(الصفحة 344)
مثلا لو كان مفاد أحد الدليلين وجوب إكرام العلماء، وكان مفاد الآخر حرمـة إكرام الفسّاق، وعلم من حال الآمر أنّـه يبغض العالم الفاسق ويكرهـه أشدّ كراهـة من الفاسق الغير العالم، فالعالم الفاسق متيقّن الاندراج في عموم قولـه: «لا تكرم الفسّاق» ويكون بمنزلـة التصريح بحرمـة إكرام العالم الفاسق، فلابدّ من تخصيص قولـه: «أكرم العلماء» بماعدا الفسّاق منهم(1)، انتهى.
ويرد عليـه:
أوّلا: أنّ القدر المتيقّن الذي يوجب أن يكون الـدليل نصّاً بالنسبـة إليـه هـو ما يوجب الانصراف، وليس لـه فردان، فرد موجب للانصراف، وفرد غير موجب لـه ومع وجود الانصراف لا تعارض بين الدليلين أصلا، بل يصيران من قبيل العـامّ والخـاصّ المطلـق الـذي عـرفت(2) أنّـه لا يصـدق عليهمـا عنـوان التعارض أصلا.
وثانياً: أنّـه على تقدير تسليم كون القدر المتيقّن مطلقاً موجباً لصيرورة الدليل نصّاً بالنسبـة إليـه نقول: تخصيص ذلك بخصوص ما إذا كان هنا قـدر متيقّن في مقام التخاطب لا وجـه لـه، فإنّ النصوصيّـة على تقديرها ثابتـة بالنسبـة إلـى مطلـق القـدر المتيقّن، سـواء كان فـي مقام التخـاطب أو في غيـر هـذا المقام.
وثالثاً ـ وهو العمدة في الجواب ـ: أنّ المراد بالقدر المتيقّن إن كان هو المقدار الذي علم حكمـه بحيث لم يكن في الحكم المتعلّق بـه ريب ولا شبهـة،
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 728.
- 2 ـ تقدّم في الصفحـة 319 ـ 321.
(الصفحة 345)
مثلا علم في المثال أنّ العالم الفاسق محرّم الإكرام، فمع وجود هذا العلم يتحقّق الانصراف بالنسبـة إلى الدليل الآخر الدالّ بظاهره على وجوب إكرام العلماء عموماً، فإنّـه مع العلم بعدم وجوب إكرام العالم الفاسق بل حرمتـه كيف يبقى شكّ في مقدار دلالـة ذلك الدليل وإن كان ظاهره العموم؟
وإن كان المراد بـه أنّ ذلك المقدار متيقّن على تقدير ثبوت الحكم بالنسبـة إلى غيره، مثلا لو كان الجاهل الفاسق محرّم الإكرام لكان العالم الفاسق كذلك قطعاً بحيث كان المعلوم هو الملازمـة بين الأمرين، بل ثبوت الحكم في القدر المتيقّن بطريق أولى، فمن المعلوم أنّ ذلك لا يوجب كون الدليل الظاهر في حرمـة إكرام مطلق الفسّاق نصّاً بالنسبـة إلى العالم الفاسق، بل غايتـه عدم إمكان التفكيك وإدراج مورد الاجتماع في الدليل الآخر، وأمّا تقديمـه على ذلك الدليل فلا، فلِمَ لا يعمل معهما معاملـة المتعارضين؟
وبعبارة اُخرى: اللازم ممّا ذكر عدم جواز تقديم الدليل الآخر على هذا الدليل، لاستلزام التقديم الانفكاك الذي يكون معلوم الخلاف، وأمّا لزوم تقديم هذا الدليل والحكم بحرمـة إكرام جميع الفسّاق لأجل ما ذكر فلا دليل عليـه، بل يمكن معهما معاملـة المتعارضين، لأنّها أيضاً لا يوجب الانفكاك، فتدبّر جيّداً.
لزوم استهجان التخـصيص
ومنها:
ما إذا كانت أفراد أحد من العامّين من وجـه بمرتبـة من القلّـة بحيث لو خصّص بماعدا مورد الاجتماع مع العامّ الآخر يلزم التخصيص المستهجن، فيجمع بين الدليلين بتخصيص ما لا يلزم منـه التخصيص المستهجن وإبقاء ما يلزم
(الصفحة 346)
منـه ذلك على حالـه، لأنّ العامّ يكون نصّاً في المقدار الذي يلزم من خروجـه عنـه التخصيص المستهجن، ولا عبرة بقلّـة أحد أفراد العامين وكثرتها، بل العبرة باستلزام التخصيص المستهجن(1)، انتهى.
