليـه، فإن لم يأت بالمقدور لـزم المخالفـة القطعيـة ـ ممّا لا يتمّ أيضاً، لعـدم ثبوت العلم الإجمالي في المقام، بل الثابت هـو العلم التفصيلي بالتكليف المتعلّق بالمركّب التامّ الساقط بسبب العجز عنـه والشكّ البدوي في ثبوت التكليف بالباقي المقدور. فالحقّ جريان البراءة العقليّـة في جميع الصور الثلاثة.
في جريان البراءة الشرعيّة
وأمّا البراءة الشرعيّـة التي يدلّ عليها حديث الرفع فالظاهر عدم جريانها فيما لو يكن لشيء من الدليلين إطلاق، لا لما ذكره المحقّق الخراساني(1) من أنّ الحديث في مقام الامتنان ولا منّـة في إيجاب الباقي المقدور بل لأنّ غايـة مدلول الحديث هو رفع الجزئيـة والشرطيـة في حال العجز، وهو لا يدلّ على ثبوت التكليف بالباقي.
وإن شئت قلت: إنّ مدلول الحديث ليس إلاّ الرفع ولا دلالـة لـه على الوضع. ومن المعلوم أنّـه في رفعـه امتنان ليس إلاّ، كما لايخفى.
وأمّا لو كان لكلا الدليلين إطلاق مع عدم تقدّم أحدهما على الآخر فيمكن التمسّك بالحديث لرفع الجزئيـة أو الشرطيـة في حال العجز ويكون مقتضى إطلاق دليل المركّب حينئذ وجوب الإتيان بالباقي المقدور لأنّ حديث الرفع بمنزلـة المخصّص بالنسبـة إلى إطلاق دليل الجزء أو الشرط فلا يكون لـه مع ملاحظـة حديث الرفع تعارض مع إطلاق دليل المركّب، كما لايخفى.
(الصفحة 279)
مقتضى القواعد الثانوية في المقام
التمسّك بالاستصحاب لإثبات وجوب باقي الأجزاء
وأمّا الكلام في المقام الثاني: فقد يتمسّك لوجوب الباقي المقدور بالاستصحاب وتقريره من وجوه:
الأوّل:
استصحاب الوجوب الجامع بين الوجوب النفسي والغيري بأن يقال: إنّ البقيّـة كانت واجبـة بالوجوب الغيري في حال وجوب الكلّ بالوجوب النفسي، وقد علم بارتفاع ذلك الوجوب عند تعذّر بعض الأجزاء أو الشرائط للعلم بارتفاع وجوب الكلّ، ولكن شكّ في حدوث الوجوب النفسي بالنسبـة إلى البقيّـة مقارناً لزوال الوجوب الغيري عنها، فيقال: إنّ الجامع بين الوجوبين كان متيقّناً والآن يشكّ في ارتفاعـه بعد ارتفاع بعض مصاديقـه، فهو من قبيل القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي.
ويمكن أن يقرّر هذا الوجه بنحو آخر، وهو أنّ البقيّة كانت واجبة بالوجوب النفسي الضمني، وقد علم بارتفاعه، وشكّ في حدوث الوجوبالنفسيالاستقلالي، فأصل الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي كان متيقّناً، والآن شكّ في ارتفاعه بعد ارتفاع بعض مصاديقه لأجل احتمال حدوث مصداق آخر، هذا.
ويرد على هـذا الوجـه مضافاً إلى منع كون الأجـزاء واجبـة بالوجـوب الغيري أو النفسي الضمني، بل قد عرفت(1) أنّها واجبـة بعين وجوب الكلّ.
- 1 ـ تقدّم في الصفحـة 176 ـ 178.
(الصفحة 280)
أوّلا: أنّـه يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون المستصحب إمّا حكماً مجعولا شرعاً، وإمّا موضوعاً ذا أثر شرعي، والجامع بين الوجوب النفسي والغيري وكذا بين الضمني والاستقلالي لا يكون شيئاً منهما، أمّا عدم كونـه موضوعاً ذا أثر شرعي فواضح، وأمّا عدم كونـه حكماً مجعولا، فلأنّ الحكم المجعول هو كلّ واحد من الوجوبين.
