(الصفحة 334)
بأنّ مساعدة العرف على الجمع والتوفيق وارتكازه في أذهانهم على وجـه وثيق لا يوجب اختصاص السؤالات بغير موارد الجمع، لصحّـة السؤال بملاحظـة التحيّر في الحال، لأجل ما يتراءى من المعارضـة وإن كان يزول عرفاً بحسب المآل، أو للتحيّر في الحكم واقعاً وإن لم يتحيّر فيـه ظاهراً، وهو كاف في صحّتـه قطعاً، مع إمكان أن يكون لاحتمال الردع شرعاً عن هذه الطريقـة المتعارفـة بين أبناء المحـاورة، وجـلّ العناويـن المأخـوذة فـي الأسئلـة لـولا كلّها يعمّها، كما لايخفى(1).
وقال في الثاني
ما يقرب من ذلك، حيث ذكر: أنّ المرتكزات العرفيّـة لا يلزم أن تكون مشروحـة ومفصّلـة عند كلّ أحد حتّى يرى السائل في هذه الأخبار عدم احتياجـه إلى السؤال عن حكم العامّ والخاصّ المنفصل وأمثالـه، إذ ربّ نزاع بين العلماء يقع في الأحكام العرفيّـة، مع أنّهم من أهل العرف، سلّمنا التفات كلّ الناس إلى هذا الحكم حتّى لا يحتمل عدم التفات السائلين في تلك الأخبار، فمن الممكن السؤال أيضاً، لاحتمال عدم إمضاء الشارع هذه الطريقـة، وعلى هذا يجب أن يؤخذ بإطلاق الأخبار.
وقد أيّد ما أفاده بروايتين:
إحداهما: ما ورد في روايـة الحميري عن الحجّـة ـ صلوات اللّه وسلامـه عليـه ـ من قولـه (عليه السلام) في جواب مكاتبتـه:
«في ذلك حديثان، أمّا أحدهما: فإذا انتقل من حالـة إلى اُخرى فعليـه التكبير، وأمّا الآخر: فإنّـه روي أنّـه إذا رفع رأسـه من السجدة الثانيـة وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليـه في القيام بعد
(الصفحة 335)
القعود تكبير، وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً»(1)، فإنّـه (عليه السلام) أمر بجواز الأخذ بكلّ من الخبرين، مع أنّ الثاني أخصّ مطلقاً من الأوّل.
ثانيتهما: روايـة علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب لعبد اللّه بن محمّد إلى أبيالحسن (عليه السلام): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبيعبداللّه (عليه السلام) في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم: صلّها في المحمل. وروى بعضهم: لا تصلّها إلاّ على الأرض؟
فوقّع (عليه السلام):
«موسّع عليك بأيّـة عملت»(2). فإنّـه (عليه السلام) أمر بجواز الأخذ لكلّ من الخبرين، مع أنّهما من قبيل النصّ والظاهر، لأنّ الاُولى نصّ في الجواز، والثانيـة ظاهرة في عدمـه، لإمكان حملها على أنّ إيقاعها على الأرض أفضل، مع أنّـه (عليه السلام)أمر بالتخيـير(3)، انتهى.
ويرد عليهما:
أنّ التحيّر الابتدائي الزائـل بمجرّد التأمّل والتوجّـه الثانوي لا يوجب السؤال عن حكم العامّ والخاصّ، خصوصاً بعد عدم كون السؤال عن خصوص مورد تكون النسبـة فيـه بين الدليلين الواردين فيـه العموم والخصوص، بل كان السؤال عن مطلق الخبرين المتعارضين المنصرف هذا العنوان إلى ما يكون متعارضاً عند عامّـة الناس وعرف أهل السوق.
- 1 ـ الاحتجاج 2: 596، وسائل الشيعـة 27: 121، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث39.
- 2 ـ تهذيب الأحكام: 3: 228 / 583، وسائل الشيعـة 27: 122، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث44.
- 3 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 679 ـ 680.
(الصفحة 336)
وبالجملـة: لا يكون مورد السؤال هو خصوص مصداق من مصاديق العامّ والخاصّ حتّى يوجّـه بأنّ المرتكزات العرفيّـة لا يلزم أن تكون مشروحـة ومفصّلـة عند كل أحد... إلى آخره، بل مورده هو كلّ مورد يصدق عليـه عنوان المتعارضين أو المختلفين، ولابدّ من حمل ذلك على ما يراه العرف كذلك. ومن المعلوم كما اعترفا بـه أنّ العامّ والخاصّ لا يكون عند العرف كذلك.