ويرد عليـه ـ مضافاً إلى أنّ النصوصيّـة إنّما هي من حالات الدلالـة، واستلزام التخصيص للاستهجان لا يغيّر حال الدلالـة أصلا، كما لايخفى ـ أنّ استلزام تقديم العامّ الآخر للتخصيص المستهجن إنّما يمنع عن التقديم، ولا يوجب تقديم ما يلزم من تخصيصـه ذلك، فيمكن المعاملـة معهما معاملـة المتعارضين.
وبالجملـة: الدليل لا ينطبق على المدّعى، فإنّ المدّعى هو تقديم ما يلزم من تخصيصـه الاستهجان، والدليل لا يدلّ إلاّ على المنع من تقديم العامّ الآخر الذي لايوجب تخصيصـه ذلك.
ورود أحد الدليلين مورد التحديدات والأوزان والمقادير
ومنها:
ما إذا كان أحد الدليلين وارداً مورد التحديدات والأوزان والمقادير والمسافـة ونحو ذلك، فإنّ وروده في هذه الموارد يوجب قوّة الظهور في المدلول بحيث يلحقـه بالنصّ، فيقدّم على غيره عند التعارض(2)، انتهى.
ويرد عليـه: أنّ الورود في تلك الموارد لا يقتضي ذلك، فإنّ التحديدات والمقادير والأوزان الواقعـة في لسان الشارع لا يراد بها إلاّ العرفي منها لا العقلي الدقيق، والمراد من العرفي ليس المتسامحي منـه بحيث كان التشخيص بيد
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 728.
- 2 ـ نفس المصدر.
(الصفحة 347)
العرف المتسامح، بل المراد بـه هو العرفي الدقيق، ولا محالـة يكون متسامحيّاً عند العقل، وقد ذكرنا هذا المطلب مراراً.
لزوم إخراج المورد
ومنها:
ما إذا كان أحد العامّين من وجـه وارداً في مورد الاجتماع مـع العامّ الآخـر، كما إذا ورد قولـه: «كـلّ مسكر حـرام» جواباً عـن سؤال حكم الخمر، وورد أيضاً ابتداءً قولـه: «لابأس بالماء المتّخذ من التمر» فإنّ النسبـة بين الدليلين وإن كانت هي العموم من وجـه، إلاّ أنّـه لا يمكن تخصيص قولـه: «كلّ مسكر حرام» بماعدا الخمـر، فإنّـه لا يجـوز إخـراج المورد، لأنّ الـدليل يكون نصّاً فيـه، فلابدّ من تخصيص قولـه: «لابأس بالماء المتّخذ من التمر» بماعدا الخمر(1)، انتهى.
وهذا إنّما يتمّ فيما لو كانت النسبـة بين المورد والدليل الآخر العموم والخصوص مطلقاً كما في المثال، حيث إنّ النسبـة بين الخمر وبين قولـه: «لابأس بالماء المتّخذ من التمر» هو العموم المطلق، بناءً على إطلاق لفظ الخمر على المسكر من الماء المتّخذ من التمر، كما هو المفروض، ضرورة أنّـه بدونـه لا تعارض بين الدليلين.
وأمّا لو كانت النسبـة بين المورد والدليل الآخر هو العموم من وجـه فلاوجـه لهذا التقديم، كما هو غير خفي. هذا كلّـه في الموارد المندرجـة في النصّ والظاهر.
- 1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 729.
(الصفحة 348)
الموارد التي ادّعي اندراجها في الأظهر والظاهر
وأمّا الموارد التي ادّعي اندراجها في الأظهر والظاهر:
تعارض العموم والإطلاق
فمنها: ما إذا تعارض العامّ الاُصولي والمطلق الشمولي على اصطلاحهم، ودار الأمر بين تقيـيد المطلق وتخصيص العامّ كقولـه: «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفاسق». فالشيخ (قدس سره)
ذهب في الرسائل إلى ترجيح التقيـيد على التخصيص(1)، وتبعـه علـى ذلـك المحقّـق النائيني (قدس سره)
(2) ولكنّـه خـالف فـي ذلـك المحقّـق الخراساني(3) وتبعـه المحقّق الحائري(4).
ومحصّل ما أفاده المحقّقان الأوّلان يرجع إلى أنّ شمول العامّ لمورد الاجتماع أظهر من شمول المطلق لـه، لأنّ شمول العامّ لمادّة الاجتماع يكون بالوضع، وشمول المطلـق يكون بمقدّمات الحكمـة، ومـن جملتها عدم ورود مـا يصلح أن يكون بياناً للقيد، والعامّ الاُصولي يصلح لأن يكون بياناً لذلك، فلا تـتمّ مقدّمات الحكمـة في المطلق الشمولي، فلابدّ من تقديم العامّ عليـه.
أقول: لابدّ أوّلا من بيان أنّ محلّ النزاع ممحّض في ما إذا كان التعارض بين
- 1 ـ فرائد الاُصول 2: 792.
- 2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 729 ـ 730.
- 3 ـ كفايـة الاُصول: 513.
- 4 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 680.