وبعبارة اُخرى: المجعول هو حقيقـة الوجوب، وهي ما يكون بالحمل الشائع وجوباً، وأمّا الجامع فهو يكون أمراً انتزاعيّاً غير مجعول، والعقل بعد ملاحظـة حكم الشارع بوجوب فعل وكذا حكمـه بوجوب فعل آخر ينتزع عنهما أمراً مشتركاً جامعاً من دون أن يكون ذلك الأمر الانتزاعي مجعولا، بل لا يعقل الجامع بين الوجوبين لو اُفيد الوجوب بمثل هيئـة «افعل» التي يكون الموضوع لـه فيها خاصّاً، كما هو الشأن في جميع الحروف على ما حقّقناه في مبحث الألفاظ(1). وبالجملـة: لا مجال لاستصحاب الجامع أصلا.
وثانياً: أنّـه لو قطع النظر عن ذلك نقول: إنّ ما ذكر إنّما يتمّ لو كان مجموع البقيّـة متعلّقاً للوجـوب الغيري فيقال: إنّـه كان واجباً بـه، وشكّ بعد ارتفاعـه في حـدوث الوجـوب النفسي لها، مـع أنّـه ممنوع جدّاً، ضرورة أنّ الوجـوب الغيري إنّما هو بملاك المقدّميّـة، والموصوف بهذا الوصف إنّما هو كلّ واحد من الأجزاء لا المجموع بعنوانـه فالوجوب الغيري إنّما تعلّق بكلّ واحد من الأجزاء الغير المتعذّرة، والمدّعى إنّما هو إثبات وجوب نفسي واحد متعلّق بمجموع البقيّـة.
(الصفحة 281)
وبعبارة اُخرى: القضيّـة المشكوكـة هو وجوب واحد متعلّق بالباقي المقدور، والقضيـة المتيقّنـة هي الوجوبات المتعدّدة المتعلّق كلّ واحد منها بكلّ واحد من الأجزاء، فلا تتّحدان.
الثاني:
استصحاب الوجوب النفسي الاستقلالي المتعلّق بالمركّب، وتعذّر بعض أجزائـه أو شرائطـه لا يضرّ بعد ثبوت المسامحـة العرفيّـة في موضوع الاستصحاب، كما لو فرض أنّ زيداً كان واجب الإكرام، ثمّ شكّ في وجوب إكرامـه بعد تغيّره بمثل قطع اليد أو الرجل مثلا، فإنّـه لا إشكال في جريان هذا الاستصحاب، لبقاء الشخصيـة وعدم ارتفاعها بمثل ذلك التغيّر، وكما في استصحاب الكرّيـة.
ويرد عليـه أوّلا: أنّ قياس العناوين الكلّيـة بالموجـودات الخارجيـة قياس مع الفارق، لأنّ تغيّر الحالات وتبدّل الخصوصيّات في الخارجيّات لا يوجب اختلاف الشخصيّـة وارتفاع الهذيّـة. وهذا بخلاف العناوين الكلّيـة، فإنّ الاختلاف بينها يتحقّق بمجرّد اختلافها ولو في بعض القيود، فإنّ عنوان الإنسان الأبيض ـ مثلا ـ مغاير لعنوان الإنسان الغير الأبيض، وكـذا الإنسان العالـم بالنسبـة إلى الإنسان الغيـر العالـم، فـإذا كان مـن يجب إكـرامـه هـو الإنسان العالـم ـ مثلا ـ فاستصحـاب وجـوب إكرامـه لا يفيد وجـوب إكـرام الإنسان الغير العالم أيضاً، كما هو أوضح من أن يخفى.
وحينئذ نقول: إنّ الواجب في المقام هي الصلاة المتقيّدة بالسورة مثلا، والمفروض سقوط هذا الوجوب بمجرّد عروض التعذّر بالنسبـة إلى السورة، والصلاة الخاليـة عنها عنوان آخر مغاير للصلاة مع السورة، فالقضيّـة المتيقّنـة والمشكوكـة متغايرتان.