(الصفحة 282)
وثانياً: أنّ تبدّل الحالات إنّما لا يضرّ بجريان الاستصحاب إذا كان الحكم متعلّقاً بعنوان شكّ في مدخليّـة ذلك العنوان بقاءً، كما أنّـه دخيل فيـه حدوثاً. وبعبارة اُخرى شكّ في كونـه واسطـة في العروض أو واسطـة في الثبوت، نظير الحكم على الماء المتغيّر بالنجاسـة، فإنّ منشأ الشكّ في بقاء النجاسـة بعد زوال التغيّر إنّما هو الشكّ في كون عنوان التغيّر هل لـه دخل فيـه حدوثاً وبقاءً أو حدوثاً فقط. وأمّا إذا علم مدخليّـة العنوان في الحكم مطلقاً فلا معنى لجريان الاستصحاب، والمقام من هذا القبيل، ضرورة أنّا نعلم بمدخليـة السورة المتعذّرة ـ مثلا ـ في الأمر المتعلّق بالمركّب، وإلاّ لا تكون جزءً لـه، ففرض الجزئيّـة الراجعـة إلى كونـه مقوّماً للمركّب بحيث لا يتحقّق بدونـه لا يجتمع مع الشكّ في مدخليّتـه فيـه وأنّ شخص ذلك الأمر المتعلّق بالمركّب هل هو باق أو مرتفع، ضرورة ارتفاع ذلك الشخص بمجرّد نقصان الجزء الراجع إلى عدم تحقّق المركّب، كما هو غير خفي.
الثالث:
استصحاب الوجوب النفسي الشخصي، بتقريب أنّ البقيّـة كانت واجبة بالوجوب النفسي لانبساط الوجـوب المتعلّق بالمركّب على جميع أجزائـه، فإذا زال الانبساط عن الجزء المتعذّر بسبب التعذّر يشكّ في ارتفاع الوجوب عن باقي الأجزاء، فيستصحب ويحكم ببقائـه كما كان من انبساط الوجوب عليـه.
ويرد عليـه أوّلا: أنّ دعوى الانبساط في الأمر المتعلّق بالمركّب ممّا لا وجـه لها بعد كون الإرادة أمراً بسيطاً غير قابل للتجزئـة، وكون المركّب أيضاً ملحوظاً شيئاً واحداً وأمراً فارداً، لما عرفت سابقاً من أنّـه عبارة عن ملاحظـة الأشياء المتعدّدة والحقائق المتكثّرة شيئاً واحداً بحيث كانت الأجزاء فانيـة فيـه
(الصفحة 283)
غير ملحوظـة، فتعلّق الإرادة بـه إنّما هو كتعلّقها بأمر بسيط، ولا معنى لانبساطها عليـه، وهكذا الكلام في الوجوب والبعث الناشئ من الإرادة، فإنّـه أيضاً أمر بسيط لا يقبل التكثّر والتعدّد.
وثانياً: أنّـه على فرض تسليم الانبساط نقول: إنّ ذلك متفرّع على تعلّق الوجوب بالمجموع المركّب، ضرورة أنّـه نشأ من الأمر المتعلّق بالمجموع، وبعد زوالـه يقيناً، كما هو المفروض لا معنى لبقائـه منبسطاً على الباقي، فالقضيّـة المتيقّنـة قد زالت في الزمان اللاحق قطعاً، فلا مجال حينئذ للاستصحاب.
فانقدح من جميع ما ذكرنا: أنّ التمسّك بالاستصحاب لا يتمّ على شيء من تقريراتـه المتقدّمـة.
التمسّك بقاعدة الميسور لإثبات وجوب باقي الأجزاء
ثمّ إنّه قد يتمسّك لإثبات وجوب الباقي أيضاً بقاعدة الميسور التي يدلّ عليها النبوي المعروف:
«إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»، والعلويانالمعروفان:
«ما لا يدرك كلّـه لا يترك كلّـه»(1)، و
«الميسور لا يسقط بالمعسور»(2).
وقد اشتهر التمسّك بها في ألسنـة المتأخّرين ولم يعلم ذكرها في كلمات المتقدّمين، فما ادّعي من أنّ شهرتها تغني عن التكلّم في سندها، غفلةٌ عن أنّ الشهرة الجابـرة لضعف الروايـة هـي الشهرة بين القدماء مـن الأصحاب وهـي مفقودة في المقام.
- 1 ـ عوالي اللآلي 4: 58 / 207.
- 2 ـ عوالي اللآلي 4: 58 / 205، وفيـه: «لايترك الميسور بالمعسور».
(الصفحة 284)الكلام في مفاد النبوي
وكيف كان فقد روى النبوي مرسلا في الكفايـة(1) مصدّراً بهذا الصدر وهو: أنّـه خطب رسولاللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
«إنّ اللّه كتب عليكم الحجّ» فقام عكاشـة ـ ويروى سراقـة بن مالك ـ فقال: في كلّ عام يا رسولاللّه؟ فأعرض عنـه حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال:
«ويحك وما يؤمنك أن أقول: نعم، واللّه لو قلت: نعم لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولو تركتم، لكفرتم فاتركوني ما تركتم وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منـه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»(2)، هذا.