وأمّا السؤال بملاحظـة التحيّر في الحكم الواقعي فهو وإن كان أمراً معقولا، إلاّ أنّـه إنّما يمكن فيما إذا كان مورد السؤال هو خصوص مورد يكون تعارض دليليـه من هذا القبيل.
وأمّا السؤال عن الحكم الواقعي في جميع الموارد التي تكون كذلك فلا وجـه لـه، كما أنّـه لا يمكن الجواب عنـه بما في الروايات العلاجيّـة، كما هو واضح، لأنّـه لا يعقل بيان الحكم الواقعي في جميع الموارد بمثل ذلك.
وأمّا السؤال عن ذلك لاحتمال ردع الشارع عن الطريقـة المستمرّة بين العقلاء الثابتـة عندهم، فهو وإن كان سؤالا تامّاً، إلاّ أنّـه يغاير السؤال الواقع في تلك الروايات، فإنّـه ليس في شيء منها الإشعار فضلا عن الدلالـة بأنّ المسؤول عنـه هو الردع أو عدمـه، كما أنّ الروايتين اللتين أيّد بهما المحقّق الحائري ما أفاده لا ارتباط لهما بالمقام.
أمّا الروايـة الاُولى، فمضافاً إلى ضعف سندها، لأنّـه لم يثبت لنا إلى الحال حال مكاتبات الحميري، نقول: لو كان موردها من مصاديق المتعارضين لما كان الجواب بأنّ كلاّ منهما صواب، بصواب; فإنّـه لا يعقل أن يكون كلّ من المتعارضين مطابقاً للواقع ومنطبقاً عليـه عنوان الصواب، فالحكم بجواز الأخذ بكلّ منهما الراجع إلى أنّ المكلّف مختار في الفعل والترك إنّما هو لأجل عدم
(الصفحة 337)
وجوب التكبير عند القيام بعد القعود من السجدة الثانيـة، وكذلك التشهّد الأوّل، فمرجعـه إلى ترجيح الخاصّ على العامّ، فليس فيها دلالـة على التخيـير بين العامّ والخاصّ لأجل كونهما من مصاديق المتعارضين.
وأمّا الروايـة الثانيـة فهي أيضاً لا تؤيّد ما رامـه، لأنّ الحكم بالتوسعـة في العمل بأيّـتهما، مرجعـه إلى التخيـير في مقام العمل بين صلاة الركعتين في المحمل وبينها على الأرض، والتخيـير في مقام العمل معناه نفي لزوم صلاتهما على الأرض، وهو يرجع إلى ترجيح النصّ على الظاهر، فلا دلالـة فيها على التخيـير بين العامّ والخاصّ لأجل كونهما من المتعارضين.
هذا مضافاً إلى أنّ الروايتين موهونتان من جهـة أنّ السؤال عن الحكم الواقعي لا يلائمـه الجواب بمثل ما ذكر فيهما، لأنّـه لا يكون مورد السؤال هو مطلق الخبرين المتعارضين حتّى يلائمـه الجواب بالتخيـير، كما لايخفى.
فانقدح من جميع ما ذكرنا عدم كون العامّ والخاصّ مشمولا لأخبار العلاج وفاقاً للمشهور.
(الصفحة 338)
الفصل الثالث
في القاعدة المشهورة وهي:
أنّ ا لجمع بين ا لدليلين مهما أمكن أولى من ا لطرح
وظاهرها الإطلاق من حيث وجود المرجّح وعدمـه، فيكون الجمع مع وجـود المرجّح أولى من الترجيح ومع التعادل أولى من التخيـير، وقد ادّعي عليها الإجماع.
قال الشيخ ابن أبيجمهور الإحسائي في محكي عوالي اللآلي: إنّ كلّ حديثين ظاهرهما التعارض يجب عليك أوّلا البحث عن معناهما وكيفيّـة دلالـة ألفاظهما، فإن أمكنك التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات فأحرص عليـه واجتهد في تحصيلـه، فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيلـه بإجماع العلماء، فإذا لم تـتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجـه فارجع إلى العمل بهذا الحديث(1)، انتهى.
وأشار بهذا إلى مقبولـة عمر بن حنظلـة(2). هذا، ولكن الظاهر أنّ مـراده مـن الجمع بين الدليلين هو الجمع العقلائي في الموارد التي لا تكون الأدلّـة فيها متعارضـة كالعامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما: دعواه الإجماع على ذلك، مع أنّـه لا إجماع في غير تلك الموارد
- 1 ـ عوالي اللآلي 4: 136.
- 2 ـ الكافي: 1: 54 / 10، وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب9، الحديث1.