وقد رواه في محكي العوالي من دون هذا الصدر(3)، كما أنّـه قد روى الصدر من دون هذا القول مع اختلاف يسير.
وكيف كان: فالكلام قد يقع فيها مع قطع النظر عن هذا الصدر، وقد يقع مع ملاحظتـه.
أمّا الأوّل: فالظاهر أنّ المراد بكلمـة «الشيء» ما هو معناها الظاهر الذي هو أعمّ من الطبيعـة التي لها أفراد ومصاديق ومن الطبيعـة المركّبـة من الأجزاء. كما أنّ الأظهر أن تكون كلمـة «من» بمعنى التبعيض، وهذا لا ينافي أعمّيـة معنى
- 1 ـ كفاية الاُصول: 421.
- 2 ـ مجمع البيان 3: 386، بحار الأنوار 22: 31، صحيح مسلم 3: 149 / 1337، سنن النسائي 5: 110.
- 3 ـ عوالي اللآلي 4: 58 / 206.
(الصفحة 285)
«الشيء» بدعوى أنّ التبعيض ظاهر في الطبيعـة المركّبـة، فإنّا نمنع أن تكون كلمـة «من» مرادفاً للتبعيض بحيث تستعمل مكانـه، بل الظاهر أنّ معناها هو الذي يعبَّر عنـه بالفارسيـة بـ(از).
نعم لا مجال للإشكال في اعتبار نحو من الاقتطاع في معناها، ولكن ذلك لا ينافي صحّـة استعمالها في الطبيعـة بالنسبـة إلى الأفراد والمصاديق، فإنّها بنظر العرف كأنّها جزء من الطبيعـة منشعبٌ منها، كما لايخفى.
وأمّا كلمـة «ما» فاستعمالها موصولـة وإن كان شائعاً بل أكثر، إلاّ أنّ الظاهر كونها في المقام زمانيّـة، ولكن ذلك بملاحظـة الصدر، كما أنّ بملاحظتـه يكون الظاهر من كلمـة «الشيء» هو الأفراد لا الأجزاء، لأنّ الظاهر أنّ إعراضـه عن عكاشـة أو سراقـة إنّما هو لأجل أنّ مقتضى حكم العقل لزوم الإتيان بالطبيعـة المأمور بها مرّة واحدة لحصولها بفرد واحد، وحينئذ فلا مجال معـه للسؤال أصلا.
وحينئـذ فقـولـه:
«إذا أمـرتكم بشـيء فأتـوا منـه مـا استطعتـم» بيـان لهـذه القاعـدة العقليّـة ومـرجعـه إلـى أنّـه إذا أمـرتكم بطبيعـة ذات أفـراد فـأتـوا منهـا زمـان استطاعتكم، ولا تكون كلمـة «ما» موصـولـة حتّى يكـون الحديث بصدد إيجاب جميع المصاديق التي هي مـورد للاستطاعـة والقـدرة، كمـا لا يخفى.
وبالجملـة: فسياق الحديث يشهد بأنّ قولـه:
«إذا أمرتكم...» إلى آخره، لا يدلّ على أزيد ممّا يستفاد من نفس الأمر بطبيعـة ذات أفراد، وهو لزوم إيجادها في الخارج المتحقّق بإيجاد فرد واحد منها، ولا يستفاد منـه لزوم الإتيان بالمقدار المستطاع من أفراد الطبيعـة حتّى يكون ذلك لأجل السؤال عن وجوبـه في كلّ
(الصفحة 286)
عام فأثّر السؤال في هذا الإيجاب الذي هو خلاف ما تقتضيـه القاعدة العقليّـة.
وممّا ذكرنا ظهر اختصاص هذا القول بالطبيعـة ذات الأفراد والمصاديق، فلا مجال للاستدلال بـه للمقام.
وظهر أيضاً اندفاع توهّم أنّ المورد وإن كان هي الطبيعـة ذات الأفراد، إلاّ أنّـه لا مانع من كون مفاد القاعدة أعمّ منها ومن الطبيعـة المركّبـة، لأنّ ذلك يتمّ فيما لم يكـن المورد قرينـة لما يستفاد مـن القاعدة كما في المقام، حيث عرفت أنّ الظاهـر منها بيان لما هـو مقتضى حكم العقل ولا تكون بصدد إفادة مطلب آخـر أصلا.
ثمّ لو قطع النظر عن ذلك فدفعـه بأنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب يمنع عن الظهور في الإطلاق، لا يتمّ بعدما حقّقنا في مبحث المطلق والمقيّد من عدم اشتراط ظهور المطلق في الإطلاق بعدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب فراجع(1). هذا كلّـه في النبوي.
الكلام في مفاد العلوي الأوّل
وأمّا قولـه (عليه السلام) في العلوي:
«الميسور لا يسقط بالمعسور» فيجري في مفادها احتمالات:
منها: أن يكـون المراد أنّ نفس الميسور لا يسقط عـن عهـدة المكلّف بسبب المعسور.
ومنها: أنّ الميسور لا يسقط حكمـه والطلب المتعلّق بـه بالمعسور.
- 1 ـ تقدّم في الجزء الأوّل: 352.